توطئة :
جاء في (موسوعة أحاديث أهل البيت ج4) عن أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) شكواه (( … وَ اللَّهِ لَقَدْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ لَا يَجْتَمِعُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا فِي فَرِيضَةٍ ، وَ أَعْلَمْتُهُمْ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي النَّوَافِلِ بِدْعَةٌ ، فَتَنَادَى بَعْضُ أَهْلِ عَسْكَرِي مِمَّنْ يُقَاتِلُ مَعِي يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ غُيِّرَتْ سُنَّةُ عُمَرَ ، يَنْهَانَا عَنِ الصَّلَاةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَطَوُّعاً ، وَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَثُورُوا فِي نَاحِيَةِ جَانِبِ عَسْكَرِي ، مَا لَقِيتُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الْفُرْقَةِ وَ طَاعَةِ أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَ الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ … )) .
وروى (ابن أبي الحديد المعتزلي) في (شرح نهج البلاغة ج12) ما نصه (( قد روى أن أمير المؤمنين -عليه السلام- لما اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصّب لهم إماماً يصلى بهم نافلة شهر رمضان (التراويح) ، زجرهم وعرّفهم أن ذلك خلاف السنة , فتركوه واجتمعوا لأنفسهم وقدّموا بعضهم , فبعث إليهم ابنه الحسن -عليه السلام- فدخل عليهم المسجد ومعه الدرة , فلما رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا .. )) .
ونقل (الكليني) في (الكافي ج1) عن (محمد بن علي الباقر) ما نصه (( من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم )) . وفي (اختيار معرفة الرجال) نقل (الطوسي) قول (جعفر بن محمد الصادق) بما نصه (( فإنّ مع كلِّ قول منّا حقيقة وعليه نوراً ، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان )) .
إن اصباغ الممارسات العامّية بصبغة الدين أمر منقوض علميا . لأن عنوان الدين يشمل الاعتقاد والممارسة ، فإذا كانت الممارسة تفتقر إلى الاعتقاد لا تكون سوى العبث ، الذي هو محض الجنون ، ولا ينبغي للإنسان العاقل مناقشة الجنون ، فضلاً عن الباحث . أما إذا كانت الممارسة تستند إلى الاعتقاد ، فهو إما اعتقاد صحيح ، وعندها تنتمي الممارسة إلى الدين الحقيقي الشرعي ، وإما اعتقاد خاطئ ، فتنتمي الممارسة حينها الى دين وضعي منحرف ، نهت عنه الأديان السماوية ، وبالتالي لا يجوز تشريعه بأي صورة كانت .
والقول – من الباحث- أن الدين الحقيقي يدخل في كل نشاط انساني لا يبقي للممارسة الشعبية -التي لا تستند إليه- سوى أنها بدعة .
فمن حيث الارتباط بالدين هناك واقعان ، ما فيه نص ، أمر به أو نهي عنه ، وما هو مباح ، وبالتالي فكل ممارسة تخضع لتوثيق ديني حقيقي ، ولا يتسنى تركها للعوام . والقول بغير ذلك ، أو تشريع أية ممارسة خارج نطاق الدين الحقيقي فتوى ، وعلى القائل بها تحمّل وزرها أمام الخالق .
وقد روى الشيخ (الطبرسي) في (الاحتجاج) ما نصه (( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله )) .
فيما لا يمكن الأخذ بتعريفات الباحثين الغربيين في المجال الديني وإسقاطها على الواقع الإسلامي ، لاختلاف الرؤية الفلسفية بصورة كبيرة ، كما أن الباحثين الأكاديميين العرب يكونون عادة تحت ضغط تنويع المصادر مائلين إلى الاستعانة بكتابات لا تفهم أبعاد التشريع الإسلامي .
ولا يمكن بأي حال القبول باتجاه الدين من الاسفل إلى الأعلى ، أي من الناس إلى الله ، لأنه سيكون ديناً وضعياً مرفوضاً حينها ، بل لابد للدين السماوي الصحيح أن يكون متجهاً من الاعلى إلى الأسفل .
فالشعائر والممارسات إما أن تكون من الله ، فتكون جزءاً من الدين الحقيقي . وإما أن تكون موروثة مشمولة بالآية (( واذا قيل لهم تعالوا الى ما انزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا اولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون )) ، والآية (( واذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا اولو كان الشيطان يدعوهم الى عذاب السعير )) . وإما تكون من الناس أنفسهم فتكون بدعة ، وقد نقل (البروجردي) في (جامع أحاديث الشيعة) عن الشيخ (المفيد) عن (منصور بن أبي يحيى) عن الإمام (جعفر بن محمد الصادق) ما نصه (( صعد رسول الله صلى الله عليه وآله المنبر ، فتغيرت وجنتاه ، والتمع لونه ، ثم اقبل (على الناس) بوجهه ، فقال : يا معشر المسلمين اني انما بعثت أنا والساعة كهاتين ، قال ثم ضم السباحتين (السبابتين) ، ثم قال : يا معشر المسلمين ان أفضل الهدى هدى محمد وخير الحديث كتاب الله وشر الأمور محدثاتها ألا وكل بدعة ضلالة الا وكل ضلالة ففي النار .. )) ، ونقل أيضاً عن الإمام (الصادق) في رسالته إلى أصحابه ما نصه (( أيتها العصابة الحافظ الله لهم امرهم عليكم بآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسنته وآثار الأئمة الهداة من اهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله من بعده وسنتهم ، فإنه من اخذ بذلك فقد اهتدى ، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضل ، لأنهم هم الذين امر الله بطاعتهم وولايتهم . وقد قال أبونا رسول الله صلى الله عليه وآله المداومة على العمل في اتباع الآثار والسنن -وان قل- أرضى لله وانفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتباع الأهواء الا ان اتباع الأهواء واتباع البدع بغير هدى من الله ضلال وكل ضلالة بدعة وكل بدعة في النار الخبر )) . ويعرّف السيد (جعفر مرتضى العاملي) البدعة بأنها ( هي إحداث أمر في الدين والشرع، لم يرد فيه نص بالخصوص أو العموم، أو ورد نهي عنه عموماً أو خصوصاً، سواء ابتدع الأمر نفسه، أو ابتدع خصوصيته، كأن يدّعي مثلاً استحباب سبعين تهليلة في ساعة كذا، أو في مكان كذا، فإن التهليل ليس بدعة، لكن الخصوصية هي التي ابتدعت ) .
نقد الخصائص:
إن التجلي والكرامات من تطبيقات الدين الحقيقي ، لا الدين الشعبي . (( فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون )) ، (( فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الايمن في البقعة المباركة من الشجرة ان يا موسى اني انا الله رب العالمين )) ، (( او كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال انى يحيي هذه الله بعد موتها فاماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما او بعض يوم قال بل لبثت مئة عام فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر الى حمارك ولنجعلك اية للناس وانظر الى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال اعلم ان الله على كل شيء قدير )) ، (( واذ قال ابراهيم رب ارني كيف تحيي الموتى قال اولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن ياتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم )) ، (( ومات أليشع فدفنوه. وكان غزاة موآب تدخل على الأرض عند دخول السنة * وفيما كانوا يدفنون رجلا إذا بهم قد رأوا الغزاة، فطرحوا الرجل في قبر أليشع، فلما نزل الرجل ومس عظام أليشع عاش وقام على رجليه – سفر الملوك ، الاصحاح الثالث عشر : ٢٠ – ٢١ )) .
فيما التصرف بمجريات الكون ورد فيه نصوص دينية حقيقية كثيرة ، حتى في الديانات السومرية القديمة . وهو أمر وكله الله إلى ملائكته ، ولا يبعد أن يوكله إلى أوليائه ، فقد نقل في كتاب (مشارق أنوار اليقين ص٢٢٥ ) قول السيد (الخميني) في ولاية الأئمة التكوينية ( فان للامام -عليه السلام- مقاما محمودا ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وان من ضروريات مذهبنا أن لائمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فان الرسول الأعظم -صلى الله عليه وآله- والأئمة -عليهم السلام- كانوا قبل هذا العالم أنوارا، فجعلهم الله بعرشه محدقين وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله ) .
فيما تكون الخصائص الوقائية ، كاستخدام الاحراز والأحجار وغيرها من الوسائل على قسمين ، اما أنها جاء بها نص ، فتكون من الدين الحقيقي ، وإما أنها بلا نص ، فتكون بدعة أمرها على من قال بها . وسر ذلك أن البشر في غالب الأزمان لا يعرفون الخصائص الفيزيائية ، أو الأبعاد الماورائية للأشياء والتصرفات ، فتكون أسرارها إلى خالقها ، يفيض معلوماتها عن طريق الوحي إلى أنبيائه ، وهم يعلمونها لأصحابهم ، وما خرج عن هذا الطريق لا يكون سوى محض مجازفة غير محسوبة . واذا كانت الاحجار ذات خصائص طبيعية قد تكون مؤثرة ، فما بال الأقوال ، التي عليها تعتمد الاحراز ، والتي هي محض كلام ؟ هنا يمكن الاستدلال بما صار للأقوال اليوم من قدرة تقنية على فتح الابواب الكهربائية ، وتشغيل الإنارة ، وفتح الستائر ، لذلك ليس يعرف سر ما تحركه تلك الأقوال -الحرزية الواردة بنص- في عالم الآخرة أو الدنيا غير المنظورة ، سوى الخالق ومن أفاض عليهم علم ذلك كله .
بينما ليس للطقوس السحرية سوى الحرب من قبل الأديان السماوية الحقيقية ، (( قال موسى اتقولون للحق لما جاءكم اسحر هذا ولا يفلح الساحرون )) ، (( فلما القوا قال موسى ما جئتم به السحر ان الله سيبطله ان الله لا يصلح عمل المفسدين )) .
ولم يترك الدين الحقيقي لخاصة الناس تأويل نصوصه ، فضلاً عن عوامهم ، فقد جاء في (مسند أحمد بن حنبل) عن (أبي سعيد الخدري) ما نصه (( كنا جلوسا ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج علينا من بعض بيوت نسائه ، قال فقمنا معه ، فانقطعت نعله ، فتخلف عليها علي يخصفها ، فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومضينا معه ، ثم قام ينتظره وقمنا معه ، فقال : إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله . فاستشرفنا ، وفينا أبو بكر وعمر ، فقال : لا ، ولكنه خاصف النعل . قال فجئنا نبشره ، قال وكأنه قد سمعه )) .
وكلما خضع الدين الحقيقي لتأويلات شعبوية ازداد مع الأيام صنمية وجهلا ، وحاشى لله أن يترك عباده للجهل وعبادة الأصنام . نقل (الصدوق) في (علل الشرايع) عن (جعفر بن محمد الصادق) ما نصه (( في قوله الله عز وجل «وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سوعا ولا يغوث ويعوق ونسرا» قال: كانوا يعبدون الله عز وجل فماتوا، فضج قومهم وشق ذلك عليهم ، فجاءهم إبليس -لعنه الله- فقال لهم: اتخذ لكم أصناما على صورهم ، فتنظرون إليهم ، وتأنسون بهم ، وتعبدون الله ، فأعد لهم أصناما على مثالهم ، فكانوا يعبدون الله -عز وجل- وينظرون إلى تلك الأصنام، فلما جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت ، فلم يزالوا يعبدون الله -عز وجل- حتى هلك ذلك القرن ، ونشأ أولادهم ، فقالوا: إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء ، فعبدوهم من دون الله -عز وجل- . فذلك قول الله تبارك وتعالى «ولا تذرن ودا ولا سواعا» الآية )) .
وبالتالي فالبشر مسؤولون فعلاً عن ابتداع تأويلاتهم ، لكن بنحو سلبي لا يجوز تشريعه ، أو دمجه مع الدين الحقيقي المقبول ، وعلى الناس المؤمنة محاربته .
فيما أن الأديان الحقيقية لا تعترف بالغنوصية ، أو الروحانية السلبية ، بل هي تقر بالزهد ، وتميل إلى العرفان . واذا تحول الزاهد إلى مستعرض لزهده بين الناس سمّاه الدين الحقيقي مرائيا. أما إذا قال العارف أنه عارف واباح اسرار كرامته عند الله فقد صبغة الإيمان ودخل عالم الرياء ، لأن العرفان الإسلامي هو تمام الاخلاق وكمالها .
الدين الشعبي رغبة:
أن القول بصرامة نصوص الدين الحقيقي الشرعي يستدعي أحد أمرين ، اما أن المشرّع قاسٍ يكلّف الخلق ما لا اطيق ، وحاشاه (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) ، وإما أن المتلقي راخٍ مفرّط ، وبالتالي عليه وزر ما ضيّع ، لا أن يشرعن أحد ما عمله . ومن ثم فالدين الحقيقي ذاته في متناول الجميع ، على درجات ومراتب ، كلها مقبولة عند الله ما دامت قد ورد في شرعيتها النص .
ولا يمكن أن يترك الله اللطيف خلقه بلا حجة ، أو قيادة ، لئلا تكون للناس الحجة (( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيما )) ، نقل (الكليني) في (الكافي ج١) عن (اسحاق بن عمار) عن (جعفر بن محمد الصادق) ما نصه (( قال: سمعته يقول: إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام، كيما إن زاد المؤمنون شيئا ردهم، وإن نقصوا شيئا أتمه لهم )) ، ونقل أيضاً (( إن الله لم يدع الأرض بغير عالم ، ولولا ذلك لم يعرف الحق من الباطل )) .
فالدين الشعبي ناشئ عن رغبات الناس وحدهم ، تحت تأثير نفوسهم ، وتسويل اوليائهم من الشياطين ، أو الساكتين عن تلك البدع ، (( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون )) .
الأسباب العامة والخاصة لقوة الدين الشعبي:
نقل (المجلسي) في (بحار الانوار ج١) عن (هشام) عن (جعفر بن محمد الصادق) ما نصه (( لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وعليك أثيب )) . وبالتالي فالعاطفة لا تصنع الدين ، وانما وجد الدين ليهذبها ، وكلما زادت نقص العقل بقدرها ، ومن ثم نقص الثواب بمقدار نقصان العقل ، حتى يخرج الإنسان بعاطفته من الدين الحقيقي . واذا ابتدع بعاطفته بدعة لم تكن سوى الضلال مهما حاول تبريرها .
إن الدين الشعبي سلوك فوضوي ناتج عن تصورات ناقصة لصور وهمية قابعة في خيال أصحابه فقط . وبالتالي هو سلوك عبثي ، لا ترتضيه الأديان الحقيقية ، لأنه يستهلك الوقت والجهد والوعي ورصيد الآخرة ، ويغرق صاحبه في الجهل ، ويزيده بعداً عن مقاصد الدين الحقيقي ويفصله عن اخلاقياته ، ويزداد رفضها بزيادة جماعة سالكيه ، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن الكثرة في القرآن الكريم لا تعتبر حجة (( لقد جئناكم بالحق ولكن اكثركم للحق كارهون )) , كما نقل (الريشهري) في (ميزان الحكمة ج1) عن أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) قوله (( أما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ورسوله ، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا )) .
ومن ثم فنقاط ضعف هذا الدين هي ذاتها التي يراها البعض نقاط قوته . (( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون )) ، (( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير )) . فيكون هذا الدين بغيبياته المفترضة -الوهمية- ولا نصوصيته وسلفيته وجهالته ليس سوى الغرق في مزيد من الظلام ، وبالتالي لا يمكن أن يشعر صاحبه بالراحة مطلقا ، إنما هو يفعل كل ذلك ويدخل في مزيد من الوهم لأنه في طور البحث الدائم بسبب نقصه الدائم وشعوره بالحاجة الروحية الدائمة ، ولهذا هو لا يتوقف عن حد معين .
وليس الارتباط بالامهات والجدات هو منشأ علاقة بعض الناس بالدين الشعبي ، بما هن امهات وجدات ، كما في فكرة (عقدة أوديب) ، بل بما هن ثقة من ثقات الإنسان غير المطلع وغير القارئ ، الذي لا يعرف غيرهن في عالمه يمكنه الوثوق فيه ، فيأخذ عنهن كل شيء ، حتى دينه .
أما دين العجائز الذي يقصده (الجويني) فهو دين الفطرة النقية ، لأنه يعلم جيداً أن العجائز -في الغالب- لا تملك المعرفة التامة بالله ، إنما هي تؤمن بوجدانها النقي أن هناك إلهاً خالقاً تحبه بصدق ، فيما يخشى (الجويني) واضرابه أن يكون دينهم المعرفي قد انتقص من نقاء وجدانهم . ولو كان دين العجائز -بما هو غير معرفي في الغالب – لكانت تلك العجائز هي حجة الله على الخلق وصفوة أنبيائه . ولما رأينا تفسيراً عظيماً للقرآن الكريم كالذي تركه (الفخر الرازي) .
مشكلات الدين الشعبي:
لا يمكن -على الأقل إسلاميا – تخلّف وعد الله ومشيئته بتحقق عبادته -التي يرضاها- في خليقته (( وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون )) . واذا كان الدين الشعبي الطقوسي الجاهل هو المنتصر في الاخر لكان إرسال الرسل أمراً عبثيا ، ولما كان لتدرجهم في قوة وتفاصيل رسالاتهم من البساطة إلى الشمولية من فائدة ، ولكانت فكرة (مهدي آخر الزمان ) غير مقبولة .
إن الدين المنتصر هو الذي يحظى بدعم الخالق لا شك ، وهو الدين الحقيقي وحده ، فلا يمكن انتصار الخلق على الخالق ، وإن كان رحيماً بهم . وسيتم ذلك كله بمعالجة الجهل والفقر والأمية والأنظمة الفاسدة ، وغيرها من أسباب انتشار الاعتقادات الخاطئة .
الخلاصة:
إن توصيف الممارسات العامّية المبتدعة بأنها دين شعبي ، يمكنه الالتقاء مع الدين السماوي الحقيقي ، وأن الروحانية السلبية يمكن أن تكون لها مرتبة دينية ، تصوّر شعبي في حد ذاته ، ناشئ عن إسقاط المقبولات الذهنية والنفسية المسبقة ، الناتجة عن اتباع قيادات ومدارس دينية غير متحركة ، على الواقع الشرعي ، أو أنه ناتج عن غياب تأثير تلك القيادات مطلقاً . فالمرجع الديني الذي يفتي ( ان التطبير اذا كان يوجب توهين مذهب الحق فلا يجوز ) هو لا شك لم يجد في هذه البدعة نصاً شرعياً , والا حرم عليه هذا القول , فتكون فتواه نصاً يخشى العوام وردود أفعالهم , ومن ثم يجيز لهم البدعة ضمنا , لا أنه يجيز سلوكهم ابتداء , أي انه صامت عن أفعالهم , لا راضٍ بها . فيما نقل صاحب (وسائل الشيعة ج16) حديث رسول الله (( إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فِي أُمَّتِي فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ )) .