إن تناول بدايات تشكيل “تيار السيد مقتدى الصدر” بات ضرورياً لإفهام العشرات من المؤسسات الشيعية التي لم تكن مهتمة قبل تضخم هذا التيار وبروز نجم قائده على الساحة العراقية ، وربما الدولية . وكذلك للملايين من الأفراد الذين لم يعاصروا نشأته ، أو أنهم لم يتابعوها حينها لأسباب مختلفة .
وهذا التناول ضروري لأمرين ، إدراك خطورة العمل الاجتماعي بلا “مرجعية دينية” ، ولبيان حتمية تقاطع الأنفس التي لا شيخ لها مهما كانت قريبة من بعض في فترة ما .
كما أن البحث عن “الشرعية الدينية” الحقيقية من دوافع كتابة هذا المقال ، وذلك بالإشارة إلى الخيار “الديني” الآخر الذي نبذه هؤلاء قبل اختيارهم ما شتتهم لاحقا .
مجموعة من ” أئمة صلوات الجمعة الذين اختارهم السيد الشهيد محمد الصدر قدس سره ” ، كما يعبرون عن أنفسهم ، اجتمعوا قبل عدة سنوات* ، وبعد سقوط الصنم الصدامي ، للمناقشة للقبول بإحدى ” الولايتين الفقهيتين” ، التي هي للسيد ( كاظم الحائري ) ، أو التي هي للشيخ ( محمد اليعقوبي ) . مع كون بعض الحاضرين ليس من أئمة صلاة الجمعة في زمن السيد الشهيد الصدر قدس سره قطعا ، بل ولم يكونوا من وجوه حركته المباركة .
وكانت هذه المجموعة الكبيرة نسبياً من طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف تعمل في مكتب السيد الشهيد الصدر تحت بند الوكالة الشرعية التي منحها له السيد ( كاظم الحائري ) بقيادة السيد ( مقتدى الصدر ) لإدارة المشهد العراقي حتى قدومه ، الذي لم يحدث كما توقع السيد الشهيد الصدر نفسه قدس سره .
وكانت هناك الكثير من الآراء والطروحات ، حيث طلب بعضهم تعهد الحاضرين باحترام ما يُتفق عليه . فيما طلب آخرون أن تكون “ولاية الشيخ محمد اليعقوبي” تحت “ولاية السيد كاظم الحائري” ، لأن دخول الأخيرة في ولاية الأول بعيدة ، رغم أنها ليست مستحيلة . وعبّر بعضهم بحسن ظنهم المستمر بالشيخ اليعقوبي . بينما دعا بعضهم إلى إصلاح البيت الصدر قبل إدخال السيد الحائري في الموضوع ، لأن الخلاف بين خطين عراقيين كانا يتبعان الشهيد الصدر ، وقد تسبب استفتاء السيد مقتدى الصدر الموجه ضد الشيخ اليعقوبي في بدء شرارة ذلك الخلاف والانقسام ، وأن الناس في الحقيقة لا تعرف السيد الحائري الا مروراً بالشهيد الصدر ، وإن المسيرات في الشارع تتبع السيد مقتدى الصدر لا الحائري . وأشار آخرون إلى ضرورة الوحدة ضد العدو الخارجي ، لا سيما القوات الأمريكية المحتلة . وبيّنوا أن هناك ممن هم من أعداء السيد الشهيد الصدر قدس سره يتربصون السوء بالخط الصدري عموماً ، ويشيعون الاخبار والمنشورات ضد أبنائه حتى في المدارس الدينية ، وأن بعضهم بدأ يتعاون ويرشد الأمريكان ضد أبناء هذا الخط . وأشار هؤلاء المجتمعون إلى أنهم قادة للمجتمع بمعنى من المعاني ، ولا يرضيهم انقسام الخط الصدري إلى قسمين ، يعقوبي بقيادة جماعة الفضلاء ، وهو خط ذو أهداف سامية كما عبروا ، وقسم حائري ، وليس مقتدائياً كما بينوا ، وأن إشكالهم تجاه الشيخ محمد اليعقوبي أنه لا يقبل بالدخول تحت ولاية السيد كاظم الحائري ، لكنه بمجرد إعلانه القبول بتلك الولاية الحائرية فإنهم لن ينتظروا موافقة السيد مقتدى الصدر مع الشيخ ، لأن القضية تكون حينها قد حُلت .
فيما كانت وجهة نظر بعضهم المشكلة على الشيخ اليعقوبي ليست في اجتهاده ، بل في اعتقادهم بوجود مسافة زمنية بين الاجتهاد والولاية . أما الاكثر تطرفاً فكانوا يرون أن فتح الشيخ محمد اليعقوبي لمكتبه الخاص لا يمكن بوجود مكتب السيد الشهيد الصدر الممثل لولاية السيد كاظم الحائري . فيما قرروا – بعد التصويت – الذهاب الى مكتب الشيخ اليعقوبي للطلب منه الانضمام تحت ولاية السيد الحائري ، وتعهدوا أنه إذا وافق على طلبهم ذلك ستكون توجيهات الشيخ اليعقوبي محل اعتبار لديهم ، وأنهم سيأخذون بنصائحه كما كانوا يأخذونها من قبل ، بل أنهم كانوا يأخذون بنصائحه حتى على مستوى حياتهم الشخصية ، وأن توجيهات وأوامر الشيخ ستكون أعم فائدة في حالة قبوله لطلبهم ، حيث أن اتباعهم له سيكون واضحاً باعتبارهم قادة للمجتمع . وأن المجتمعين إذا رأوا مستقبلاً أن مرجعية السيد الحائري لا تلبي طموحات الخط الصدري والشعب العراقي ، فإنهم يخبرون السيد الحائري بعدم حاجتهم إلى مرجعيته ، وينضمون حينها جميعاً تحت ولاية الشيخ محمد اليعقوبي .
فيما كان تعليق السيد حازم الأعرجي – أحد أبرز وجوه وقادة ومنظري تيار السيد مقتدى الصدر لاحقا – أن تحديد الأصلح للولاية يحدده أهل الخبرة ، وليس الجالسين في ذلك الاجتماع ، على اعتبار أنهم من طلبة السطوح أو المقدمات وليسوا من طلبة البحث الخارج المؤهل للخبرة العلمية ، وعليه فإنه يستصحب – بناء على رأي السيد الشهيد الصدر – أن السيد كاظم الحائري هو الاعلم ، وأن طرح الشيخ اليعقوبي نفسه كقائد سياسي – بعد وفود البيعة الشعبية له – هو عين ” ولاية الفقيه ” في رأي السيد الأعرجي ، وأن ذلك لا يجوز , وأن على الشيخ كتابة إقرار بأنه هذه الوفود لا تطرحه كقائد ، بل هي وفود ” رد اعتبار ” . فيما انضم السيد الأعرجي في مستقبل الأحداث تحت القيادة السياسية المباشرة للسيد مقتدى الصدر ، حتى بعد إسقاط الوكالة الشرعية عنه من قبل السيد الحائري ، ولله في خلقه شؤون ! .
بينما أوضح أحد الحاضرين ممن هو أعلى درجة علمية من أغلب الحضور – كما يظهر – أن السيد الحائري أعلن ولايته المطلقة على العراق ، ولا يجوز لصلوات الجمعة الأخرى أن تزاحم الصلاة التي أمر بها ، وأن قياس مستوى الشيخ اليعقوبي بمستوى السيد الحائري قياس مع الفارق ، ولا يجوز ل”إمام صلاة” – وهو عنوان أغلب الحاضرين – أن يقوم بذلك التقييم .
وشهد الشيخ أوس الخفاجي – وهو مدير ذلك الاجتماع – أن السيد الاشكوري – الوكيل العام للسيد كاظم الحائري في العراق – أقر للشيخ محمد اليعقوبي أن المرجعية الدينية له بعد رحيل السيد الحائري ، وأنه وريث هذه المدرسة الشرعي . وأن الشيخ اليعقوبي أقر أنه يحترم ولاية السيد الحائري . لكنهم بما أنهم قادة اختارتهم الناس – كما يرى الشيخ الخفاجي – فإنهم إذا انضم الشيخ تحت ولاية السيد الحائري سيأتون بجماهيرهم تحت قيادة الشيخ اليعقوبي في ظل ولاية السيد الحائري .
كما صرّح الشيخ الخفاجي وأغلب المجتمعين أنهم راضون بمبدأ قيادة الشيخ محمد اليعقوبي لهم وللمجتمع العراقي ، إلا أن اشكالهم شرعي يتمثل في ضرورة العمل تحت ظل “ولاية الفقيه” . ولم يكن هناك أي طرح تفضيلي لمرجعية أخرى ثالثة محتملة بديلة عن مرجعيتي السيد الحائري والشيخ اليعقوبي في الاجتماع .
ولقد قرا الشيخ أوس الخفاجي ورقة عمل أعدها الشيخ مؤيد الخزرجي لتمثّل مطالب الحاضرين . والشيخ مؤيد الخزرجي صار لاحقاً من اقرب مساعدي السيد مقتدى الصدر والناطقين باسم “تياره” ، ثم يبدو أنه انشق عنه بعد خلافات فكرية وقيادية .
وتضمنت طلب تشكيل لجان ” صدرية ” للجمعة والاستفتاءات ، لحفظ وحدة العمل والمواقف ، بعد أن يحرزوا قبول الشيخ محمد اليعقوبي بالانضمام تحت ولاية السيد كاظم الحائري .
إلا أن عيب تلك الورقة ” الشرعي” أنها نظرت إلى خط السيد الشهيد الصدر قدس سره على أنه أشبه بالحزب الذي يجب جمع أركانه ، وتوحيد رؤاه . وهي وإن كانت نظرة حسنة النوايا ربما ، للملمة هذا الحركي المجاهد ، إلا أنها قاصرة ، من حيث تحويلها “المرجعية الدينية” إلى “جماعة” ، فيما من الطبيعي أن يخرج من عباءة كل مرجعية دينية عدة مراجع ، بعدة رؤى .
ثم قرأ الشيخ الخفاجي على المجتمعين بياناً يريدون القاءه بين يدي الشيخ اليعقوبي ، كتبه جماعة لم يسمّهم ، وطلب ممن يراه مناسباً من المشايخ التوقيع عليه . وقد تضمّن عدة عيوب فكرية ، بل ربما شرعية ، صريحة .
منها ابتداؤه بعبارة “سماحة حجة الإسلام والمسلمين دام عزه” لمخاطبة الشيخ محمد اليعقوبي ، وهي عبارة تستخدم في الوسط الديني الحوزوي لمخاطبة من لم يبلغ الاجتهاد بعد ، أما لمخاطبة “العالم المجتهد” فيما استخدام عبارة “سماحة آية الله دام ظله” ، فكيف يريد المجتمعون دخول السيد كاظم الحائري تحت ولاية الشيخ اليعقوبي وبيانهم – أو كاتبه – لا يقر باجتهاده ، فضلاً عن رتبة “ولاية الفقيه” الاعلى ! . لكن يبدو أن كاتب البيان كان من المشايخ المتطرفين ضد قيادة الشيخ اليعقوبي حينها .
وتضمّن البيان توضيحاً فكرياً منهم للشيخ محمد اليعقوبي ، فكيف يُفهم الأدنى من هو أعلى منه رتبة ، ومن كانوا يرجعون إلى نصحه وارشاده حتى في قضاياهم الشخصية ! ، فضلاً عن كونه صاحب القلم الفكري الواقعي في عموم الخط الصدري على مر مراحله .
وحصر البيان كذلك المشاريع السياسية والاجتماعية المقبولة من قبل الشعب العراقي بعد سقوط النظام السابق تلك التي ترتبط بفكر السيد الشهيد الصدر فقط ، وهو سلب واضح لإرادة الأطراف الشيعية الأخرى ، فضلاً عن غير الشيعية . لكن الملفت والغريب أن هذا الطرح – الذي هو أقرب ما يكون إلى رؤى ولاية الفقيه – صار القائلون به ابعد الناس عنه بعد عدة سنوات فقط ، بل من أشد المبتعدين عن تمثيله ، بل وقف بعضهم بالضد من اي مقترح قانون عراقي يستند إلى الشرع الإسلامي ، والملفت أكثر أن صاحب الطرح القانوني الإسلامي كان الشيخ محمد اليعقوبي وحده لاحقا .
فيما اهم عيوب هذا البيان – الصادر عن أكثر من ١٦٠ إمام جمعة وجماعة كما عبّروا – أنه تضمّن قراراً قطعياً منهم بالانضمام تحت ولاية السيد كاظم الحائري ، والطلب من الشيخ محمد اليعقوبي الالتحاق بهم ، والا تركوه إذا رفض وذهبوا يقودون المجتمع وحدهم تحت راية السيد الحائري . وهو منطقياً “إجبار” صريح ، لا “تخيير” . وبالتالي لا معنى لذهابهم من أصله .
ولم يناقش المجتمعون – الذين غرّتهم أنفسهم – عنوان “الحوزة” التي يقولون انها اختارتهم ، هل هو عنوان معنوي لا وجود لصاحبه ، وبالتالي لا حقيقة لاختيارهم ، ام أنه عنوان يستند إلى وجود كل “طالب علوم دينية” دون النظر إلى رتبته ، ويحتاجون عندها إلى تصويت على إمامتهم من قبل المئات أو الآلاف ، وهو ما لم يحدث ، أو هو عنوان يُقصد به “مراجع الدين المجتهدون” ، ومن ثم فاختيارهم سقط بوفاة السيد الشهيد الصدر قدس سره ، وأنهم ملزمون بتجديد عهد إمامتهم أما من الشيخ محمد اليعقوبي أو من السيد الحائري ، ولا حجة لهم في اختيار أحد الطرفين للقيادة ، لا سيما مع اعتراف أكثرهم أنهم ليسوا من أهل الخبرة .
إن أغلب الشخصيات التي صنعت فكرة “قيادة مكتب السيد الشهيد الصدر” وعملت على إيجادها بحماسة ، بل في بعض الأحيان بعنف ، انشقت عن هذا المكتب ، ثم اسست مكاتبها الخاصة ، أو جماعاتها ، أو انزوت واعتزلت ، لكن بعد أن تسببت بما تسببت .
وبغض النظر عن أن إشارة السيد الشهيد محمد الصدر قدس سره إلى السيد كاظم الحائري كانت نظرية ، لا عملية ، ومؤقتة ، حتى يكون أحد طلابه هو الاعلم ، وأنه تنبأ بعدم رجوع السيد الحائري إلى العراق ، وهذه من كراماته قدس سره ، وأنها إشارة شبيهة بإشارة الإمام الصادق عليه السلام التي أوصى فيها لخمسة أشخاص حتى يحمي وريثه الحقيقي من بطش السلطة الظالمة وأعوان الظلمة ، حيث ذكر السيد الشهيد الصدر قدس سره من الأسماء النظرية السيد الحائري والشيخ الفياض والشيخ اليعقوبي ، أو عمم الخطاب بذكر عنوان ” بعض طلابي ” ، وأن النسبة الأكبر من مصلي الجمعة التي أقامها السيد الشهيد الصدر قدس سره ووكلاؤه في العراق التزمت قيادة الشيخ محمد اليعقوبي ، وذلك ما اعرفه لأني ابن هذا الخط ، وأن قسماً مهماً من النسبة المتبقية التي التزمت خط السيد مقتدى الصدر انسحب لاحقاً مع انسحاب الشيخ قيس الخزعلي والسيد محمد الطباطبائي عنه ، وأن قواعد السيد مقتدى الصدر الجديدة الواسعة كانت غير صدرية ، وأنها ظلت في معارفها مرتبطة بمرجعيات كلاسيكية ، حتى اضطر قائدها السيد مقتدى الصدر إلى إعادة تأهيل الكثير منها ” صدرياً ” من خلال مشاريع خاصة ، وأن عموم ” العمائم ” التي كانت تعمل لصالحه على الارض كانت خريجة مشاريع ” إعادة التأهيل ” ، اقول بغض النظر عن كل ذلك فأن هؤلاء الخطباء الذين تعهدوا أنه في حالة عدم قدوم السيد الحائري إلى العراق برجوعهم إلى ولاية الشيخ محمد اليعقوبي ، لم يلتزم جمعهم بتلك الكلمة ولا بذلك التعهد اليوم من تنازل السيد كاظم الحائري عن المرجعية ، وهو لم تطأ قدمه أرض العراق كما توقع السيد الشهيد الصدر ، بل ان تلك الوجوه من ” أئمة صلاة جمعة الصدر ” التي اجتمعت في ذلك اليوم وتعهدت بما تعهدت به قد تفرقت قبل هذا التنازل بسنين ، إلى من انشق عن كل الخطوط واتجه للعمل ” المليشياوي ” ، أو صار من رموز تيار السيد مقتدى الصدر حتى وافاه الأجل ، أو أنه التحق من حينها بالشيخ اليعقوبي ولم يتركه ، أو أنه اعتزل الناس حتى لقي ربه .
…..
- رابط الفيديو لاجتماعهم على الموقع العالمي ( YouTube )