الحوزة العلمية الدينية السومرية
تدفق الآيات هي عملية تواصل رسالي بين مجتمع سابق – رباه احد المصلحين – و بين مجتمع لاحق , عن طريق ترابط اجتماعي وتلاحم مكاني , والتي تهيئ الظروف المناسبة لوجود مرشد ومصلح آخر يكون هو الشحنة الدافعة لعملية التواصل , ومركزا لدوران المعتقدات في كل جيل , وبتعاليم ورؤى ومبادئ جديدة اكثر تفصيلا وعمقا وعددا , تأخذ عملية التواصل هذه على عاتقها تنفيذ المخطط الآلهي العام الهادف , والرامي الى هداية البشرية في كل زمان وكذلك لتحقيق دولة العدل الآلهية , من خلال تهيئة المجتمعات الانسانية الاخرى لتقبل اطروحات هذه الدولة عبر غرس مجموعة من المقدمات التربوية والاصلاحية الكفيلة باعادة مسار البشرية نحو جادة الصواب او قريبا منها .
ومن ثم هي المجموعات المترابطة تاريخياً التي تعي قيادتها الحقيقية , وتطبق رؤاها على ارض الواقع باعلى مستوى , مهما بعد او قرب ظاهريا . المجتمع الايماني ينتقل من مكان الى آخر , حسب الظروف التي تراها القيادة , او التي يمكن ان تساعد على اتساع رقعته في عموم المجتمع , وحسب تعاقب القيادات . وهذا التعاقب بالقيادات يمكن ان يغير من مكان المجتمع الايماني .
وبسبب عدم التمكن من التواصل مع القيادات المتعاقبة , يبقى البعض يظن ان المكان الذي كانت تشغله القيادة السابقة هو الاشرف وهو محل وقوع الاحداث التي اخبرت بها القيادات السابقة . والواضح ان هذه الرؤية ناتجة عن نظرة اولية لحقيقة المجتمع الايماني , وهي صحيحة في نفسها , لكن الواقع اعمق من ذلك واكثر انتاجا , فهي ناظرة لنتيجة وجود هذا الترابط الاجتماعي العقائدي , والمتمثلة بخلق مجموعة واعية لقيادتها الحقيقية .
ان الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي . وتتألف الحضارة من العناصر الأربعة الرئيسية : المواد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. ولاطراد الحضارة وتقدمها عوامل متعددة من جغرافية واقتصادية ونفسية كالدين واللغة والتربية، … وقصة الحضارة تبدأ منذ عُرف الإنسان، وهي حلقة متصلة تسلِّمها الأمة المتحضرة إلى من بعدها، ولا تختص بأرض ولا عرق، وإنما تنشأ من العوامل السابقة التي ذكرناها.
وتكاد لا تخلو أمة من تسجيل بعض الصفحات في تاريخ الحضارة ، غير أن ما تمتاز به حضارة عن حضارة إنما هو قوة الأسس التي تقوم عليها، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يصيب الإنسانية من قيامها ، وكلما كانت الحضارة عالمية في رسالتها ، إنسانية في نزعتها ، خلقية في اتجاهاتها ، واقعية في مبادئها ، كانت أخلد في التاريخ وأبقى على الزمن وأجدر بالتكريم .
ومن هنا كان لتعاقب الحضارات اثر فاعل في نضوج البشرية وتطور المفاهيم الانسانية , لكن على شرط توفر القادة المخلصين الذين يرشدون ابناء كل حضارة لتبني ما هو صحيح ونبذ ما يخالفه .
ولانهيارها – الحضارة – عوامل هي عكس تلك العوامل التي تؤدي إلى قيامها وتطورها، ومن أهمها الانحلال الخلقي والفكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظلم والفقر، وانتشار التشاؤم أو اللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكفاء والزعماء المخلصين .
اذن كان من اللازم توفر مجموعة عوامل اساسية لنقول لتعاقب حضاري معين انه ( تواصل رسالي ) منتج ل( مجتمع ايماني ) , اهمها :
١ – انتقال لإرث حضاري سابق الى احضان حضارة جديدة .
٢ – وضوح تميز المجتمع الحضاري اللاحق على المجتمع السابق فكريا .
٣ – احتواء كلا الحضارتين على منهج عبادة توحيدي .
٤ – وجود مصلح رسالي فاعل في كلا المجتمعين .
انّ علماء التأريخ والانساب والآثاريين اختلفوا في حقيقة العلاقة بين المجتمعين السومري والاكدي , وتولدت في ذلك عدة آراء , ارى ان اغلبها عبثية وترفية , لكن يهمني منها رأيان :
1 – ان المجتمع السومري والاكدي هو مجتمع واحد , كانت لغته الاكدية , اما اللغة السومرية فهي اللغة المقدسة , او لغة ( الدين ) , لذلك كانت اسماء المعابد دائما – حتى في عنفوان التألق الاكدي – سومرية .
2 – ان المجتمع السومري سابق على المجتمع الاكدي لكنهما من اصل واحد , ثم اندمجا معا – لترابطهم العضوي – مع تفوق الاكديين بسبب انتمائهم للسامية ، وبالتالي الى نوح عليه السلام , ونموهم السكاني .
والأقرب – بعد قراءة مقارنة للمصادر – ان السومريين هم قوم نوح وعشيرته , و ذراري من نجا معه في السفينة , اما الاكديون فهم ذرية نوح المباشرة .
ان ابحاثاً عراقية حديثة تشير الى رسو سفينة نوح في ارض النجف , وهو امر يؤيده انشاء نوح للمجتمع الاول في تلك الانحاء , وذلك يخالف آراء اليهود والمستشرقين بان المقصود بجبل ارارات التوراتي مرتفع ما في تركيا او ارمينيا , فما الذي دعا نوح ان يتوجه جنوبا لانشاء مجتمعه حينها ؟ .
يقول العلامة والباحث سامي البدري “، إن “هناك معلومات تم الحصول عليها في وثائق مسمارية باللغة السومرية والأكدية تؤكد أن سفينة نوح قد رست في النجف، مبينا أن النص المدون في اللوح الحادي عشر السطر ١٣٨ و ١٣٩ في ملحمة كلكامش يقول ( أمسك جبل بلاد نصر بالسفينة ولم يدعها تتحرك ) , واسم السفينة كان ( ناصرت نبشتم ) بمعنى ( حافظة الحياة ) , ويقابل الفعل ( يحفظ ) سومرياً كلمة ( حار , حير ) , وبالتالي تكون الجملة بالسومرية ( امسك جبل بلاد الحير بالسفينة ) , ومن ثم اخذ المكان لاحقاً اسمه من قداسة الموقف فصار ( الحيرة ) , الاسم الذي اختزنته الذاكرة العراقية , وهو ما يوافق ما جاء في الرواية : ( عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله ( عليه السلام ): ” استوت على الجودي ” هو فرات الكوفة ) .
وأوضح البدري أن كلمة نصر أكدية وتعني الحفظ ويقابلها بالسومرية حير وحار ويعني أمسك الجبل ، والنجف هي جبل الحيرة , مضيفا أن النص العبري يقول استقرت السفينة على جبل آرارت وهي كلمة بقيت مبهمة “.
وأضاف البدري ” اكتشفنا أن اللفظة تتألف من كلمتي ار واراد ، وأن أراد هو نهر الفرات ، وتشير إلى النجف والكوفة ، ولا تشير إلى تركيا ” . وقد عضد رأي البدري باحث اكاديمي آخر , أنه لاحظ من خلال تحليلات التربة والأدلة الآثارية أن الطوفان حدث بارتفاع 70 مترا، الأمر الذي يشير إلى أن منطقة الخليج العربي كانت يابسة عندما حدث الطوفان، وارتفعت المياه عن مستوى موقع الخليج العربي إلى 70 مترا , مبينا أن هذا الارتفاع معناه أنه يمتد إلى أعلى نقطة في جنوب العراق وهي منطقة طار النجف “.
ان القرآن الكريم يوضح لنا مدى التغير الجذري في مجتمع نوح ( بعد الطوفان ) , والذي جعل الله تعالى يباركهم ويجزل نعمته عليهم :} قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } (سورة هود: ٤٨) . وكانت النتيجة الطبيعية ان يكون هؤلاء هم ورثة المشروع الالهي الايماني : } فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ } (سورة يونس: ٧٣) .
انّ الولاية التكوينية بحسب المعنى اللغوي تعني انّ للمعصوم جهة قرب من القضايا والأمور الكونية ، بحيث تكون له السلطنة على إحداثها وتكوينها .
كما انّ هذا التعدد الهائل في ( المخلوقات ) المشرفة على كل شيء وكل حدث في الكون افراط واضح يزيد عن التصورات الذهنية القائمة على الحاجات النفسية للشعوب الوثنية ، التي افترض كريمر انّ السومريين منهم ، حيث يكاد يكون لا نهائي ، وهو امر يصعب تصديق انّ السومري المتحضر يؤمن به . لكن الحقيقة انّ المعتقد السومري كان يؤمن ويفكر بما تؤمن وتفكر به الديانات الإبراهيمية من نظام ( الملائكة ) . وقد قرّر الفيلسوف اليوناني الأول ( طاليس ) – وهو ممن اخذ عن العلوم السومرية – ذات المبدأ حين قال : ( ان العالم مملوء بالآلهة ) , بمعنى ( الملائكة ) دينيا , و ( القوانين الكونية ) فيزيائيا .
عن تفسير القمي : ( سئل الصادق عليه السلام : هل الملائكة اكثر ، ام بنو آدم ؟ فقال : والذي نفسي بيده ، لملائكة الله في السماوات اكثر من عدد التراب في الارض ، وما في السماء موضع قدم الّا وفيه ملك يسبّحه ويقدّسه ، ولا في الارض شجرة ولا عودة الّا وفيها ملك موكل بها ، يأتي الله كل يوم بعملها ، والله اعلم بها ، وما منهم واحد الّا ويتقرب الى الله كل يوم بولايتنا أهل البيت ، ويستغفر لمحبينا ، ويلعن اعدائنا ، ويسألون الله ان يرسل عليهم العذاب إرسالا ).
وكما هو جلي من هذه الرواية انّ الملائكة تعمل كقوانين حاكمة في الموجودات ، وهي ذاتها تقوم في وجودها على ولاية الأئمة المعصومين ، بمعنى هو ذاته التقسيم السومري لتراتبية الموجودات العليا . فيما يكون للمعصومين ذاتهم تراتبية خاصة ، تبتدأ برسول الله ، ثم علي بن ابي طالب ، ثم باقي المعصومين .
وما يؤكد قرائتنا هذه وجود ( نينخورساج = الام ) التي هي ( ننماخ = السيدة المجيدة ) , والتي يسميها السومريون ( ننتو = السيدة التي انجبت ) حيث والدة جميع ( الآلهة ) . وقطعا سيتبادر الى ذهن علماء وفلاسفة الامامية اليوم ( السيدة فاطمة الزهراء = سيدة نساء العالمين ) , والتي كانت مصدرا لانوار ( الائمة ) الموكلة اليهم ( الولاية التكوينية ) , ولعل ما جاء في ( الاسرار الفاطمية ) نقلاً عن ( البحار ٤٣ \ ١٠٥ ) مؤيداً لمذهبنا هذا : ( قال الصادق عليه السلام : وهي الصدّيقة الكبرى ، وعلى معرفتها دارت القرون الاولى ) , وبنفس المعنى بيت للشيخ المجتهد ( محمّد حسين الأصفهاني ) في قصيدته (الأنوار القدسيّة ) : ( وحــــبها مـــن الصفات العاليـة * عليــه دارت الـــــقرون الخاليـة ) .
( امّا بالنسبة لأسلوب الخلق الذي عزي الى تلك الآلهة ، فان فلاسفتنا السومريين طوروا مبدءاً صار فيما بعد عقيدة في أنحاء الشرق الأدنى كافة ، وهو مبدأ القوة الخالقة الكامنة في الكلمة الإلهية . فكل ما كان على الاله الخالق ان يفعله ، وفقا لهذا المبدأ ، هو ان يضع خططه وينطق بالكلمة ويعلن الاسم . وربما كانت فكرة القوة الخالقة للكلمة الإلهية نتيجة لاستنتاج قياسي مأخوذ من ملاحظة المجتمع البشري ايضا ، فإذا كان باستطاعة ملك من البشر إنجاز كل ما يريده تقريبا بمجرد الامر ، اي بشىء لا يزيد فيما يبدو على كلمات تصدر من فمه ، فلا شك ان إمكانية القيام بذلك كانت اكبر بالنسبة للآلهة الخالدة التي كانت فوق البشر ومسؤولة عن عوالم الكون الأربعة . ولكن ربما كان هذا الحل (( السهل )) للمشاكل المتعلقة بأصل الكون ، حيث الفكرة والكلمة وحدهما مهمتان جدا ، انعكاسا على الأكثر للحافز البشري باللجوء في تحقيق الرغبات المفعمة بالامل الى مجرد الرغبة في أوقات الضيق والمحنة ) .
وبعيداً عن تفسير كريمر للمعتقد السومري ، نجد انه انطباق تام للمعتقد الابراهيمي الذي ذكرناه . ولا يمكن القول انّ الأديان الإبراهيمية – المتأخرة نسبياً عن الحضارة السومرية زماناً – كانت قد وجدت تلك الرقم والألواح الآثارية التي عثر عليها كريمر ، او انّ هذه المعتقدات قد انتقلت اقتباساً لهذه الحضارات الدينية ، فيلزمنا حينئذ القول بأنّ الامة السومرية قد اخذتها عن غيرها ايضاً ، وربما عن نفس المصدر الذي اخذتْ عنه هذه الأديان ، فلا دليل لدى كريمر على ابتداع السومريين لهذا المعتقد ، بل جلّ ما لديه انهم آمنوا به . ولعلّ النص ( بعد أن انزلت … الملكية من السماء ، وبعد ان انزل التاج والعرش الخاصان بالملكية من السماء ، اكمل رسوم العبادات والنواميس الإلهية ، وأسس المدن الخمس في مواضع طاهرة ، وسماها بأسمائها وخصصها كمراكز للطقوس والعبادات ) يؤيد هذا الافتراض كثيراً ، باعتبار ان السومريين يكررون باستمرار انّ حضارتهم – بمتبنياتها – هبة الالهة .
لقد ورد في الكتاب المقدس قوله ( في البدء خلق الله السماوات والأرض * وكانت الارض خربة وخالية ، وعلى وجه الغمر ظلمة ، وروح الله يرفّ على وجه المياه * وقال الله : ” ليكن نور ” ، فكان نور ) .
في أجواء العقل التوحيدي هذا نشأت الحوزة العلمية الدينية في العراق , في مدن مختلفة , منها الكوفة وبغداد والحلة والنجف وكربلاء . وانتقل اليها الإرث التوحيدي , بالمباشرة , وبالنص عن الامام .
ان اهم التغيرات التي اعقبت نوح عليه السلام و اثّرت في مجتمعه الايماني هي الزيادة السكانية العالمية المتفجرة بصورة مطردة , وكحالة طبيعية كانت نسبة الخط الانحرافي في توسع . لذلك كان من الطبيعي والحتمي – بناءا على التخطيط الإلهي العام لهداية البشرية – ظهور شخصية مثل ابراهيم النبي بكل ما يرسم لها القرآن الكريم من ابعاد , وتفترق عن الشخصية القيادية لنوح النبي لاختلاف المهام المناطة بكل واحد منهما .
من الأسباب التي يمكن أن يقام على أساسها التغيير في النبوة، هو أن تكون الرسالة التي هبطت على النبي محدودة باعتبار محدودية نفس النبي، وإن كان مفهوماً عاماً، إلا أن هذا المفهوم العام على ما يقول المناطقة، يصدق على أفراده بالتشكيك. هناك على ما تقول الروايات نبي للبشرية، ونبي للقبيلة، وهناك نبوات تختلف من حيث السعة والضيق باختلاف طبيعة النبي نفسه، باعتبار مستوى كفاءة القيادة الفكرية والعملية في شخص النبي .
{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ } * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ( الصافات ٧٥ – ٨٤ ).
ان الارث الذي خلفه المجتمع الايماني الاول – الناتج عن تربية نوح النبي – والذي جعل المجتمع العراقي مجتمعا مدركا لابعاد التوحيد , رغم التطور الانحرافي الطبيعي , ان هذا الارث الفكري والرسالي خلق شخصية رسالية جديدة ذات همة عالية جدا , و تمتلك الارضية المناسبة عقليا لمعاني توحيدية ارقى , لذلك كانت النتيجة المتوقعة : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } ( الانعام ٧٥ ) . فاتم ابراهيم اشواطاً ادراكية لم تتسنَ لنوحٍ من قبل : { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ } ( الأنبياء ٥١ ) .
يرى الكثير من كتّاب التأريخ والمفسرين ان ابراهيم خرج من اور لان اهلها مشركون , وهو ظلم وتجني بحق تلك الاقوام وبحق ابراهيم , فان ابراهيم كان من الواجب عليه قبل كل شيء ان يحاول هداية قومه اولاً , وهذا هو ديدن الرسل , بل الخط الرئيس للبعثات السماوية المتكررة . ان خروج ابراهيم كان ناتجا عن شيئين :
١ – مهمته الايمانية الاصلاحية التوسعية الجديدة
٢ – اطمئنانه لامكانية عودة المجتمع العراقي لحظيرة الايمان في أي وقت , بسبب الارث والارتكاز العقائدي في هذا المجتمع .
وإذا اعتبرنا آدم وإبراهيم من الأنبياء المرسلين ، المكلفين من الإله الكبير الخالق الأزل ، فأنه يمكن أعتبار الدين السومري بمثابة ( الدين الإصلاحي الأول ) للبشر ، ونستطيع أن نستدل على تأثير تلك الديانة في المجتمع السومري وما يجاوره ، من خلال ذلك الأرث الحضاري المتنوع الذي وصلنا ، بالإضافة الى ما أنتجته المؤسسة الدينية من تأثير على الإنسان وعلى العلاقات الداخلية والخارجية للمجتمع ، وبعد أن كان المجتمع قبلها يعاني من عدم نضج المؤسسة الدينية ( وفق نظرة روحية تتعلق بالعلاقات الدينية للإنسان ) ، وعدم تبلور ملامح وترابط وانسجام تلك الأفكار الدينية ، تم ترتيب الانسجام والتكامل بينها بالشكل الذي وصلنا وتميز عن غيره من الأنظمة من النواحي المثولوجية أو اللاهوتية أو الطقسية .
وكان واضحا ان مجادلة ( عبدة الاصنام ) لابراهيم لم تكن عن قناعتهم بقدرات هذه الاصنام , بل هم كانوا يعبدونها لتوارث تقديسها عند اسلافهم , الذين اسسوا الحضارة الاولى , وهذا ما عبرنا عنه سابقا بتأثير ( الغلو ( ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ ) ( الأنبياء ٥١ – ٥٣ ) , ( قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قالوا بَلْ وجدْنا آباءَنا كذلِكَ يَفْعَلون ) ( الشعراء ٧٢ – ٧٤ ) .
ان هجرة ابراهيم النبي هنا ليست بمعنى ( ترك ارض الآباء الى بلاد اخرى ) , بل هي تلك الهجرة المنتجة بالمعنى الذي تناوله ( علي شريعتي ) . انها هجرة التغيير والبناء , كالتي قام بها نبي الاسلام ( محمد ) صلى الله عليه و آله . لذلك كان ما بعد الهجرة الابراهيمية غير الذي كان قبلها . (( فآمنَ لَهُ لوط و قالَ إنّي مهاجر إلى ربّي )) ( العنكبوت ٢٦ ) .
في الفترة التي اعقبت مجيء ابراهيم الى شمال العراق ظهرت في فارس الديانة الزرادشتية القريبة جدا من التوحيد . واصبحت الارض الآشورية ملامسة لكل الديانات التوحيدية اللاحقة , وبصورة مثيرة للتساؤل , حتى انها كانت احدى الاسباب الرئيسية لانهيار خط الانحراف الاساسي الذي طرأ على الديانة الابراهيمية من خلال انحراف بني اسرائيل , والذي مهد لظهور المسيح عليه السلام .
ارسل إبراهيم خادمَه إلى بلاد ما بين النهرين ليختار لابنه اسحق زوجة من لابان الذي هو من عائلة زوجته سارة ، ان اختيار ابراهيم زوجة عراقية ( من قومه ) ومن عشيرة زوجته ( سارة ) , على نحو من الاصرار يكشفه الكتاب المقدس , يدل دلالة واضحة ان ابراهيم كان يسير ضمن منهج تربوي ايماني , يُريد فيه – بالاضافة الى الكفالة الصالحة لولده – ان يزيد من تواجد الثلة الصالحة في الاراضي الجديدة , وبالتالي يزداد التأثير الايماني في المنطقة , عبر مجموع المهاجرين العراقيين , الذين حملوا معهم الارتكاز الايماني للمجتمع الاو