المسيحية قراءة في كواليس سرقتها

Christianity

71

 

 

المسيحية قراءة في كواليس سرقتها

تمهيد: الفترة الوثنية

 

 

المسيحية , لا سيما البولصية , أثّرت في مختلف الشؤون الثقافية للعالم الحديث , فمثلاً المؤسسات والمراكز التي أشرفت على بعثات التنقيب في العراق ومصر أخفت الكثير من المكتشفات الآثارية , وربما غيّبت المهم من الحقائق , فيما الآثاريون الغربيون ترجموا النصوص السومرية والمصرية بشكل متأثر باعتقاداتهم وتصوراتهم الشخصية وبيئتهم المحيطة , يهودية او مسيحية , في أحسن الأحوال , وربما ان هؤلاء العلماء لم يكشفوا الا اقل القليل مما وجدوا , أو قاموا بتشويه الحقيقة , التي لا يمكن إدراك الا بعض ملامحها , لأسباب دينية .

 

كذلك تداخلت القدرات الخاصة بين ديانات البشرية , ومنها المسيحية , فكان للملاحم الخلقية البابلية دور في بيان قدرة الكائنات الخاصة ذات البعد المقدس على النمو البدني او العقلي بشكل مختلف , في مثال (مردوك) الذي صار قائداً بعد ولادته مباشرة[1], وكان مثال ذلك في قصة ولادة (عيسى المسيح) القرآنية[2]أيضاً , اما في الموروث الاعتقادي الشيعي فكان الإمام الثاني عشر المنتظر له نفس القدرة كما ورد عن (غياث بن أسيد) عن (محمد بن عثمان العمري)[3].

و(آتوم) عنى به المصريون القدماء ( الكامل , المطلق , الموجود بذاته , الأزلي , الأقدم , المتفرد , الأوحد ) . وربما يكون هو ذاته المخلوق الاول ل(نُون) , لكن يمكن ان يكون هذا التقريب بين المصطلحين بعيداً عن ذهنية الباحث الغربي في الغالب , لافتقاده للخلفية الفلسفية الشرقية العميقة . ثمّ أوجد (آتوم) -بنفخة منه- (شو) و(تفنوت) , وهما وصفان للطبيعة بحسب الباحثين , وإن حملهما الباحثون الغربيون -كالعادة- على محمل الآلهة . وهذا الإشكال في الحمل الخاطئ قد عانت منه الترجمات الغربية للعقائد السومرية ايضاً , كما صوّروا كلمة ( دينجير Dingir 𒀭 ) بمعنى ( الإله ) , فيما لم يقصد بها السومريون سوى ( القداسة ) . وهذا الإشكال ناتج عن الخلفية الوثنية او المادية للمجتمعات الغربية . لكن يبقى هناك احتمال كبير ان يكون (شو) أيضاً مظهراً آخر ل(نُون) و(آتوم) , حيث هو اسم التجليّ من خلال الآيات الطبيعية , حين خلق السماوات والأرض وملأ ما بينهما بآياته , لا سيما ان اللاهوت المصري وصف (شو) ب( اللامرئي ) وأنّ الابصار لا تدركه . ومن الغريب ايضاً ان يحيل الباحثون هذه المعاني الى الرؤية اللاهوتية التثليثية الاقانيمية للمسيحية الرومانية , وجعلهما متطابقتين ! .

وقد افترض العلّامة الآثاري (صموئيل نوح كريمر) انّ النظريتين الكونية واللاهوتية ليستا سوى استنباط فكري من قبل العقل البشري السومري , وهو رغم اعجابه الواضح واعترافه باشتراك هذه النظريات مع عقائد الأديان الإبراهيمية , الّا انه يرى أصلهما ناشئاً عن تأملات السومريين في الطبيعة والكون وطريقة عملهما , فيقول ( لقد طوّر السومريون خلال الألف الثالث قبل الميلاد افكاراً دينية ومفاهيم روحية تركت في العالم الحديث أثراً لا يمكن محوه , وخاصة ما منها عن طريق الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام . فعلى المستوى العقلي استنبط المفكرون والحكماء السومريون , كنتيجة لتأملاتهم في اصل وطبيعة الكون وطريقة عمله , نظرية كونية واُخرى لاهوتية , كانتا تنطويان على ايمان راسخ قوي , بحيث أنهما اصبحتا العقيدة والمبدأ الاساسيين في اغلب أقطار الشرق الأدنى القديم )[4].

انّ عبارة ( … كنتيجة لتأملاتهم في اصل وطبيعة الكون وطريقة عمله … ) ليست جزءاً من المادة الوثائقية الآثارية كما هو واضح , إنما هي وجهة نظر شخصية من العلّامة (كريمر) , ناشئة عن تصوّر خاص انطلق منه في رؤيته للنص الآثاري , وهو ما تجب مناقشته , وكذلك يجب الاستعانة عليه بالتصوّرات المستندة الى الأسس العلمية الحديثة , ولابد أيضاً من اعتماد الفلسفات الشرقية لأنها اقرب الى الذهنية السومرية , وبالتالي هي الفلسفة الأكثر توافقاً مع ما ترسمه الوثيقة السومرية , لاسيما مع ادراك انّ المجتمع السومري كان متحضراً جداً ومتقدماً في المجال الفكري , ومرتبطاً بالسماء .

لذلك تُعد معالجة تاريخ المسيحية , الحقيقية , او البولصية وتفرعاتها , مدخلاً لقراءة وفرز أوراق ثقافية واعتقادية كثيرة , وتفكيك ما هو سماوي عمّا هو وثني .

 

 

ان النبي (إبراهيم) كان يبحث عن ارض خصبة فكرياً ليزرع عقيدته الدينية , ولم تكن تلك الارض الخصبة الا التي نتجت عن البناء السومري الاول . فهذه الشعوب كانت هي الوحيدة القادرة على تلمّس واقع ما جاء به النبي (إبراهيم) . فمثلاً كانت بلاد (آشور) من اول الشعوب إيماناً بالمسيح , ورغم تواصلها مع الفُرس فإنّ الفُرس لم يستطيعوا هضم رسالة المسيح , وطول فترة الاحتلال الفارسي للعراق لم تتغير ديانة العراقيين (المسيحية) , بل اثّرت في المعتقدات الفارسية , حتى ان احد ملوك الفُرس صار مسيحياً , فأعدمَه قومه , لأن الفُرس لم يكن لديهم الارتكاز العقائدي التاريخي العراقي الذي يمكّنهم من أن يؤمنوا بهذه الديانات التوحيدية بسهولة .

وغالباً لم يتأثر العراقيون بعقائد من يحتلهم , بل العكس هو الصحيح , فقد ظلوا -عموماً- مسيحيين طوال فترة الغزو الساساني الوثني لأرضهم , وظلوا شيعة طوال فترة حكم الامويين والعباسيين والعثمانيين السُنّة .

وفي الفترة التي اعقبت مجيء النبي (إبراهيم) الى شمال العراق ظهرت في (فارس) الديانة الزرادشتية , القريبة جداً من الديانات التوحيدية . وأصبحت الارض الآشورية ملامسة لكل الديانات التوحيدية اللاحقة , وبصورة مثيرة للتساؤل , حتى انها كانت احدى الاسباب الرئيسة لانهيار خط الانحراف الاساسي الذي طرأ على الديانة الإبراهيمية من خلال انحراف بني اسرائيل , والذي مهّد لظهور المسيح .

 

 

ومن التسلسل في اضطراب التاريخ كان اليهود قد وصلوا الى مرحلة ضبابية خطيرة , تغلغل فيها السِحر الى ساحة المعتقدات الدينية , فصار هناك خلط لدى نسبة معتد بها من الناس[5]. وراح اليهود لا يميّزون بين ميتافيزيقيا فرعون و بين عالم الجبروت[6], بل انّ الفكر الفرعوني الوثني انتشرت على انحرافها[7]. لكنّ بني اسرائيل لم يكونوا جميعاً كافرين , كما يظهر من السرد التاريخي , وهذا ما يكشفه الاضطراب في مواقفهم ايضا[8].

ومن هنا كان من الطبيعي رؤية بني اسرائيل وهم يتهمون الأنبياء بأنّهم سحرة , حيث صار هؤلاء اليهود يفكّرون بالعقل الفرعوني , الذي يخلط بين التلاعب الفيزيائي الذي تُحدثه الكائنات الغير منظورة , وبين قدرة الخالق التي تجري على يد أنبيائه , كما اعتمد فرعون ذات الآليات الباطنية المقترنة بالهندسة للبحث في امر إله (موسى) , بسبب الاختلاط الفكري لديه , غافلاً عن المعنى اللاماديّ للخالق[9]. وهذه النظرة المادية للماورائيات , والتي يمكن تسميتها ( الميتافيزيقيا الجديدة ) , او ( الميتافيزيقيا الفرعونية ) , صارت هي خلاصة العقل الكهنوتي للمجتمع اليهودي , لا سيما بعد سرقة هذا الكهنوت من الباطنيين الفراعنة .

لقد كان من الضروري الإعجاز الالهي في إيجاد المسيح (عيسى بن مريم) , كما هي ضرورة نسبه الشريف في بني اسرائيل , وكذلك الآيات الكبرى على يديه , من حيث القدرة على الإحياء والمعرفة بإذن الله , بعد هذا الاضطراب الذي عاشه المجتمع الاسرائيلي[10].

انّ هذه الآيات الواضحة الإعجاز على يد عيسى المسيح -فضلاً عن ولادته الإعجازية ايضا- تكشف عن العمق الذي تغلغل اليه السحر في مجتمع كهنوت بني اسرائيل , والمدى الذي اتقن معه اليهود علوم السحر , وكيف انهم طوَّروا المنظومة الفرعونية , فقرابينهم الوثنية كانت كبيرة معنويا[11].

والله تعالى اوضح حقيقة ان هذا الجيل الاسرائيلي الفرعوني لا يمكن له ان يحمل رسالة الرب , فهم غير واثقين بالله[12], لأنهم لا يزالون لا يعرفون الرب الحقيقي , ولازالوا يشكّون في اله (موسى) . ولكن هناك استثناء , هو الذي ابقى رحمة الرب واختياره لهم , انهم المؤمنون من بني إسرائيل , مثل (كالب بن يفنة) و (يوشع بن نون)[13]. وبالتالي فغضب الله لا يشمل الجيل اللاحق , الذي ستكون راية التوحيد معقودة بيده[14], وفعلاً بعد مرور قرون تالية كان عديدون من بني إسرائيل يبغضون (هيرودس الادومي) والي الرومان على فلسطين حتى عام 4 قبل الميلاد , لأنه عمل على نشر الاصنام والوثنية الرومانية[15], رغم انخراط آخرين من بني إسرائيل في السلك الوثني الروماني ومشاركتهم في محاكمة المسيح الظالمة .

ومنذ اللحظات الاولى لخروج قوم (موسى) من مصر الفرعونية كانوا يعانون الاضطراب والضبابية , إِلَّا مجموعة من المؤمنين , صالحة , لكنها كانت تُستضعَف في كثير من الأحيان , فاتخذوا “العِجل” إلهاً وكانوا ظالمين[16], لكنهم بعد ذلك عرفوا ما هم فيه من ضلال وندموا بعد تجربة فاشلة قاسية[17].

كما انّ الواسطة الماورائية الفرعونية ألهبت مشاعر الإسرائيليين بماديتها ومباشرتها الطقسية , لذلك أرادوا جعل الواسطة بين الخالق والمخلوقات -كما فعل المصريون الفراعنة- صنمية متمثلة , وفي ذات الوقت متفاعلة مع الطقس الديني بصورة حسّية , لا تخضع للحكمة الغيبية التي اعتادت عليها الأديان الإبراهيمية[18].

اذ بعد خروج اليهود من مصر ظهر فيهم مفهوم جديد , هو الثنائية الاعتقادية والاجتماعية , فقسم منهم التزم شريعة (موسى) وآبائه , وآمن بالرب الذي وصفه (موسى) لهم من خلال شريعته , والقسم الآخر ظلت ترتكز في ذهنه صورة الرب المصري المادي “الخفي” . من هنا نشب الصراع بين الكهنة والانبياء , وكلاهما كانت له شعبيته ونفوذه . وقد استمرت هذه الثنائية في المجتمع الاسرائيلي حتى توسّع الانقسام وانفصل المجتمعان . واليوم فمصطلح اليهود يشير الى المجتمع الاسرائيلي الذي اتّبع الكهنة , والذي يعتقد بالإله المصري . اما المجتمعات اليهودية التي احتفظت ببعض العقائد النقية فقد انعزلت في تجمعات خاصة في الشرق الاوسط .

وهذه الثنائية هي التي تفسر ما عاناه الانبياء (ارميا[19], اشعيا , دانيال) داخل المجتمع الاسرائيلي , حيث تم نبذ هذا الشعب[20], فيما كان اليهود السبب الرئيس في قضية صلب المسيح (عيسى)[21]. ولكن كان يهود السبي في (آشور)[22]من اول المؤمنين بالمسيح , في القرن الاول الميلادي[23], وساهموا في قيام المسيحية النسطورية , التي تعتبر احدى انقى الفرق المسيحية تاريخياً من ناحية الاعتقاد .

ان التوراة المعاصرة تتكون من ٣٩ سِفرا , خمسة منها فقط هي التي كانت على زمان النبي (موسى) . وقد تمّ تقسيم هذه الأسفار الى ثلاثة أقسام , (البنتاتيك) أي أسفار (موسى) الخمسة , و (النبيّيم) أي أسفار الأنبياء , و (الكتوبيم) أي الكتابات والأشعار . ورغم انّ (البنتاتيك) هي ما يمكن القول برجوع اصلها الى عصر رسالة (موسى) , إِلَّا انه يمكن القبول ببعض مضمون ما جاء به أنبياء بني اسرائيل واُضيف كملحق الى التوراة الموسوية , وحتى القبول ببعض روح الأناشيد والمزامير . غير انّ اخطر ما تمّت إضافته الى الديانة اليهودية -كنصّ مقدّس- كان (التلمود) , الذي هو شرح وتعاليم الكهنة على التوراة . ويبلغ حجم التلمود البابلي -حيث هناك تلمود فلسطيني- نحو ٥٨٩٤ صفحة , ويتكّون من (المشناة) أي المتن أو النص , ومن (الجمارا) أي الشرح والمناظرات . وتكمن خطورة التلمود في إدِّعاء الحاخامات بورود تعاليمه شفهياً عن الأنبياء , رغم ما فيه من شريعة مبتدعة .

ورغم الاعتقاد بوجود نصٍّ توراتي قديم , للزوم تدوين شرائع الله على يد الأنبياء , إِلَّا انّ التوراة التي وصلت الى الجيل المتأخر كُتبت في بابل , على يد الكهنة اليهود , بعد عصر النبي (موسى) بنحو ثمانية قرون , حيث تلوّث المجتمع الاسرائيلي بأنواع البدع والباطنيات السحرية , وانتشار الماديات والأنانية .

وقد احتكر السلطة الدنيوية والدينية بعد السبي البابلي مجلس كهنوتي اعلى يُدعى (السنهدرين) , الذي ظهر في (القدس) خلال العصر (السلوقي – البطلمي) . ويكفي في معرفة واقع هذا المجلس الكهنوتي ومدى ظلامه ادراك انّه هو مَن حاكم السيد المسيح , بالتعاون مع الرومان الوثنيين , ومن ثمّ حكم بقتله , بعد أنْ واجه دعوته الإلهية الإصلاحية . إِلَّا انّ هذا المجلس هو من كتب التوراة , وهو ذاته من ابدع التلمود ! .

لقد استغلّ الرومان مجلس (السنهدرين) كثيرا , ووسّعوا من صلاحياته حسب الحاجة , ثمّ منحوه صلاحيات دينية واجتماعية اكبر , شريطة عدم الأضرار بالمصالح السياسية الرومانية .

وفي الفترة التي حاكم فيها مجمع (السنهدرين) السيدَ المسيح -بحدود ٢٩ م- كان في أوج صلاحياته , متكوناً من ٧١ عضواً من الكهنة والحاخامات الكبار .

وعند استلام الوالي الروماني (غابينوس) السلطة على فلسطين قسّم المنطقة اليهودية الى خمسة أقسام , وجعل على كلّ قسم منها مجلس (سنهدرين) محليّ , مؤلّف من سبعة أعضاء , تتبع جميعها للسنهدرين الأعلى في (القدس) .

المنطقة اليهودية الى خمسة أقسام , وجعل على كلّ قسم منها (سنهدرين) محليّ , مؤلّف من سبعة أعضاء , تتبع جميعها الى السنهدرين الأعلى في (القدس) .

وكما يبدو واضحاً فإنّ الباطنية الوثنية قد اُشربت في النفوس الكثيرة من بني اسرائيل . لذلك ابتدأ صراع كبير داخل هذا المجتمع , بين الموحدين والباطنيين الوثنيين . ومن ذلك ما فعله (السامريون) , الذين رفضوا كلّ الذي جاء به الكهنة السنهدرينيون , وقالوا بقدسية أسفار (موسى) الخمسة فقط من التوراة , حتى حاول قادة اليهود اخراجهم من اليهودية , إِلَّا انهم لم يستطيعوا , فقام السامريون -بمساعدة اغلب أعداء يهود السنهدرين- ضدّهم , مما يكشف عن اعتقادهم بالخطورة الكبرى التي يشكّلها هذا المجمع , الى الدرجة التي حَرَّم فيها السامريون الزواج من يهود السنهدرين .

والملفت ان السامريين لم يتعاونوا مع الرومان , وكانوا في نفس درجة العداء لهم , كما كانوا في عدائهم ليهود السنهدرين , في الوقت الذي أعانوا (نبوخذ نصّر) ضد السنهدرينيين . وكانت عقيدة السامريين تقوم على التوحيد وتوراة (موسى) والبعث والمعاد , ككل ديانة توحيدية . فيما وافق السامريين -في وقوفهم ضد كهنة السنهدرين والتعاليم الشفوية المدّعاة- طبقة اخرى ظهرت في عهد السلوقيين تُدعى جماعة (الصدوقيين) , وهم من الكهنة والكتبة ايضا , الذين اصرّوا على التزام التوراة الموسوية , ورفض التعاليم الشفوية .

ومن هذه المواجهة -وبإضافة المواقف التي تذكرها التوراة للأنبياء بوجه الكهنة- يمكن معرفة مدى خطورة هذه التعاليم الشفوية المنقولة , لمن عرفها , ولابدّ انّ الكثير منها قد تمّ إخفائه عن العوام , كما قرّر المجمع المنعقد في بولونيا سنة ١٦٣١ م بالإجماع ( حذف العبارات التي تهين الأغيار , وأنّ التعاليم التي تهين المسيحيين لا يصح نشرها ) . ويبدو اقرب الى الذهن -من خلال قراءة هذه المعطيات- انّ تلك التعاليم المتسببة في هذه المواجهة التاريخية الضخمة -الى درجة الانقسام- ليست سوى مجموعة تعاليم (القبّالاه) او (كبّالاه) , السحرية المأخوذة عن طقوس العقيدة الفرعونية السحرية , بعد الخروج من مصر , حيث تمّ تدوينها في بابل . لذلك لم يكن غريباً ان تتضمن هذه التوراة السنهدرينية أوامر لقتل الأطفال والنساء , وحرق المدن والقرى , ونسبة كل رذيلة لأنبياء الله وأوليائه , مما يعني سيطرة كهنة الحضارة (القابيلية) على المجتمع الاسرائيلي , الذي كان يحمل رسالة الله التوحيدية , ولذلك كان الإعلان الأخير للمسيح ببراءة الله من هؤلاء الكهنة -والذي تم ذكر مضمونه في الأعلى- ضرورة توحيدية . ومن هذين المقدمتين أيضاً كان من الطبيعي أنْ يدافع شيخ القبّاليين (موسى بن ميمون) عن التوراة السنهدرينية , تفسيراً وفقهاً وفلسفةً , في كتبه “السراج” و “تثنية التوراة” و “دليل الحائرين” , وَأنْ يعتبره (القبّاليون) بعد ذلك “شيخ الحكمة” .

ومن الغريب أيضاً أنّ قائداً وثنياً للبطلميين هو (بطليموس الثاني) يستمع الى نصيحة (ديمتروس) في ضرورة ترجمة التوراة الى اليونانية , حيث يعني ذلك عولمة التوحيد ! , إِلَّا اذا كان البطلميون موحدين , او متيقنين من وثنية التوراة السنهدرينية . لذلك اجتمع في (فاروس) اثنان وسبعون حبراً يهودياً , لترجمة تلك التوراة , فيما تمّت ترجمة آخر الأسفار في العهد الروماني .

وفي خضّم الثورات الإسرائيلية ضدّ الرومان تمت ترجمة التوراة الى اللاتينية في حدود القرن الاول الميلادي , وهو القرن الذي شهد الى جانب محاكمة السيد المسيح تدمير (أورشليم) .

ولا يمكن فهم كيف تتم الترجمة لكتابٍ يُقدِّسه المغضوب عليهم من الامبراطورية ! . ومن قبل أخذت اليهودية السنهدرينية ما وافق العقيدة الآرية الفارسية , مما سمح لملوك الفرس نفسياً واجتماعياً بالدفاع عن هذه الطائفة سيئة السمعة عالميا .

 

 

 

وفي عهد (يوليوس قيصر) تمتع اليهود بحكم كهنوتي ذاتي . ومن الغريب أيضاً ان يقوم (هيرودس الادومي) -الذي عيّنه الرومان ملكاً على (يهوذا)- ببناء الهيكل مرّة اخرى , رغم انّه كان مبغوضاً من قبل اليهود , لنشره الأصنام والطقوس الوثنية في فلسطين ! , فكيف يأمر مثله ببناء “بيت الرَّبّ” إِلَّا اذا كان بيتاً لأصنام عبيد الربّ ! .

وبعد وفاة (هيرودس) توّلى على (يهوذا) مجموعة من الموظفين الرومان , وفي عهدهم ولد السيد المسيح , وفي عهدهم أيضاً تمت محاكمته من قبل كهنة المعبد اليهودي , تحت نظر الحكم السياسي للرومان , بعد الغلّ الكهنوتي اليهودي ضدّ وجوده .

ثمّ تمّ تعيين (هيرودس اجريبا) ملكاً على فلسطين , وهو حفيد (هيرودس) , وذلك في عهد الإمبراطورين (كاليجولا) و (كلاوديوس) . وكانت هذه الفترة هادئة بصورة غريبة ومريبة هناك , لاسيما بعد محاكمة السيد المسيح .

لكنّ الفترة المضطربة كانت بعد وفاة (اجريبا) , حيث حكم مجموعة من الولاة الرومان , كانوا جميعاً غير مقنعين للشعوب التي تقطن تلك الارض , مما ألهب ثورة اخرى ضدّ وجودهم . وقد استمرت تلك المعارك طيلة حكم (نيرون) و (وسبسيان) , حتى أودعت الامبراطورية امر اخماد الثورة الى (تيطوس) , ابن الإمبراطور (وسبسيان) , الذي نجح في دخول القدس سنة ٧٠ م , ودمَّر المدينة , وأحرق الهيكل , وقتل مقتلة عظيمة , وأخذ الباقين عبيدا .

وبعد نصف قرن قامت ثورة اخرى بقيادة (باركوخبا) , وهو احد زعماء اليهود , الذي اعتصمت جماعته في المواقع الجبلية , وراحوا يقاتلون على طريقة حرب العصابات , وصمدوا لثلاث سنين , حتى تمّ اجتياحهم وإحراق قراهم من قبل الرومان , ومن ثمّ قام (هادريان) بتحويل (القدس) الى مستعمرة رومانية يونانية , وفي عودة غريبة للهيكل تمّ انشاء معبد للإله اليوناني الروماني (جوبيتر) فوق ارضه . وقد ذهب -حسب بعض المؤرخين- في هذه الحملة نحو ٥٨٠ الف يهودي , اذا ضُمّت لسابقاتها فسيكون الضحايا من اليهود عدّة ملايين , مما يكشف عن ضياع الكثير من تاريخ بني اسرائيل الحقيقي معهم .

لكنّ التاريخ الآخر كان واضحاً في الكتل البشرية اليهودية التي تمّ نقلها الى العراق , من خلال الحملتين الآشورية , والمزدوجة البابلية , حيث صار أغلب من وصل من اليهود الى بلاد ما بين النهرين نصارى مسيحيين , بحدود القرن الأوّل الميلادي .

 

 

لقد كان من الضروري قيام الإعجاز الالهي في إيجاد المسيح (عيسى بن مريم) , كما هي ضرورة نسبه الشريف في بني اسرائيل , وكذلك الآيات الكبرى على يديه , من حيث القدرة على الإحياء والمعرفة بإذن الله , بعد هذا الاضطراب الذي عاشه المجتمع الاسرائيلي[24]. انّ هذه الآيات الواضحة في الإعجاز على يد (عيسى) المسيح -فضلاً عن ولادته الإعجازية ايضا- تكشف عن العمق الذي تغلغل اليه السِحر في مجتمع كهنوت بني اسرائيل , والمدى الذي اتقن معه اليهود علوم السحر , وكيف انهم طوَّروا المنظومة الفرعونية , فقرابينهم كانت كبيرة , لقد كانت تلك القرابين ( قتل أنبياء الله )[25].

اما في السنين الاولى للخروج من مصر فلم يكن الامر اكثر من اثر للعداء التاريخي بين الفراعنة وبين الهكسوس , الذين تمّ احتساب بني اسرائيل عليهم , والاكيد انّ (مرنبتاح بن رعمسيس الثاني) في حملته ضد المقاطعات الآسيوية لم يكن يحترم كثيراً الوجود الاسرائيلي .

لكنّ الغرابة تكمن في عودة العلاقات بين مصر الفرعونية وبين مملكتي (بيت عومري) , وهي (إسرائيل) في التوراة , و (يهودا) . حيث كان من المتوقع ان تكون لمملكة وثنية كإسرائيل خيوط ارتباط بالفرعونية المصرية , وقد شكّلت خطراً على المملكة الموحدة في (أورشليم) (يهودا) , لذلك قام الآشوريون – بطلب من ملك يهودا (آحاز بن يوثام) – بحملة تأديبية كبرى على (بيت عومري) , في عهد الملك الآشوري (تجلاث بلاشر الثالث) , فأسقط ملكها (فقح) , وترك لخلفه (هوشع) مدينة (السامرة) فقط . ثمّ عادت (آشور) بحملة اخرى في عهد (شيلمنصر) لمحاصرة (السامرة) , وأتمت احتلالها في عهد (سرجون الثاني) , لتسقط نهائياً وجود مملكة (بيت عومري) .

لكنّ مملكة (يهودا) هي الأخرى خالفت امر نبيّها (اشعيا) , فارتبط ملكها (حزقيا) بمصر الفرعونية , في عهد الاسرة الخامسة والعشرين النوبية , وهي الاسرة الاشدّ انتماءً الى الديانة الفرعونية القديمة في وثنيّتها , حيث قامت باحتلال جميع بلاد مصر تحت دعوى اعادة الديانة الفرعونية الأصيلة . وقد حذّر النبي (اشعيا) من يطلب مساعدة أولئك الفراعنة بأنه يبحث عن الدعم المادي لا الإلهي[26]. لذلك قام (سنحاريب) خليفة (سرجون) بحملة على هذه المملكة المتمردة , ورغم إرسال فراعنة مصر جيشاً لنصرة مملكة (يهودا) إِلَّا انّ (سنحاريب) انتصر عليهم , ثمّ قسّم الكثير من أراضي المملكة اليهودية على الممالك الأخرى القريبة الموالية لسلطانه . وقد ترك الآشوريون هذه المملكة منهارة , تدفع الجزية لهم .

لكنّ (يهودا) عادت لتتمرد على أوامر الله مرة اخرى , فخالفت امر نبيّها (ارميا) , فتحالفت مع فراعنة مصر مرّة اخرى , وحاولت الخروج عن سلطان الكلدانيين ورثة الدولة الآشورية , فشنّ (نبوخذ نصّر الثاني) حملة لتأديبهم , وحاصر (أورشليم) , حيث توفي ملكها (يهوياقيم) اثناء الحصار , فخلفه ابنه (يهوياكين) , الذي اضطر الى الاستسلام , فعيّن (نبوخذ نصّر) الملك (صدقيا) -عمّ (يهوياكين) – بدلاً عنه . إِلَّا انّ (صدقيا) عاد الى الدخول في الحلف الذي أنشأه فرعون مصر (حوفرا) , للتمرد على (نبوخذ نصّر) , وتدخّل النبي (ارميا) مرة اخرى , لثني (صدقيا) عن ارادته هذه , إِلَّا انّ التمرد النفسي قاد الى التمرد السياسي , فغضب (نبوخذ نصّر) , وَقاد حملة عسكرية بنفسه , حاصر بها (أورشليم) , إِلَّا انّ فرعون مصر (حوفرا) أرسل جيشاً لنصرة مملكة (يهودا) , فانسحب البابليون الكلدان عن (أورشليم) لملاقاة المصريين , فظنّ اليهود انّ النصر حليفهم , ولم يأخذوا بنصيحة نبيّهم (ارميا) , الذي اخبرهم بوهم هذا الاعتقاد , فسجنوه , في وثنية مبطّنة خطيرة . إِلَّا انّ الفراعنة انهزموا امام البابليين , فعاد البابليون لمحاصرة (أورشليم) , وأسقطوا مملكة (يهودا) .

وقد كان من نتائج كل هذه الحملات الآشورية والبابلية أربعة أمور مهمة :

الأوّل : سبي أعداد غفيرة من اليهود الى شمال العراق وجنوبه , تهيأت لهم فرصة الانفلات عن غلواء الفرعونية الباطنية , التي قادها زعماء الكهنوت السياسي , مما جعل هؤلاء اليهود المسبيين احدى الطوائف الأُول التي آمنت بالسيد المسيح لاحقا .

الثاني : وضوح الاختلاف بين المجتمع النبوي في اسرائيل وبين المجتمع الكهنوتي السياسي .

الثالث : تعرّف الساسة العراقيين على المجتمع النبوي الاسرائيلي والتواصل معه .

الرابع : هجرة جماعات من كهنوت السياسة اليهودية الفرعونية نحو أوروبا وشمال افريقيا , خلال الفترة التاريخية ٨٠٠ – ٥٨٦ ق م .

ورغم انّ الانحراف والشرخ بدا واضحاً داخل المجتمع اليهودي بقرون قبل ميلاد السيد المسيح , كذلك تحكي سيرة المؤرخ المتذبذب (فلافيوس جوزيفاس) كيف انّ هناك ناساً من اليهود كانوا يوالون الدولة الرومانية اكثر من ولائهم لليهودية , حيث عيّنه الرومان حاكماً على (الجليل) , بعد زيارته روما عام ٦٣ م , ثمّ قاتل الى جانب الرومان في زمان (طيطوس) , ومنحه (ڤاسبيان) لقب مواطن روماني , إِلَّا انّ القسم الآخر من اليهود كان لازال يحتفظ بخصائص بلاد الرافدين , حيث كانوا يوقدون النيران في الليل ليرشدوا السائرين , وليدعوهم الى الضيافة والاكرام , كما كان يفعل العرب , اعلاءً لشرفهم وصيانة لمجدهم[27]. ومن ذلك يُعلم مدى عمق الصدع داخل الكيان اليهودي , بسبب الاختلاف الساري فيهم في فلسفتهم الاعتقادية بعد خروجهم من مصر الفرعونية , حيث تحوّلت العقيدة الى سلوك ورؤية للحياة .

انّ أشدّ الفترات على الوثنيين من اليهود كانت خلال الفترة ٨٠٠ – ٧٠٠ ق م , وهي ذات الفترة التي خرجت فيها عوائل فرعونية كبيرة من مصر , عند سيطرة الأسر الليبية على الحكم , ومن ثمّ الاسرة الخامسة والعشرين النوبية , لذلك شهدت أيضاً هجرة إعداد كبيرة من الأسر الباطنية الوثنية التي كانت تدير دفّة السياسة والكهنوت في (بيت عومري) او (إسرائيل) , وهي ذات الفترة التي شهدت انشاء (روما) في العام ٧٥٢ ق م , لذلك لا يمكن استبعاد أنْ تكون العلاقة بين هذه الحوادث وثيقة , خصوصاً مع وجود العلاقة الاعتقادية الباطنية التي ثبتت أعلاه , وبالفعل كان اليهود حاضرين بكثافة في العاصمة (روما) في ظلّ حكم (نيرون) , مما سمح له باتهامهم بحرق المدينة , ولا يُستبعَد قيامهم بذلك , رغم كل الاتهامات بالأمراض النفسية الموجهة الى (نيرون) , والتي تريد تحميله وزر احراق المدينة , اذ لا مبرر مقنع ليقوم الإمبراطور بحرق عاصمته الكبرى .

لقد ظلّ اليهود دائرة من الضباب , منقسمين فكراً وسلوكاً حتى ظهور المسيحية , حيث آمن يهود الشتات بها , في العراق , وفي شمال افريقيا , وفي عدّة بلدان اخرى , فيما ظلّ يهود (السنهدرين) مصدراً لمعاداتها في اليهودية , انطلاقاً من الهيكل . ثمّ تغيّر الموقف , حين صار يهود الهيكل او (السنهدرين) هم مَن في الشتات , وصار يهود الشتات السابقون مستقرين في اوطان تؤمن بالمسيحية .

لقد اغلقت التوراة المحرفة وتفسيرها (التلمود) الأبواب على كل من أراد الدخول في ( شعب الله ) , في أجلى صورة للعنصرية , مما يعني إرادة إغلاق ملف التوحيد , لولا تدخّل العناية الإلهية عن طريق النبي (سليمان) .

 

 

 

 

 

المبحث الأول: محكمة المسيح

 

 

اليهودية الوارثة لمجمع السنهدرين الكهنوتي , الذي اُشبع بالعقيدة الفرعونية , كانت مادية , تكره الروح , حتى حاكمت المسيح نبي الله , والتي أنتجت شيخ المجسمين (كعب الأحبار) , والمترعرعة في كنف الوثنية الرومانية .- يقول (إسرائيل شامير) في كتابه ( مقدمة في الكبّالا ) ما نصه ( الان نشهد هذه الظاهرة ايضا ً : هناك عشرات المعاهد حيث يُعلّمون ” غير اليهود ” نوعاً من اليهودية  . لا ليتحوّلوا , بل ليشكّلوا مستوى ثانياً من الدعم . فالعديد من الناس الدينيين يفضّلون ” ربّاً لا دينياً ” , وهو ما يتلاءم ايضاً مع النمط اليهودي , فالإيمان بوجود إله هو شكل آخر مقبول عند اليهود , لأنه يدعم الادّعاءات بانه لا توجد نقاط مركزية مقدسة جدا … شروط ” الكنيسة اليهودية ” على جمهورها من غير اليهود ليست قاسية جداً , فهم – الجمهور غير اليهودي – قد يفعلون ما يريدون , وقد يجمعون الثروة والمال , بشرط ان يتخلون عن ” روحهم ” , ولا يلتمسون أيّ الهام روحي . كما يجب الّا يساعدوا بعضهم البعض ) .

ان المجتمع الروماني هو المجتمع الوحيد الذي وجد انسجاماً سلوكياً وتحالفاً سياسياً مع الفاسدين من كهنة اليهود , بعد المجتمع الفرعوني . لذلك تمتع اليهود الفاسدون في العهد الروماني بما يشبه المعاملة الحسنة , على خلاف ما لاقاه اليهود الذين ظلوا بعيدين عن الوثنية , حتى وصل الامر الى الحكم بإعدام المسيح (عيسى) , بتشريع يهودي , وتنفيذ روماني .

الامر الآخر هو قيام الدولة الرومانية بذبح المئات من المسيحيين الحقيقيين , لكنها تحولت فجأة بعد ذلك الى المسيحية , بثوب وثني وفلسفة ثالوثية , لتذبح المسيحيين الموحدين ايضاً بداعي التجديف! . وهذه المفارقة هي ذاتها التي عاشها اعداء المسيح التقليديين من اليهود , مثل (بولص) , الذي تحول ليكون داعية الى المسيحية , لكنها المسيحية الوثنية الرومانية ذاتها .

وحين جاء المسيح الى بني إسرائيل اتهمه كهنتهم بالسِحر , وحاولوا جاهدين القضاء على رسالته الأخلاقية[28]. وعند هذا المستوى المتدني جداً , الذي وصله النافذون والنخبة وأصحاب المال في مجتمع بني إسرائيل , صار من اللازم انقاذ من بقي منهم على فطرة الدِين الأول , وهم كثيرون , بالإضافة الى اعلان انحراف نخبتهم رسميا , وأنهم اصبحوا لا يمثلون شريعة الربَ .

ان هذا الامر لم يكن سينجح على يد شخصية عادية , بل على لسان نبي من انبياء الله . لكنّ هذا النبي -ليقنع مجتمع بني إسرائيل- كان لازماً عليه ان يأتي بظروف وخصائص اعجازية , وأن يبهر تلك العين المادية لبني إسرائيل .

فتوفرت ل(عيسى) المسيح مجموعة خصائص , مكنته من القاء الحجة على مجتمع بني إسرائيل , وإحراج نخبتهم , مثل ولادته الاعجازية التي فاقت الكثير من المعاجز , ونسبه الملكي الى (داوود) , وكفالته من عائلة نبوية . لقد وفّرت هذه النقاط الثلاث تغطية مناسبة جداً لتحرك (عيسى) , لفضح كهنة بني إسرائيل , وبيان انحرافهم , بما يمنع أي شخص من تكذيبه .

فكانت وظائف المسيح الرئيسة مرتبطة بإعلان “سلب راية الايمان” من يد كهنة بني إسرائيل , وإعلان انحراف المجتمع الإسرائيلي , خصوصاً النخبة الكهنوتية , واستنقاذ الموحدين من بني إسرائيل , وفصلهم عن المنظومة اليهودية , والتمهيد لقيام مجتمعات توحيدية اخرى , تحمل راية الايمان والتوحيد , والتخفيف من غلواء المادية التي طغت على بني إسرائيل وعلى العالم .

ومن النافع تناول محاكمة السيد المسيح ذاته لكهنة اليهود المنحرفين في ( الهيكل ) , قبل ان تتم محاكمته من قبل الرومان , ومنها يمكن معرفة مدى الخطر الباطني والدنيوي الذي وصله هؤلاء المتحدثون باسم الله , حيث جاء مصدقاً للتوراة , ومبشراً برسول يأتي بعده , مظهراً للمعجزات , لكنّ كهنة اليهود قالوا أن ما شاهدوه منه ليس سوى السِحر , وأرادوا جاهدين أن يقضوا على رسالته الإلهية[29].

ان البشارة المسيحية كانت في الغالب عودة باليهود الى عالم الروح , وكسراً لقالب المادية الذي اخترق اجسادهم , التي أضحت بلا روح[30]. في حين كانت معجزات السيد المسيح مادية , مرتبطة بالجسد غالبا , لتساير هذه الحالة اليهودية الجديدة , كما في معجزة ( أرغفة الخبز الخمسة ) , التي اطعم بها خمسة آلاف من بني إسرائيل قبل دخول ( الهيكل ) ليعلن إعلانه الأخير[31]. وكان (عيسى) يدرك جيداً تفكير بني إسرائيل وفلسفتهم الجديدة , فأراد أن يبهرهم وينبههم لما هو قادم , فكانت ردة فعلهم ( حَقّاً, هَذَا هُوَ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ )[32], وَعَلِمَ (يسوع) ( أَنَّهُمْ عَلَى وَشْكِ أن يَخْتَطِفُوهُ لِيُقِيمُوهُ مَلِكاً ) , فكانت ردة فعله ( فَعَادَ إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ )[33]. وحاول -بموعظة أخلاقية- ان يخرجهم من ذلك العالم المادي الذي ادخلهم فيه كهنتهم وأغنياؤهم[34], وهو يسير ماراً بالكثير من مدن فلسطين , قاصداً الى مدينة (القدس) , يحرك المشاعر بداخل اليهود ويعيد اليهم روحهم التي فقدوها , ليدخلهم في ذلك الجو الاخلاقي السامي من الدِين , بل اسمعهم مفاهيم جديدة مثل التضحية والشهادة [35], وهذا ما يختلف عن الفكر الإسرائيلي القديم[36].

لقد جاء (عيسى) وأحوال بني إسرائيل في غاية من الفساد والإفساد. فعقائدهم قد طمست, وأخلاقهم قد رَذُلَتْ, وسيطرت عليهم المادية, حتى إنهم اتخذوا من المعبد سوقاً للصيارفة والمرابين, وملهىً لسباق الحمام , فأخرجهم منه , واتهمهم بأنهم جعلوه ( مغارة لصوص )[37], وأخبرهم بأن العقوبة الثانية قادمة إليهم على إفسادهم الثاني[38].

ثم توجه المسيح (عيسى) الى ( الهيكل ) , وهو رمز بني إسرائيل في (أورشليم) , ليعلن ذلك ( الاعلان الأخير ) في بني إسرائيل , لكن يجب اولاً ان يحتج على الزعماء وكهنة هذا الميراث من الانحراف وقتلة الانبياء باسم الدين , فسألوه عن حُجته , بمعنى أنهم لم يختاروه , فاحرجهم حين سألهم عن معمودية (يوحنا) , من الله أم منهم ؟ , فاذا قالوا من السماء وهم لم يتبعوه كان الامر محرجا , وإن قالوا من الناس كانوا محرجين من الشعب الذي يرى (يوحنا) نبيا , فقالوا “لا نعلم” , فأخبرهم أنه ايضاً لن يشرح لهم حجته , وضرب لهم مثلاً يشبه ما هم فيه من دعوى القيادة والكهنوت , بولدينِ , أحدهما رفض أمر أبيه بالعمل في الزرع , لكنه مضى الى العمل لاحقا , وهذا هو حال الزانيات والخاطئين , والآخر قال انه ذاهب الى العمل , لكنه كذب وظل ولم يذهب , وهذا هو حال مدعي الكهنوت المنحرفين , فأيهم استجاب لأمر الله ؟[39], ثم أوضح حقيقة هؤلاء الزعماء والكهنة أمام الشعب , بأن الزانيات والخاطئين افضل منهم , لأنهم تابوا وآمنوا ب(يوحنا) , وهؤلاء الزعماء والكهنة لم يتوبوا ولم يؤمنوا[40], ثم اردفهم بمثل آخر يحرق اوراقهم , فضرب لهم مثال العبيد العاصين لأوامر إلههم والقاتلين لأنبيائه , بأنهم كالعمّال الذين يعصون أمر سيدهم مالك الأرض , الذي غرس الزرع بيده وبنى سور البستان , ويقتلون عبيده الذين يرسلهم لجني الثمار , حتى أنه حين يأس منهم أرسل ابنه اليهم , لعلهم يهابونه , لكنهم اخذوه وقتلوه طمعاً بالبستان , وسألهم المسيح عن الاجراء المناسب الذي على صاحب البستان فعله بأولئك العاصين الطاغين ؟[41], فأجابوه -مضطرين- بأن عليه إهلاكهم وتسليم البستان الى غيرهم من الصالحين للعمل[42], وأخبرهم بأنهم -بجهلهم- كمن رفض ( حَجَر الرب ) الذي هو حجر الزاوية في البناء الصالح[43], وهنا حانت اللحظة , فأعلن المسيح ذلك الاعلان العالمي ( لذلك اقول لكم: ان ملكوت الله يُنزع منكم , ويُعطى لأمة تعمل اثماره )[44] , نعم , تم نزع ( ملكوت الله ) منهم , وتم نقله الى أمة تعمل من اجل ثمرة التوحيد النقية الطيبة .

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الثاني: اضطهاد الرومان للمسيحيين[45]

 

 

ذكرت بعض المصادر انّ (نيرون) الصق تهمة احراق (روما) بالمسيحيين , ربما لأنهم كانوا في هذا المرحلة المتقدمة من تاريخهم (٦٤ م) جزءاً من المنظومة التوحيدية اليهودية , التي كانت متهمة -لما يمتلك بعض كهنتها من تاريخ تآمري- بتدبير الكثير من الحوادث المشابهة , لا أقلّ من قتلهم الأنبياء . وربما كان كهنة اليهود -ذوو العلاقة المميزة مع الوثنية الرومانية- هم من افتعل هذه الأحداث لإيقاع الضرر على المسيحيين الذين يشكّلون خطراً كبيراً على الوثنية اليهودية الجديدة .

انّ الأحداث التي اعقبت حريق (روما) شهدت ما يشبه الإبادة للمسيحيين في (روما) , حيث حُكم بالموت على اعداد ضخمة منهم , بأبشع الوسائل , فصُلب بعضهم , ولُفّ بعض اخر في جلود الحيوانات , وتمّ إلقامه للكلاب المسعورة في المسرح الروماني , فيما بلغت الوحشية ذروتها عندما تمّ طلي المسيحيين بالقار والزيت وإشعالهم في حدائق (روما) ليلا .

اما (دوميتيان) فقد اعتبر اعتناق المسيحية جرما , وحكم على المسيحيين بالموت , ومنهم قريبه القنصل (فلافيوس كليمنس) , وصادر أموال بعضهم , ووسّع اضطهاد كنائس آسيا الصغرى , فيما ألقى القديس (يوحنا الانجيلي) في زيت مغلي في (روما) .

واعتبر الإمبراطور (تراجان) المسيحية ديانة محرّمة , واعتبر تجمعاتها من التجمعات السرية الممنوعة قانونا , وقد استغلّ اليهود هذه التشريعات في عهده , فاتّهموا (سمعان) اسقف (أورشليم) , فحُكم عليه بالصلب وهو في سن المائة والعشرين , وكذلك تمّ الفعل بأسقف إنطاكية (إغناطيوس) , فاُرسل الى (روما) وألقي الى الوحوش الضارية .

ورغم انّ التمييز بين الجماعتين -اليهودية والمسيحية- صار معتاداً بحدود عام ١٥٠م , إِلَّا انّ الاضطهاد الروماني للمسيحيين استمرّ وبقوة , فرضاً للديانة الرومانية , التي لم يتم فرضها سابقاً على اليهود بهذه الكيفية , بل كان الخلاف مع جزء من اليهودية في ظاهره سياسي , بينما كانت (روما) تتعامل مع يهود (السنهدرين) بإيجابية . وقد كانت أوامر (روما) تقضي بضرورة احترام المسيحيين للآلهة الحارسة للإمبراطورية , وتقديم القرابين للأصنام , كما يجب الاعتقاد بعبادة الإمبراطور ذاته .

وحتى على مستوى إمبراطور فيلسوف ومثقف مثل (اوريليوس) لم تكن المواجهة لتخفّ , بل انتقلت من التجريم القانوني للمسيحية الى تجريم وجودها فلسفيا , فهدّد من يُخَوِّف النَّاسَ من الله بالنفي . وفي عهده -الذي انتشرت فيه الكوارث الطبيعية ضمن رقعة الامبراطورية- تمّ إرجاع ذلك الى ذنوب المسيحيين وإساءتهم للآلهة الرومانية , لذلك تمّت محاصرتهم اجتماعياً وسياسيا . وكانت هناك عمليات اضطهاد واسعة في (ليون) عام ١٧٧م .

وفي عهد (سبتميوس ساويرس) يمكن رؤية التناقض , الذي يكشف عن وجود نوعين من المسيحية , كالنوعين الذين انقسمت لهما اليهودية من قبل , حيث رغم وجود بعض المسيحيين في بلاط هذا الإمبراطور , كطبيبه (بروكولس) , إِلَّا انه اصدر مرسوماً يمنع المسيحيين من الدعوة الى دينهم والتبشير بما جاء فيه , فتعرّض المسيحيون في مصر وشمال افريقيا على اثر ذلك الى مذابح عديدة , لا سيما في قرطاجة عام ٢٠٣م .

امّا (مكسيميانوس) الذي سمح للشعب في المشاركة باضطهاد المسيحيين , فقد وجّه غضبه نحو الأساقفة الكبار , حتى انّ معاملته مع المسيحيين وصفت بالبربرية القاسية .

فيما قرّر (ديسيوس) عام ٢٥٠م انّ من يكتفي باسم المسيحي ولا يقدّم الأضحية الى الآلهة الصنمية يتعرّض للملاحقة , وهو القانون الذي أعاد (فاليريانوس) تأكيده عام ٢٥٧م . وقد كانت عمليات إعدام المؤمنين المسيحيين تؤخِّر فرص الوصول الى اتفاق . حيث أراد (ديسيوس) اعادة الديانة الامبراطورية القديمة , فاستغلّ حكّام الأقاليم هذا المرسوم وصاروا يذيقون المسيحيين أشدّ انواع التنكيل والعذاب , حتى ضعف بعضهم وقدّم القرابين الى الآلهة الوثنية , لكنّ الكثيرين فضّلوا السجن او الموت على ذلك , ومن هؤلاء (مرقوريوس) و (فابيانوس الروماني) و (بابيلاس الأنطاكي) و (إسكندر الأورشليمي) .

فيما كان عهد (فاليريانوس) متناقضاً , كعهد (سبتميوس ساويرس) , حيث تضمّن بلاطه مجموعة من المسيحيين , إِلَّا انه اصدر قرارات اجرامية ضدّ العموم المسيحي , وقرّر إعدام كبار رجال الدين المسيحيين , ومصادرة املاك الأغنياء وألقاب الفرسان والنبلاء منهم , فيما تسلب أموال النساء المتزوجات , والصغار يتم أخذهم للعمل في ضياع الإمبراطور سخرة . وممن تمّ قتلهم في عهده (سكستوس الثاني) اسقف (روما) , و (كبريانوس) اسقف (قرطاجة) .

وحين جاء (اوريليان) اصدر اوامره بقتل المسيحيين من جديد , رغم فترة الهدوء البسيطة نسبياً قبله . وقد خلفه مجموعة من الاباطرة كانت فترتهم هادئة قياساً الى عهده , حتى مجيء (ديوقليديانوس) .

لقد دخلت المسيحية في صراع غير متكافئ مادياً مع الوثنية العتيقة للرومان , وقد كانت صور الموت منتشرة ومعتادة بين المسيحيين المؤمنين , والذين دخلوا في عصر الشهادة , ليواجهوا هذا الطغيان الكبير . وكانت حرب الوثنية الرومانية على المسيحية المسالمة هي الأشد إبادة والأطول زمانا , وأكثر من عرقلت انتشارها[46].

ونظر الرومان الى المسيحية على انها خرافة , لا ديانة , دنيئة لا تستحق ان يُنظر اليها -بحسب رؤيتهم- , فواجهوا انتشارها باعتبارها محرّمة رسمياً . وحسب رواية (ترتليانوس) صار التعبير الموجّه للمسيحي هو “لا حقّ لك في الوجود” .

لم يكن المنطلق الديني -بالمعنى الفلسفي- هو وحده ما يبعث على التحريض وقمع المسيحية , بل كان هناك الباعث النفعي المستغلّ للدين , كما هي دوافع (ديمتريوس) الصائغ في (افسس) , وأيضاً دوافع تلك الساحرة في (فيلبي) , حيث يشرح حاكم (بيثينية) المدعو (بليني الصغير) عام ١٠٠م في تقرير للإمبراطور كيف تسبب انتشار المسيحية وزيادة عدد معتنقيها في تقليل عدد التقدمات الى الآلهة , وهو ما يعني انحسار سوق الذهب والبخور وغيرها , كما هو انحسار شديد لعمل العرّافات والكهنة .

كان المسيحي مكشوفاً للسلطة , حيث يعاني الانفصال عن لغة المجتمع الوثنية , وسوقه الوثني , وأعياده الوثنية , وأسرته الوثنية , وطقوسه الجماعية الوثنية , لذلك كان يعاني في كل نَفَس وفي كل خطوة .

ومن القصص التي يوردها (يوسابيوس) تلك التي تحكي استشهاد الضابط (مارينوس) في (قيصرية) , حيث دُعيَ للترقية الى رتبة قائد مائة , لكنّ زميلاً له طعن فيه , وأتهمه بالمسيحية , فأعطى القاضي ل(مارينوس) ثلاث ساعات ليختار بين الإنجيل والسيف , فاختار الإنجيل , وقضى شهيدا .

وفي مرحلة تاريخية متأخرة بحدود ٣٠٦ م كانت كافية لإدراك المعاني الفلسفية والمعرفية والروحية للمسيحية , زار الإمبراطور (ماكسميانوس) مدينة (قيصرية) , في ذكرى ميلاده , وفي عادة هؤلاء الاباطرة الوحشية والسادية والدينية في نفس الوقت قرّر تقديم اضحيات بشرية تبتلعها الحيوانات المفترسة , فجاء باثنينِ , احدهما مسيحي هو (اغابيوس) , والآخر مجرم وثني قاتل , لكنّه اطلق سراح القاتل , وعرّض المسيحي للاستهزاء في العامَّة , ثمّ القاه الى أنثى دب جائعة , ولمّا لم يمت القاه في البحر .

وقد وصل الامر في (ليون) و (فيينا) الى منع المسيحيين من الدخول الى الاسواق والحمامات العامة , وذلك في عهد (اوريليوس) , من خلال تحريض العامَّة من الوثنيين وترك الامر اليهم , حتى انّ الجمهور أخذ يعذّب المسيحيين ويقتلهم , ومن ثمّ ألقى جثثهم في نهر (الرون) . فيما كانت بيوت بعض المسيحيين تتعرض للسرقة والحرق . وفي احدى المحاكمات الغريبة لرجل دين مسيحي في (ازمير) يُدعى (بوليكاربوس) كان القاضي يصادق على رغبات الجمهور الوثني كأحكام قانونية , وحين دعوا لحرق الرجل اقرّ القاضي ذلك , فجمعوا الحطب استعداداً لذلك في الحال .

قام الرومان باضطهاد المسيحيين في مصر , باعتبارهم خطراً يهدد سلامة الدولة , لعدم مشاركتهم في إقامة الشعائر وتقديس تماثيل الاباطرة . وقد بدأ اضطهادهم في مصر بطريقة منتظمة خلال حكم (سبتميوس سفروس) بحدود ١٩٣ – ٢١١م , وبلغ اشدّه في أواخر عصر (دقلديانوس) في حدود ٢٨٤ – ٣٠٥ م , وهو ما تسمّيه الكنيسة “عصر الشهداء” .

انّ القراءة المسيحية المعاصرة لفترة الاضطهاد الأكبر والأبشع والاقسى في تاريخ المسيحية خلال عهد (دقلديانوس) ليست قائمة على منطق عقلي فاحص , انما هي قراءة ترى فترتين من التسامح والاضطهاد , من تغيّر المواقف السياسية , من الاختلاف بين الشرق والغرب بالصدفة . لكنّ الامر ليس كذلك , حيث انّ (دقلديانوس) خرج بأمر إهلاك المسيحية من داخل الغرفة المقدسة في المعبد , وهو الرجل الذي كان يشغل المسيحيون الكثير من الوظائف داخل قصره , فيما كان صهره (جالريوس) وثنياً متعصباً , وهو زوج (فالريا) ابنة الإمبراطور التي كان البعض يراها مسيحية , وكذلك أمها (بريسكا) ! . انّ هذه الشبكة التي احرقت المسيحيين لاحقاً لم تكن يوماً لتؤمن بالمسيحية أبدا , لكنها بدأت مشروعاً جديدا , حين وصلت بالمسيحيين الى ما وصلت اليه الفرعونية باليهود , حينما جعلت قسماً منهم يهوداً وثنيين , يقودهم كهنوت الظلام في السنهدرين , كذلك أصبحت المسيحية على قسمين , نتج احدهما عن كهنوت الظلام الجديد الذي أسسه (بولص) .

انّ هذا المشروع يقتضي إبادة كل الجماعات المسيحية التي لا تزال توّحد الله , والإبقاء على الجماعات (البولصية) , التي ستتعبّد بالديانة الرومانية الجديدة , وهي القائمة على الوثنية (البولصية) , التي يمكن تسميتها النسخة المحدَّثة عن الديانة الرومانية القديمة , والتي هي أيضاً كانت نسخة محدثة عن الديانة الفرعونية القديمة .

لذلك كانت قسوة المشروع الخبيث هذا تصب جام غضبها على المسيحيين الشرقيين الموحدين , وتلك الشعوب التي ترتكز الى فلسفة التوحيد الإبراهيمية , بينما تم الإبقاء على الجماعات المسيحية في الغرب , التي ترتكز الى أصل وثني تمّ تلويثه بالبولصية الوثنية , لتكون الارضيّة المستقبلية لانطلاق المسيحية الرومانية .

وسواءً كان ما نقله (شاف) عن لسان الكاهن وهو في حرم الآلهة -مخاطباً الإمبراطور الذي يرافقه خدمته من المسيحيين- “انّ الآلهة لا تتكلم في حضرة اعدائها” , قاصداً أولاء المسيحيين , او ما نقله (لكتانتيويس) من تأثير صهر الإمبراطور (جالريوس) الوثني المتعصب المتعطش للدماء , من أسباب لثورة (دقلديانوس) الأعنف ضد المسيحيين , فذلك لا يبرِّر قسوتها ومنهجيتها وتخطيطها العالي .

انّ السببين الذين تمّ ذكرهما آنفاً كانا عاملين ساعدا في تحقيق الرغبة الوثنية الوحشية للإمبراطورية , والمنسقة بإتقان , لإبادة مسيحيي الشرق , والإبقاء على المسيحية البولصية (الكاثوليكية) في الغرب . اذ لا يستطيع كاهن ما التحدث باسم الآلهة بحضور الإمبراطور , والذي هو ( الكاهن الأعظم ) و ( ابن الآلهة ) , فضلاً عن اخباره بامتناعها عن الكلام , وليس الإمبراطور ساذجاً وهو يرث هذا العرش الضخم ليكون تحت تأثير (جالريوس) زوجة ابنته , التي يُفترض انها مسيحية ! . انّ هذه العمليات كانت مخاضاً اوليّاً لولادة ديانة جديدة , سرقوا لها عنواناً , وتبع ذلك مجموعة مخاضات لاحقاً في عموم أوروبا , لتبدأ سلسلة من الأفكار والجماعات والهوس , حتى الوصول الى القرن الأخير المعاصر , كل ذلك بخدعة قديمة , تمّ تطبيقها لأوّل مرة من قبل الحضارة القابيلية الاولى .

اصدر (دقلديانوس) مرسوماً عام ٣٠٣م يقضي بهدم الكنائس وحرق الكتب المقدسة وطرد ذوي المناصب الرفيعة وحرمانهم من الحقوق المدنية وحرمان العبيد من الحرية إِنْ اصرّوا على المسيحية . فيما نصّ المرسوم على عقوبة لم يحدد ماهيتها . لقد بدأ تنفيذ المرسوم مباشرة في عيد “الانتهاء” , بعد ان تمّ تعليق منشور المرسوم على جدران القصر الإمبراطوري ذاته , لذلك كانت كنيسة (نيقوميدية) القريبة منه اوّل ضحايا قرار الهدم هذا , لتسري هستيريا القتل والهدم في جميع الأقاليم . وفي خطة جديدة قديمة أيضاً قام شخص ما بإحراق اجزاء من قصر الإمبراطور , وبالتالي اتهام المسيحيين بتهمة محاولة حرق الإمبراطور وصهره احياء , فانفجر العنف والقتل والحرق ضد المسيحيين كبركان . وهو الحريق الذي نسبه (قسطنطين) للإضاءة لاحقا , بعد استتباب الأمور للمسيحية البولصية , لتبرير إعلانها ديناً إمبراطورياً , رغم اتهامها بالإجرام سابقا . وأصدر (دقلديانوس) مرسومين اخرين , يقضيان بسجن جميع شيوخ الكنائس , وتعريضهم للتعذيب , بقصد إجبارهم على ترك الإيمان بالمسيحية . اما الخطة التي انتهجها (دقلديانوس) لإصدار أوامر امبراطورية يتم تطبيقها في اقليم دون اقليم اخر , وكذلك تمكّن الامبراطورية من الاشراف المباشر والسريع على إبادة المسيحيين , عبر بتقسيم الامبراطورية الى أربعة أقاليم , تخضع ل(روما) مركزيا , لكنها تحت حكم حاكم برتبة إمبراطور . فكان (دقلديانوس) حاكماً على الشرق في آسيا ومصر و (تراقيا) , وجعل مقرّه في (نيقوميدية) , وكما هو واضح فالشرق مهد المسيحية ومصدر قوتها الفكرية والبشرية , ومن ثمّ (جالريوس) الذي حكم (الدانوب) لبعض الوقت , لكنّ الحاجة لسرعة الإبادة جعلت (دقلديانوس) يستدعيه الى الشرق , و (مكسميانوس هركوليوس) على إيطاليا وإفريقيا , و (قسطنطينوس كلوروس) على (غاليا) التي هي فرنسا حالياً بما يتبعها من أقاليم , وهو والد (قسطنطين الكبير) الذي اقرّ المسيحية كدين رسمي لاحقا . وقد اصدر (مكسميانوس هركوليوس) قراراً امبراطورياً أيضاً يقضي بإرغام جميع المسيحيين في المدن والقرى على التضحية للآلهة .

لكنّ ملامح تلك المؤامرة الكبرى ضد الشرق المسيحي الموحِد والفيلسوف تكشّفت عندما اختار (دقلديانوس) -قُبيل استقالته عام ٣٠٥م- (مكسميانوس دازا) قيصراً , وأطلق يده في سوريا ومصر , وهو ابن اخ المتشدد الوثني (جالريوس) . ولمعرفة شخصية (دازا) هذه يكفي معرفة انه اصدر مرسوماً يقضي بإعادة بناء مذابح الأوثان , وأن يقدّم الرجال والنساء والأولاد وحتى الرضّع الذبائح والتقدمات الى الآلهة , وتذوّق تلك التقدمات بالإكراه , وتدنيس الأطعمة التي تباع في الاسواق بسكائب الذبائح تلك , ووقوف الحرّاس امام الحمامات العامة لتدنيس من يدخل اليها للاغتسال . وفي عام ٣١١م امر (دازا) ببناء الهياكل في كل مدينة وإعادة الأحراش الوثنية المقدسة التي ازيلت سابقا , وعيّن كهنة الأصنام , وجعل عليهم في كل مقاطعة رئيساً , ومنح جميع السحرة وظائف ادارية , وأمر لهم بامتيازات خاصة .

وكما هو مكشوف فقد اقتصر الاضطهاد العام تحت قيادة (دقلديانوس) على الفترة (٣٠٣ – ٣٠٥م) , لكنّه في الشرق الذي يديره (جالريوس) و (دازا) استمر لفترة طويلة (٣٠٣ – ٣١١م) , فيما كانت اقسى فتراته التي اقتصرت على الشرق خلال (٣٠٨ – ٣١١م) .

وفيما تصف الكنيسة المعاصرة -بسذاجة- القيصر (قسطنطين كلوروس) بالعطوف على المسيحيين في الغرب , وتُرجِع لابنه (قسطنطين) الفضل في الاعتراف بالمسيحية والتسامح الديني , تفوتها تلك المؤامرة على مسيحية الشرق الموحِدة , ضمن لعبة لانعاش القابيلية الفرعونية الرومانية , تحت راية المسيحية , بعد ادراك الرومان قوّة هذه الديانة , وشريانها في المجتمع العالمي رغماً عنهم .

 

 

عقائد (روما) المسيحية التثليثية

 

اصدر الإمبراطوران المشتركان (قسطنطين) و (ليكينيوس) -بعد التقائهما عقب الانتصار في معركة “قنطرة (ملفيا) ” قرب (روما)- بياناً مشتركاً , أعلنا فيه التسامح الديني , وأجازا المسيحية كدِين يمكن للعامّة الاعتقاد به . وكان ذلك بعد هزيمة (مكسنتيوس بن مكسيميانوس) في المعركة السابقة . وكان ذلك اللقاء في (ميلان) , فعُرف المرسوم باسم ( مرسوم ميلان ) , الذي صدر عام ٣١٣م . ومن الغريب ان يتبعهما الإمبراطور الديكتاتور (دازا) الإرهابي بمرسوم مشابه , أعلن فيه التسامح الديني , وسمح للمسيحية الجديدة بالظهور .

لكنّ إمبراطور الشرق (ليكينيوس) عاد لاضطهاد المسيحيين الشرقيين مرةً اخرى , فواجهه (قسطنطين) , وانتصر عليه في عام ٣٢٣م , ليصبح (قسطنطين) إمبراطوراً وحيداً للشرق والغرب الروماني . كما صار (قسطنطين) -كنسياً- اوّل الاباطرة المسيحيين .

انّ هذا التلاعب بعقائد الناس وحياتهم وأرزاقهم لا يمكن ان تكون نهايته الإيمان الحقيقي من قبل كهنة الامبراطورية , فضلاً عن معبودها “الإمبراطور” , الذي يُفترض به ان يكون حلقة الوصل مع الآلهة , ولا يمكن كذلك الاقتناع بإيمان وتسامح مجاميع من الأسر والقبائل الوثنية فجأة , وبقرار إمبراطوري , فضلاً عن آلاف السحرة , والعشرات من المؤسسات التي تتفرع عن الوثنية الرومانية .

انّ القراءة العقلانية للمسيحية البولصية الرومانية يمكنها ان تكشف اسرار هذا الإيمان الطارئ على المسيحية , وكذلك يمكنها تفسير هذا الحلف الدموي بين الاباطرة والباباوات الكنسيين , الذي يمكن مقارنته بالحلف ( السياسي – الديني ) الذي تمّ عقده في صحراء (نجد) بين (آل سعود) وبين (محمد بن عبد الوهاب) ومن ثمّ ذريته , لإنشاء الديانة الوهابية الدموية .

ولعلّ المفتاح الاول لمعرفة عقائد المسيحية الرومانية الجديدة يكمن في معرفة (بولص) , الذي تلقّبه الكاثوليكية بالرسول , لما له من دور تأسيسي للمرحلة البابوية الرومانية .

وعلى ما يبدو فقد كان (بولص) يدخل في حوارات الفرق اليهودية , مما يثير بينهم الفرقة والصراع كثيرا , ( ولمّا علم بولص انّ قسماً منهم صدوقيون والقسم الآخر فريسيون صاح في الرجال الإخوة … فَلَمَّا قال ذلك وقع اختلاف بين الفريسيين والصدوقيين وانشقّت الجماعة … )[47]. وعلى الرغم من انّ (بولص) أعطى (عيسى) دوراً اوليّاً , فإنّ هذا لا يعني انّه مؤسس هذا الدِين , مثلما انّ (هاملت) لم يكتب مسرح شكسبير[48]. (بولص الطرسوسي) المغامر مجهول الأصل والديانة , ولد في (طرسوس) من (كيليكية) في آسيا , بعيداً عن (القدس) , ولم يَرَ المسيحَ في حياته . هاجر الى (القدس) , لغاية ما , لكنّه عمل شرطياً ومخبراً للكاهن اليهودي الأكبر , الذي تعيّنه الدولة الرومانية , وبالتالي فكلاهما موظّفان رومانيان . يذكر الكتاب المقدس انّ اسمه قبل المسيحية كان (شاؤول) . عمل لصالح الكاهن الأعظم في مطاردة المؤمنين المسيحيين وسجنهم وتعذيبهم . ثمّ أعلن انه في طريقه الى دمشق -ضمن مهمة خطف ضد المسيحيين الهاربين الى دولة الانباط والعرب- ظهر له (يسوع المسيح) , وقد جعله رسولا[49]. ويبدو انه استثمر رغبة جهتين في التهام الدين المسيحي , الرومانية واليهودية الكهنوتية , فحظي بمساعدتهما , وحظيا بمساعدته . لذلك دخل في مواجهة حادّة مع تلامذة (عيسى) المسيح من الحواريين , مثل (يعقوب العادل) القائم بأعمال (عيسى) الإدارية , و (سمعان بطرس) القائم على تعاليم (عيسى) الدينية , واللذان يشرفان على جماعة (القدس) التي تتلمذت على يد النبي . حيث ادّعى انّ احلامه ورؤاه الخيالية ل(عيسى) اهم من الارث الذي تركه لمدرسة (القدس) , التي يشرف عليها اخو المسيح (يعقوب) , لذلك عمل جاهداً – ونجح كثيراً – في طمس تاريخ مدرسة (القدس) المسيحية للحواريين وأنصار المسيح الأوائل .

وقد اكمل (لوقا) تلميذ (بولص) تلك المهمة في تزوير التاريخ , فترك انجيلاً مليئاً بالتناقضات التاريخية والفكرية , كلّ هدفه كان طمس معالم المسيحية الاولى للحواريين , الذين صوّرهم في إنجيله بنحو يظهرهم لا يفهمون تعاليم المسيح , كما فهمها الغريب (بولص) ! . وقد كانت اهم نصوص (بولص) المتوارثة هي رسائله , التي كتبها في حدود (٥٠ – ٦٠م) , وبالتالي فهي اسبق من تاريخ الاناجيل التي وصلت الى العصر الراهن , والتي كُتبت كما يبدو بحدود (٧٠ – ١١٠م) , ومن ثمّ فهي متأثرة بما اوجده (بولص) من تفسيرات وتأويلات وكهنوت , وما أضفاه من رؤى على تعاليم (عيسى) .

وفي الوقت الذي حاولت فيه أناجيل الكنسية الباطنية التماهي مع مفاهيم (بولص) , من خلال موائمة الأحداث التي سبقت ظهوره مع فلسفته , فقد تمّ اخفاء كل الموروث الانجيلي لتلامذة (عيسى) الذين خالفوا (بولص) في اعتقاداته . وكذلك تمّ تصوير تلامذة (عيسى) المباشرين على انهم مجموعة من محدودي الذكاء , الذين لم يستطيعوا مواجهة العقل الذي تمتع به الحرباء (بولص) . واتهمت الكنيسة الرسمية لاحقاً كل تعاليم وموروث حواريي (عيسى) الرسول بالكفر والهرطقة , وأمرت بإزالته , في إبادة لتاريخ وأمة , وسرقة مشابهة لما قام به كهنة الفراعنة عندما سرقوا اليهودية , مع الفارق انّ سرقة الديانة المسيحية كانت أشدّ قسوة وأبلغ اثراً . ومن هنا يمكن رؤية أن تلك الشخصيات المختارة والنخبة الإيمانية من الحواريين قد عُتِّم عليهم في الكتاب المقدس , وتمّ تحويلهم الى شخصيات باهتة , فيما يُفترض انّ التاريخ المكتوب عنهم يكون بحجم ما ورثوه وما عانوه وما أفاضوه , لكنّ الكتاب المقدس اكتفى ببعض معجزات لهم , وبعض ما ادَّعاه من حضور (بولص) بينهم .

والغريب في التاريخ الرسمي لهذه الديانة أنْ ينقل إرث رجل لم يلتقِ النبيَّ (عيسى) صاحبَ الرسالة مثل (بولص) , ويترك جملةً وتفصيلاً ما افاضه القائم بشؤون المسيحية بعد (عيسى) مباشرة , وهو (يعقوب) المدعو اخا المسيح ! . لقد تزعّم (يعقوب) المسيحيين منذ رحل (عيسى) , وكان رائدهم عند غيابه , وعلى جماعته أطلقت الكنيسة الرسمية اسم ( كنيسة القدس ) .

لقد هاجم الابيونيون -وهم الفقراء من اتباع (عيسى)- (بولص) وعقائده , واعتبروها محرّفة ووثنية , فيما يقول (ماكبي) انّ هناك نصّاً عربيًّا لأحد اتباع المسيح الأوائل يهاجم فيه (بولص) .

وفيما ينقل (لوقا) تلميذ (بولص) انّه من مواليد (طرسوس) في آسيا , كان (بولص) يكذب على أهل (رومية) فيقول انّه إسرائيلي من سِبْط (بنيامين) . وهو ما تتجاوزه الكنيسة الرسمية ولا تحاول الخوض فيه , لأنّ ذلك سيكشف كيف انّ (بولص) كان يحاول خداع الامم بدعوى قربه من مصدر الرسالة , وهذا ما عبّر عنه أستاذ تاريخ اللاهوت (ماكبي) ايضا . واستمراراً في الخداع كان (بولص) يدّعي انه (فرّيسي) , لما كان من سمعة جيدة نسبياً لطائفة الفرّيسيين اليهود , حيث هي اقرب للناس من طائفة الصدوقيين التي كان كاهنها يمثّل السلطة الرومانية , كما كان تعبير الفرّيسيين اقرب لتمثيل اليهودية شعبياً , ما يسمح ل(بولص) ان يدّعي انّ معارفه تستمد جذورها من اليهودية , لكن المفاجأة انّ (بولص) كان شرطياً عند كاهن الصدوقيين كما عبّر هو ! .

يقول لوقا في اعمال الرسل ( وَأَمَّا شاؤول فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجرّ رجالاً ونساءً ويسلمّهم الى السجن )[50], وقد كان الكاهن الأكبر المشرف على السجن صدوقيّاً كما ينقل المتخصصون .

لقد كانت تعاليم (بولص) وثنية , ترجع اصولها -كما يستبين لاحقاً- الى معتقدات الأقوام غير الموحِدة , ما يعني انها لا ترتبط بالتوحيدية اليهودية , لا سيما في عقيدة ( الفداء والتضحية البشرية للمسيح وألوهيته ) .

فيما كان (مرسيون) -الذي عاش في (روما) بعد زمان (بولص) – يبشّر بعقائد (بولص) الجديدة , لكنّه كان يراها دِيناً جديداً , كما هي فعلاً , ولا يرى انها ترتبط باليهودية .

والطريف انّ فلاسفة المسيحية في القرون التالية حاولوا موائمة معتقدات (بولص) مع الجذور اليهودية , رغم معرفتهم بالمواجهات الحادة بينه وبين رجال الدين اليهود والمسيحيين الأوائل , الى الدرجة التي ادّعى فيها انه يهتمّ للأمم غير اليهودية ويترك اليهود لما اختاروا بينهم .

لقد كانت الفترة الدموية الإرهابية (٣٠٣ – ٣١١م) كافية لإبادة ما كتبه فقراء وعامّة المسيحيين الابيونيين , حول (عيسى) او (بولص) , ويبدو انّ غاية هذه الحملة لم تتعدَ هذا الهدف , لكنّ آراءهم المنقولة في كتب مَن ردّ عليهم تكشف انهم لم يروا في (عيسى) سوى انه بشر رسول , وأنّ (بولص) كان منحرفاً عن جادة التوحيد . ورغم انّ الابيونيين كانوا اتباع (عيسى) وشهدوا رسالته وانتشارها , كما انهم عرفوا (بولص) عن قرب , إِلَّا انّ الكنيسة الرسمية رفضت شهادتهم بالأصل الوثني ل(بولص) وأنه لم يكن يهودياً حتى خروجه من (طرسوس) .

وفيما انقسم اليهود حول نبوة (عيسى) , كان جمع غفير منهم -لا سيما شعبياً- يصدّق برسالته , سوى الكهنوت الذي عمل لديه (بولص) . وفي الوقت الذي كان غالب اليهود ومعهم المسيح وحواريوه يعادون السلطة الوثنية الرومانية , كان (بولص) يتعاون معها قبل وبعد دعواه الباطلة , وقد تم بيان كيف كان ذلك قبل كذبته الكبرى , وبقي وجوب معرفة كيف كان تعاونه ما بعدها لاحقا , حيث انّ كذبته وسرقته للمسيحية لم تكن سوى اتمام لمهمة أمنية رومانية .

ونظرية الكائن الالهي “الرَّب” الذي يفدي البشرية لم تكن سوى أسطورة وثنية مصرية قديمة . وهذه النظرية وفَّرت لاتباع (بولص) فرص الذنوب الكبرى والمجازر والاساءة وكلّ اثم , بدعوى التكفير عن الخطايا من خلال الإيمان بالمسيح , وكانت أصل “صكوك الغفران” سيئة الصيت .

لا يمكن للباحثين منطقياً استساغة تحوّل اكثر رجال السلطان الوثني اجراماً -مثل (بولص) أو (شاؤول) – الى متحدّث باسم الله ورسوله , وقيّماً على معتقدات وسلوك تلاميذ المسيح الأوائل من الحواريين[51]. وهنا يمكن الاستعانة بالمفهوم الرسالي القرآني الذي يخبر انّ “عهد الله” -وهو الرسالة والنبوة والإمامة- لن يكون من نصيب الظالمين , فالله هو من يجعله حيث يشاء , ولا يكون هذا الاختيار بالمزاج البشري , لا سيما لشرطي ظالم مثل (بولص)[52].

ويبدو -كما انتبه المختصون- انّ ذهاب (بولص) الى دمشق لم يكن من اجل الرسائل , ف(دمشق) كانت تقع تحت الحكم العربي لملك الانباط والعرب (الحارث) , الذي لم يكن يوالي الرومان , وكان يدخل في خصومة معهم , لذلك لجأت اليه جماعات من المسيحيين , هرباً من اجرام الرومان والكاهن اليهودي الأكبر , وبالتالي لن يسمح ل(بولص) ان يسوقهم موثقين الى (أورشليم) , لكنّ الامر -كما يُقرأ عسكرياً- لم يكن سوى عملية من عمليات الخطف التي كان يديرها (بولص) ضد قيادات الجماعة المسيحية المؤمنة .

وفعلاً يرى كاتب مسيحي في العصور المتأخرة يُدعى (كليمنت) في كتاب له بعنوان “استكشافات” انّ (بولص) توجّه الى (دمشق) لاختطاف (بطرس) , احد قطبي المسيحية الناصرية , الذي لجأ الى (دمشق) , بعد محاولة اغتيال (يعقوب) القطب الآخر في المسيحية الاولى . وهذا ما أيَّده اعتراف (بولص) في رسالته الى أهل (كورنثوس) , حيث اعترف ان الملك (الحارث) كان يبحث عنه ليمسكه , لكنه هرب بصعوبة[53].

ورحلة الاغتيال والخطف هذه الى (دمشق) هي التي ادّعى (بولص) انّ وحي المسيح نزل عليه في الطريق اليها , فأخبره انه رسوله الى الأمم , والتي يتناقض في نقلها الكتاب المقدس , ليقول مرة انّ مرافقي (بولص) رأوْا الشخص ولم يسمعوا الصوت , ومرة انهم سمعوا الصوت ولم يروا الشخص ! . ومن هذا الطريق الإرهابي ابتدأت قصة ( المسيحية الرسمية الكاثوليكية البابوية ) .

ومن اهم مغالطات وبدع (بولص) التي جاء بها من الطقوس الفرعونية -المرتبطة ب(اوزوريس) – فكرة “القربان المقدس” , حين يشترك المؤمن في شرب دم المسيح الذي افتداه[54], والتي كان اليهود والمسيحيون الأوائل يرونها من عادات الوثنيين , وهي المقاطع التي تتوافق مع معتقد (بولص) في رسالته الثانية لأهل (كورنثوس)[55], ورسالته الاولى لهم[56], والغريب انّ (بولص) يدّعي تسلّمه ذلك الطقس بالوحي عن طريق “الرَّبّ” , كما في رسالته لأهل (كورنثوس)[57].

ومن الاعمال التي ابتكرها (بولص) كان إنشائه للكنيسة , حيث لم يكن المسيحيون -والنبي (عيسى) كذلك- قد اسسوا مراكز دينية خاصة بهم , وهذا ما يكشفه الكتاب المقدس في اعمال الرسل[58]. لكنّ (بولص) أراد ان تكون لسلطته تراتبية ادارية , مشابهة لما كانت عليه الوثنية الفرعونية , والرومانية , وكذلك ما يمكّنه من منافسة الكهنوت اليهودي القائم على مركزية ( الهيكل ) . وهو الامر الذي أعطى للرومان لاحقاً القدرة على إدارة دفّة الأمم المسيحية .

ورغم التناقض الذي يوجد في نصّين للكتاب المقدس في الإصحاح السادس عشر من انجيل (متّى)[59], إِلَّا انه يمكن الاستشفاف منه انّ (عيسى) جعل (بطرس) الزعيم الروحي للأمة المسيحية , ولا يمكن معرفة كيف تسنّى ل(بولص) ان يعارضه ويناقشه ويدخل معه ومع الجماعة التي يشرف عليها في (القدس) في خلاف ! . لكنّ من كتبوا الإنجيل بعد (بولص) عالجوا هذا الإشكال بالطعن في (بطرس) في النصّ الذي يليه[60]! . امّا مفردة “كنيستي” التي جاءت ضمن المقطع فهي ربما من وضع هؤلاء الكتبة , وربما هي ترجمة منهم لمعنى روحي قصده المسيح , وهذه الترجمات المحرفة ترد كثيراً في الإنجيل او في غيره , كما ترجم الآثاريون مفردة (دنجير) السومرية بمعنى ( إله ) ولم تكن إلا بمعنى “ولي” او “نبي” . وربما كان من أهداف هذه النصوص الاثارة المتعمدة وتصوير الاناجيل البولصية للحواريين بنحو يظهرهم بمستوى أقلّ من (بولص) ذاته , لمنحه فرصة البروز والقفز على التاريخ .

وفي الوقت الذي كان فيه (بولص) يرتبط بعلاقات مميزة مع الكاهن اليهودي الصدوقي الأكبر , وكذلك يتمتع بالمواطنة الرومانية التي وفَّرت له الحماية العسكرية , كان اتباع (عيسى) وعائلته يعانون ضريبة إيمانهم , كسائر اتباع الرسل , بخلاف (بولص) . وقد قبض الكاهن اليهودي الأكبر على المشرف على المسيحيين بعد (عيسى) المدعو (يعقوب) وقام بإعدامه , ومن بعده اصدر الرومان أمراً باعتقال ذرية (داوود) , وعلى اثره ألقوا القبض على خليفة (يعقوب) المدعو (شمعون) وأعدموه . وهذا ما يفسّر هروب (بطرس) وجماعته الى (دمشق) الانباط , رغم انه لم يكن من ذرية (داوود) .

وقد كان الخلاف بين الحواريين وبين (بولص) واضحا , يثبت أنّهم كانوا يحاربون أفكاره بشدّة . وكانت اخطر دعاوى (بولص) رفضه للناموس ( شريعة موسى ) , ومنها الختان , ما اثار ضجة كبيرة , من داخل اليهود الذين كانوا يعرفون انّ (عيسى) جعل الشريعة الموسوية جزءاً عملياً من رسالته , ومن داخل المسيحيين الذين استهجنوا هذه البدعة البولصية , ومن داخل الأمم التي اضطربت نتيجة لما يأتيها من رؤى مختلفة حول تعاليم المسيحية . لذلك كانت المحاكم المسيحية تُعقد لمسائلة (بولص) , وأحياناً كان جمهور (القدس) المسيحي يريد تأديبه , إِلَّا انه كان ينجو بفعل الحماية الرومانية , وعلى يد الضبّاط والجنود الرومان . وقد أشار لذلك الكتاب المقدس[61]. ورغم انّ هذه النصوص وما بعدها تمت صياغتها لصالح آراء (بولص) , إِلَّا انها تكشف مدى الخلاف بين الحواريين وبينه .

وفي رسالته لأهل (غلاطية) يكشف (بولص) للباحث عدّة حقائق , فهو قد تمّ استدعائه للمحاكمة من قبل زعماء الحواريين في (القدس) , وقد كان يرافقه (تيطس) اليوناني الذي لا يلتزم بالشريعة الموسوية , ويظهر واضحاً انه كان متهماً باستخدامه لإنجيل منحول لدعوته بين الأمم , يخالف ما عليه الْحَوَارِيُّونَ , لذلك كان مضطراً لعرضه على هؤلاء الزعماء , وفيه أيضاً انّ المسيحيين كانوا يرصدون له من يراقبه ويتجسس على تحركاته , ما يكشف عن ريبة كبيرة تجاهه , ومن خلاله يمكن ادراك انّ (بولص) لم يكن يقيم لهؤلاء الزعماء وعِلمهم وزناً , وافترض انه يعادلهم جميعاً في القيمة الروحية والدينية , ويظهر في كلامه انه غير مقتنع بأنهم كانوا أعمدة القوم والديانة , رغم انه كذبَ في ادّعائه منحهم له سلطة دينية تساوي ما لهم , في تناقض بين القيمة المتدنية التي اعطاهم وبين حاجته الى إجازتهم المكذوبة . ولعلّ اهم ما عرضه في هذه الرسالة كان بدعته الكبرى بانتفاء الشريعة العملية بمجرد الإيمان بيسوع المسيح , كما هي مفاهيم “صكّ الغفران” .

ومن الإصحاح الحادي والعشرين من ( اعمال الرسل ) يمكن ادراك حقائق اخرى , حيث انّ (بولص) كان كالحرباء , يتلوّن اعتماداً على مستوى الخطر والتهديد , كما يمكن رؤية كيف انّه كان متهماً من قبل اليهود والمسيحيين على حدٍ سواء بأنّه يدعو الناس للارتداد عن شريعة (موسى) , وهي الجانب العملي من رسالة (عيسى) . وفيما يدعو هو لذلك فعلاً -وهذا ما يؤيده الإنجيل- استنكر عليه الْحَوَارِيُّونَ وأتباع المسيح الأوائل ذلك , فَلَو كان هذا الارتداد وهجران الشريعة الموسوية من تعاليم (عيسى) , كيف جاز لهؤلاء الاتباع المتقدمين المقربين الغفلة عنه واستنكاره ! . لكن يبدو انّ المسيحيين المعاصرين يغفلون عن ذلك بتأثير تعاليم (بولص) ذاتها , تحت رعاية الكنيسة الرومانية البابوية الحالية .

لقد أمر تلاميذ المسيح (بولصَ) أن يترك تلك الدعايات المحرفة ولا ينشرها بين اليهود , وأن يتطهر ثم يدخل ( الهيكل ) , ليظهر أمام الناس بأنه على شريعة (موسى)[62].

وما يؤيد هذه الحربائية لدى (بولص) رسالته لأهل (كورنثوس) ( فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ ِللهِ, بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ )[63].

لكنّه كان ممقوتاً من سكّان (القدس) , فهاج الشعب ضدّه وأراد تأديبه , لا سيما وقد رافقه احد الوثنيين غير المتطهرين المدعو (تروفيمس) , وقد ادخله (بولص) الى حرم ( الهيكل ) , لكنّ الرومان انقذوه , كما ان الرومان أشاروا الى كونه مصرياً أثار الفتنة قبل ايام في المدينة بالتعاون مع العصابات , ورغم ذلك سمح له الرومان بالصعود ومخاطبة الشعب[64]!! . ويبدو واضحاً انّ الرومان الوثنيين وفروا حماية عسكرية واستخباراتية ل(بولص) , وهيئوا من كان يعاونه ويعمل على إيصال اخباره الى الرومان من اجل حمايته[65].

انّ التعاليم السياسية التي نشرها (بولص) كانت بالضبط ما يحتاج اليه الرومان , من جهة التهام الديانة المسيحية , ومن جهة نشر فكرة الخنوع والخضوع للسلطان[66].

امّا النهاية التي وصل اليها (بولص) فكانت درامية متوقعة , حيث اشتكاه الكاهن اليهودي الأكبر -صاحبه القديم- الى الحاكم الروماني الجديد (فستوس) , الذي سلَّمه الى الملك اليهودي (هيرودس اغريباس الثاني) , الذي كان يكره المسيحيين , والذي اعدم والدُه بعضَ زعمائهم , وفي حين كان متوقعاً من ملك كهذا -يجمع بين سببين لكره المسيحيين , كيهودي , وكممثل عن السلطة السياسية الرومانية- أنْ يفعل الأعاجيب بداعية مسيحي مفترض ك(بولص) , إِلَّا انه ارسله الى القيصر في (روما) , باعتباره مواطناً رومانياً , ليعيش هناك ويشيد كنيسته , التي فتحت باب الشيطان لاحقاً على العالم . وهناك بدأ (بولص) الخطوات العملية لما حكاه نظرياً في رسالته لأهل (رومية) , من وجوب الخضوع للسلاطين والملوك , مهما كانوا , باعتبار أن حكمهم من ترتيب الله , وأنهم خدامه[67], وبهذا يكون أوجد نظرية “الحاكم باسم الله” بنسخة بشرية مشوهة .

يقول (هايم ماكبي) ما نصه ( لقد انطلق بولص من زوبعة التأثيرات الدينية , التي كانت تتزاحم في رأسه , فخلق مزيجاً مشحوناً بالخيال , مزيجاً معدّاً لانْ يكون بعد ذلك -شئنا ام لم نشأ- أساس الثقافة الغربية وجوهرها ) .

وليس من الصعب على الباحث معرفة انّ (بولص) لم يأتِ بعقيدة “ابن الرَّبّ” , وأسطورة ( الأب , الابن , الروح القدس .. إلهاً واحدا ) , من خيالات نفسه , بل هي عقيدة قديمة , تواجدت في بلاد الفراعنة , ومنها انطلقت الأقانيم المصرية الفرعونية الشهيرة . فبعد انتصار فراعنة الاسرة الثامنة عشرة الطيبيين على الهكسوس , وانتشارهم في آسيا , تمّ توحيد الإلهين الكبيرين (رع) و (آمون) في أقنوم واحد , هو الإله (آمون – رع) , الذي اصبح كبير الإلهة , وتمّ تكريس معبدين في (الكرنك) و (الأقصر) لأداء الطقوس لهذا الأقنوم الجديد . وهذه الثلاثية توجد في أقنوم (آتوم – شو – تفنوت) , الذي خرج من الاوقيانوس الأزلي (نُون) , لكنّه كان ثلاثة في واحد , اذا تم القبول بالرؤية الشائعة حول هذه الثلاثي , بعيداً عن التفسير الخاص لها . امّا أشهر الأقانيم التي عنها أخذت مسيحية (بولص) اقنومها فكان الناتج عن عقيدة (أوزوريس – إيزيس – حورس) , ( الأب – الام – الابن ) , تلك الإلهة المصرية الكبرى , والتي تحكمت في مجمل حركة العقيدة الفرعونية .

امّا ( قيام يسوع من بين الأموات ) فقد جاء به (بولص) من العقيدة الفرعونية , التي تؤمن بقيام (أوزوريس) من بين الأموات . حيث ترى تلك العقيدة انّ (أوزوريس) قد قُتِل , ومن ثمّ قام من بين الأموات , وجعلت عيده السنوي يرتبط بهذه الحادثة . وقد جرت العادة في بعض الحضارات المتفرعة عن الفرعونية على قتل ملوكهم , افتداءً للشعب والنعمة , كما هو الحال في افتداء المسيح لشعبه في عقيدة (بولص) . وفي بعض الحضارات السودانية -القريبة الى الفرعونية- كان الملك -في حالة اعتلاله- يرضى بالقتل , فداءً لصحة شعبه . فيما ذكر (مانيتون) -المؤرخ المصري- انّ المصريين كانوا يضحّون برجل اصهب على قبر (أوزوريس) , ثمّ يذرّون رماده .

امّا الاحتفال الغريب بمولد المسيح -الذي يُفترض انه ولد في ١ فبراير- فيتم في يوم ٢٥ ديسمبر , وهو ليس سوى اعادة للاحتفال بالعيد الشمسي لمولد (رع) , إله الفراعنة المصريين , والذي كان يطلق عليه المصريون (مسو – رع) . لذلك ليس غريباً بعد ذلك ايجاد صور (العذراء مريم) مع طفلها (يسوع) بنسخة مأخوذة عن صور (إيزيس) مع طفلها (حورس) .

من هنا كان التعبير القرآني -في وصف تلك العقائد المبتدعة بما عليه حال الأمم الوثنية السابقة عليها- دقيقاً وصائباً , (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ))[68], فيما يتساءل القرآن الكريم في الآية التالية عن منطقية التوحيد الذي عليه مثل هؤلاء المبتدعين وأتباعهم , (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إله إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ))[69].

ولعلّ أشهر المشتركات الرمزية بين الديانتين الفرعونية ومسيحية (بولص) كان “الصليب” , او (عنخ) بالفرعونية . وهذا الرمز لم يكن مسموحاً الا للملوك او الملكات الفراعنة بحمله , لأنه يرمز الى الحياة , ومن يحمله فقط له سلطة منح او سلب الحياة من البشر ذوي المراتب الدنيا , لذلك كان حمله من قبل البابوات البولصيين دليل السلطنة . وكان الفراعنة يصنعونه من خزف القيشاني , ومزيّن بصولجان له رأس كلب , ليرمز الى القوة , تمّ تعديله ليلائم العقائد الإبراهيمية .

واستمراراً للسلوك الفرعوني في الزواج من المحارم قام (هيراكليوس) بالزواج من ابنة شقيقته (مارتينا) بعد وفاة زوجته الاولى (اودوكيا) عام ٦١٢م , امام نظر الكنيسة الرومانية .

 

 

 

 

 

 

المبحث الثالث: الصراع بين الكنيستين التوحيدية والتثليثية

 

 

 

لقد كان انقسام الامبراطورية الرومانية الى دولتين , (روما) و(بيزنطة) أو (اسطنبول) , إعلاناً للانفصال الحضاري بين شعوب شرق أوروبا , ذات الامتداد التاريخي المدني , وبين شعوب غرب أوروبا , ذات الامتداد القبلي البسيط . وبالتالي انقسمت كذلك الكنيسة المسيحية الرومانية الى شرقية وغربية , مثلّت الشرقية الصبغة الفلسفية للحضارة المسيحية الجديدة , وأخذت تقرأ عقائدها بروح الشرق المفعم بالمعطيات العقلية , رغم ارتكاز عقائد (بولص) فيها أيضاً بفعل السياسة الامبراطورية الرومانية السابقة , فيما استطاعت الكنيسة الغربية التفاعل مع العقل الوثني لشعوب غرب أوروبا , التي لا تملك العمق اللازم للفلسفة اللاهوتية . ومن ذلك أنْ استطاعت الكنيسة الغربية (روما) نشر ثلاثية (بولص) الوثنية ( الأب – الابن – الروح القدس ) , في نطاق فاعليتها المناطقية بسهولة , فيما كانت الكنيسة الشرقية في مواجهة العقل الرافديني التوحيدي .

ان ايجاد يهود (كبّالاه) لمفهوم (يهوه) التجسيدي , والذي يحل معهم اينما رحلوا , كما ان وجوده –بتصويرهم– يشكل سبباً لانتصار شعب (إسرائيل) , كان ضروريا لتمهيد الاذهان لما يُسمّى في الثقافة الاسلامية “الاعور الدجال” . فقد بات الإسرائيليون يعتقدون بإمكان تجسد الإله , بل ضرورته , وفي مرحلة لاحقة –وبتأثير يهودي– تم زرع فكرة “ابن الرب” في المسيحية , حيث تكون عودته ضرورية ايضا , ومن هنا فلن يكون مستغرباً تجسد الشيطان وظهوره مستقبلا , كما خططت الديانة الفرعونية . والسبب ان ظهور الشيطان مرتبط بظواهر خارقة للطبيعة , تتعدى المعرفة البشرية , لذلك كان من اللازم تربية الذهنية البشرية على فكرة التجسد الإلهي . لذلك كان اهم ما حذر منه الانبياء شعوبهم هو “ظهور الدجّال” , الذي هو أعور احدى العينينِ , وعينه الأخرى كأنها كوكب دري لامع , يكون في صفه من كل القوميات البشرية[70].

ولم تكن عبادة الشيطان مقتصرة على الفراعنة وحدهم , او بني الانسان فقط , بل هي خدعة كبرى خدع بها (ابليس) حتى بني قومه من الجن . ان فكرة ابن الله وزوجته سبقت في عالم الجن قبل الانس , ثم سرّبها الجن الى بني البشر مقابل اغراءات مادية . فيُلاحظ في (سورة الجن) القرآنية ان قوم الجن الذين استمعوا الى القرآن الكريم انكروا -مباشرة- فكرة الصاحبة والولد , وهذه الفكرة هي اساس كل العقائد الوثنية في الارض , رغم اختلاف تفاصيلها , لكنها جميعا تشترك في هذه الجزئية , والتي تسربت لاحقاً الى المسيحية المحرفة[71].

 

لقد اضطرت الكنيسة الشرقية (بيزنطة) الى الإقرار ب( ناسوت المسيح ) , واعتبرت انّ أمه لم تلد “إلهاً” , بل إنساناً , وبالتالي هي ليست “أمّ الرَّبّ” . هذا هو ملخص ما أنتجه زعيم الكنيسة الشرقية (نسطور) , الذي كان له صدى مقبول في الأقاليم الشرقية الموحِدة فلسفيا .

لقد جاء (نسطور) من الحاضنة الفلسفية الرافدينية , فقد كان راهب (إنطاكية) , ومن ثمّ اصبح بطريرك (القسطنطينية) . لكنّ تعاليمه -التي راقت للكنائس الشرقية- لم تكن لتتماشى مع وثنية تعاليم (بولص) الغربية .

امّا الكنيسة المصرية في الاسكندرية , التي كانت تعاني فعلياً معضلة التناقض بين إرثها الوثني الفرعوني , الذي يتماشى مع ما جاء به (بولص) من تأليه ل(عيسى) , حيث كان امتداداً للطبيعة المتناقضة التي تمتعت بها الإلهة (أوزوريس – إيزيس – حورس) , وبين جوارها للمدرسة التوحيدية الشرقية في بلاد الرافدين , بما فيها سوريا , فقد حاولت الإبقاء على الوضع الوثني لمسيحية (بولص) , من خلال وقوف زعيمها (كيرلس) بوجه المدرسة النسطورية , في ذات الوقت الذي حاولت الاعتراف بطبيعة ناسوتية للمسيح , لتوائم بين الجهتين , فقالت “انّ للمسيح لاهوت وناسوت” , لكنّهما امتزجا كامتزاج النار والحديد , مستغلّة الجهل العلمي في تلك الفترة , لأنّ النار والحديد لا يمتزجان حسب قوانين العلم المعاصر .

وفقاً لتأثير (كيرلس) تمت ادانة (نسطور) في مجمع (افسس) في عام ٤٣١م , وتحريم تعاليمه . لكنّ ذلك لم يكن كافياً لإقناع العقل الشرقي الفلسفي -التوّاق للتوحيد- بالعدول عن معتقداته , التي كانت اقرب للعقلانية الرافدينية , التي ترى في (عيسى) نبيًّا من الأنبياء , لا إلهاً متجسّدا .

وهذه الرؤية النسطورية لم تكن بدعة , كما صوّرتها الكنيسة الرسمية , بل هي صدى لما عليه تلامذة المسيح الأوائل , الذين تكشف مواجهتهم المتكررة ل(بولص) اختلافهم عن جلّ ما جاء به , كما هو المذهب الذي عليه الابيونيون , وهم عامة المسيحيين الأوائل . كذلك كان ذلك ما يراه (آريوس) المولود عام ٢٥٦م , حيث قال ( انّ الله واحد غير مولود ولا احد يشاركه في ذاته ) , وأنّ المسيح ليس إِلَّا مخلوقا , ليس له مرتبة الإلهة , وقد انتشرت تلك التعاليم الأريوسية في مختلف اصقاع الأمة المسيحية , ما اضطر الكنيسة الرسمية الوثنية لعقد مجمع (نيقية) وإدانة (آريوس) عام ٣٢٥م .

لقد خلقت فلسفة (نسطور) موجة من المواجهات الفكرية مع وثنية (بولص) في (روما) و(الإسكندرية) , وقام (اوطاخي) بإنتاج فلسفة مضادة تماماً لما قاله (نسطور) , حيث اعتبر انّ الطبيعة الحقيقية للمسيح هي اللاهوت , وأنّ الناسوت ليس إِلَّا خيالات سريعة في مرور المسيح نحو التجسد . لكنّ مدرسة (اوطاخي) تمت ادانتها في مجمع (خلقدونية) الذي عقدته الامبراطورية الرومانية الغربية عام ٤٥١م .

ورغم فهم الاشتراك بين الكنيسة الرومانية (الكاثوليكية) والكنيسة المصرية (القبطية) , والمتجسد في اعتقادهما معاً انّ للمسيح ناسوت ولاهوت في ذات الوقت , إِلَّا أنه ليس من الواضح بالدقة سبب افتراقهما منذ مجمع (خلقدونية) . لكن على الارجح انّ اختلافهما في صورة “الأقنوم المسيحي” , هل هو منفصل في ناسوته عن لاهوته ؟ , فكلاهما يراه – كما كان (أوزوريس , إيزيس , حورس) – إلهاً متجسدا . لكنّ الغموض الشكلي والفلسفي لهذا الأقنوم الوثني الموروث عن الديانة الفرعونية الرومانية المشتركة لازال غامضاً غير مفهوم , ولم يستطع الإجابة عن اشكالية الولادة البشرية وتناول الطعام المادي وغيرها من المظاهر لهذا الأقنوم الإله المفترض .

وفيما كانت القبائل والممالك العربية والنبطية في العراق نسطورية المذهب , لم يكن الاعتقاد الذي عليه عرب الغساسنة في الشام واضحاً , حيث تنقل بعض المصادر انّ ملكهم (الحارث) كان من أنصار الطبيعة الواحدة , وكذللك ابنه (المنذر) وحفيده (النعمان) , إِلَّا انّ علاقتهم بالرومان البيزنطيين لم تكن واضحة المعالم , من اكرام (ثيودورا) لهم , ومقاطعة (يوستينوس) , وتذبذب (تيباريوس) , وصلافة (موريسيوس) , حيث اختلف كلّ هؤلاء الاباطرة في مستوى علاقتهم بالشرق المسيحي الموالي ل(روما) , الذي يبدو انّ قادته كانوا من (اليعاقبة) أو كنيسة (الإسكندرية) . وفي الوقت الذي أعاد فيه (موريسيوس) العلاقة مع (النعمان) لأسباب عسكرية واستراتيجية , دعاه لاعتناق العقيدة الرومانية , التي ترى انّ للمسيح طبيعتين , إِلَّا انّ (النعمان) اخبره برفض قبائل (طَيء) لهذه العقيدة , الى الدرجة التي سيذبحونه لو حاول ثنيهم عنها .

ولعلّ هذا الاختلاف المذهبي -حول عقيدة التوحيد , والنظرة المختلفة لتأليه (عيسى)- هما ما يفسران الموقفين المتناقضين لمملكتي أبناء العمّ المسيحيتين (المناذرة) و (الغساسنة) تجاه الانتشار الاسلامي . حيث قام المسيحيون الذين كانوا يتبعون مملكة (المناذرة) -ومركزها (الحيرة) في العراق- بمقاتلة الفرس المحتلين , قبل دخول الجيش الاسلامي الى حدود العراق , فانتصروا عليهم في المعركة الشهيرة (ذي قار) , وكذلك دخل ابرز قادتهم في الاسلام قبل وصول الحشود الحجازية , حيث رفعوا اسم النبي (محمد) شعاراً لهم في تلك المعركة . بينما كان موقف الغساسنة مضاداً للتقدم الاسلامي , وشارك الكثير منهم ضمن جيوش الروم لصدّ ذلك التقدم . وهذا الاختلاف في طبيعة التدين الفلسفي الفطري -الذي تمتعت به مملكة (الحيرة) عن التدين السياسي الذي تمتعت به مملكة الشام- هو ما يكشف أيضاً سرّ انفراد العراقيين في نشر المسيحية النصرانية شرقاً وجنوبا . من هنا كان (ثيوفيلاكت سموكاتا) يرى عدم إمكانية الاعتماد على العرب , لأنهم برأيه ( متقلّبون وعقولهم غير ثابتة وأحكامهم لا تقوم على أساس صحيح من التعقّل ) , فهو ربما كان يعكس خيبة أمل (روما) و(بيزنطة) في جذبهم الى حظيرة الوثنية المعقدة .

يكتب (يوحنا) عن الخلقيدونيين في مصر إبّان الفتوحات العربية ما نصّه ( أعداءُ المسيح برَجَس بدعِهم , وقد فتنوا الناس عن إيمانهم فتنة شديدة , لم يأتِ بمثلها عبدة الأوثان ولا الهمج , وعصوا المسيح وأذلّوا اتباعه . فلم يكن من الناس من أتى بمثل سيئاتهم ولو كانوا من عبدة الأوثان ) . فيما يروي المؤرخون الخلقيدونيون الرومان كيف انّ (اليعاقبة) الأقباط كانوا سبباً في انكسار جيش الامبراطورية الرومانية ! . امّا الابيونيون , الذين تصفهم بعض المؤلفات باليهود الجدد , فقد كانوا خلاصة الاعتقاد المسيحي التوحيدي , حيث رفضوا بدعة (بولص) الوثنية , فالتزموا النهج الذي كان عليه (يعقوب) و (بطرس) وتلامذة المسيح الأوائل . وقد أخفت الكنيسة الرسمية كتاباتهم باعتبارها “إساءة” لمقام (بولص) الرسول ! .

لكنّ هذه النزاعات المذهبية -الناتجة عن وثنية تعاليم (بولص) – جعلت أبناء الحضارة الهيلينية الواحدة من رومان ومصريين في صراع , أدّى في النهاية الى فرض (المقوقس) حاكماً باسم الإمبراطور (الخلقيدوني) على مصر , وفي ذات الوقت مرجعاً للمسيحية دينياً , مما جعل كبير رجال الدين الأقباط في مصر (بنيامين) يهرب ويختفي , بانتظار أنْ يُهْلِك الرَّبُّ جماعةَ الخلقدونيين في بلاده , بعدما سيطروا على الكنائس , واستخدموا العنف والاكراه في فرض الدين الإمبراطوري على الأقباط , رغم اشتراكهم في تأليه المسيح .

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الرابع: المسيحية المشرقية

 

 

ان المصطلحين (الآرامي) و (النبطي) لم يكونا يعنيان الا مصداقاً واحداً على الأرض واقعاً , والمقصود بهما كانت هي الامة الآرامية , بكل شعوبها العراقية الوارثة لحضارات (سومر) و(أكد) و( بابل الاولى والثانية ) , لذا يمكن رؤية التطابق التام في الخصائص والأراضي والعمل والحضارة , يستحيل معه تفريقهما عن بعض .

فقد احتكر الآراميون التجارة , كما احتكروا طرق المواصلات المؤدية الى (آشور) شرقاً , وإلى المدن الفينيقية غرباً , وإلى آسيا الوسطى شمالاً , ومن هذه وتلك إلى المدن المصرية , وأمكن بفضل تدجين الجمل العربي تيسير سير القوافل تيسيراً كبيراً , فاُقيمت في اطراف البلاد مراكز للتجارة , كانت اشهرها (تدمر) و (الحضر) . وقد كان للآراميين مراكز حضارية في العراق , ومراكز حضارية أخرى في سيناء وفلسطين , وكان الاغريق على اتصال بهم في الموانئ الشرقية من آسيا الصغرى الى تخوم سيناء , فنقلوا عنهم وسائل الحضارة والتجارة , قبل ان يهتدي اليها أبناء القارة الاوربية بزمان طويل[72]. وهذا بالضبط ما كان عليه (النبط) من واقع عملي .

وقد انتشرت مع التجارة الآرامية اللغة الآرامية انتشاراً واسعا , وقد أصبحت لغة اقطار الشام , وتغلغلت في بلاد فارس , وانتشرت بين الشعوب المجاورة لها . ثم امتدت الى وادي النيل وآسيا الصغرى وشمال جزيرة العرب حتى حدود الحجاز , وبقيت دهوراً طوالاً اللغة الرسمية والتجارية للأمم الحية في القرون الأولى قبل الميلاد , في (بابل) و(آشور) وفارس ومصر وفلسطين , وكانت الآرامية لغة السيد المسيح والحواريين , وقد كُتب بها الانجيل على ما يرجح , وأن الكتابات الدينية لمختلف الكنائس الشرقية دونت بلهجات مشتقة من الآرامية , وبأقلام مأخوذة من الابجدية الآرامية .

وقد حلت اللغة الآرامية محل الكنعانية , وظلت اللغة السائدة في البلاد الى الفتح العربي , عندما اخذت اللغة العربية تحل محلها . وانقسمت اللغة الآرامية بمرور الازمان الى عدة لهجات , يمكن حصرها بفرعين , الفرع الشرقي , في وادي الفرات , وتمثله اللهجات المندائية والسريانية ولهجة (الحضر) , والفرع الغربي , تمثله آرامية التوراة والانجيل و (الترجوم) , واللهجات الآرامية في مملكة (سامال) وفي (حماة) و (تدمر) وبلاد النبط [73].

ان تسمية (آراميين) صارت تشمل جميع القبائل الساكنة قديماً في البلاد الفسيحة الواسعة المحدودة ببلاد فارس شرقاً والبحر المتوسط غرباً وبلاد الأرمن وبلاد اليونان في آسيا الصغرى شمالاً وحدود جزيرة العرب جنوباً , وكانت قاطبة معروفة ببني (آرام) والآراميين , مع ان بعض هذه القبائل كانت تسمى بأسماء خصوصية , كتسمية اهل (بابل) بما يجاورها من قبائل بالكلدانيين , وسكان مملكة (آشور) بالآشوريين , وتسمية اهل الشام بالأدوميين , ولكن تسمية الآراميين كانت تشملهم جميعا , وكانت كل هذه البلاد تتكلم بالآرامية .

وقد اخذ اليهود خطهم الذي طبعوا به كتب التوراة من الخط الآرامي , كما ان العرب الشماليين اخذوا خطهم من الخط النبطي , الذي هو شكل من اشكال الخط الارامي , وهذا هو الخط الذي كتب به القرآن الكريم وتطور عنه الخط العربي الحديث , كما اخذ الأرمن والفرس والهنود خطوطهم من أصول آرامية . ومن الخط النبطي نشأ القلم الحِمْيري العربي , الذي منه تولّد الخط الكوفي , ومن هذا نتج القلم النسخي[74].

وقد سقطت سلالة الآراميين في (بابل) على يد (الفرس الاخمينيين) بقيادة ملكهم (كورش) , الذي ادعى ان الإله البابلي (مردوخ) هو من دعاه الى غزو (بابل) ورافقه كالصديق , فابتشر له كهنة اليهود , الذين أعاد لهم أدوات ( الهيكل ) , وسمح لمن يشاء منهم بالذهاب الى فلسطين , فسلبوا بعض مقتنيات المعبد في (بابل) , وقالوا بانّ (كورش الاخميني) هو “المسيح المنتظر” الذي سيعيد مملكة (صهيون)[75]. ثم وقع العراق تحت حكم (الاسكندر) , ومن ثم خلفائه السلوقيون , ومن بعدها صار تحت حكم الفرس الفرثيين , وأخيراً وقع بيد الفرس الساسانيين[76].

وقد قامت طيلة الفترة الممتدة حتى الفتح الإسلامي ممالك محلية عديدة في المنطقة الآرامية , بقيادة السبئيين , منها في العراق دولة ((المناذرة اللخميين) , وعاصمتها (الحيرة) , وفي الشام دولة (الغساسنة) من (بني جفنة) . بالإضافة الى الدعم الذي حظيت به تلك السلالات من العرب العدنانيين ومن الانباط , كما جرى في معركة (ذي قار) ضد الفرس الساسانيين , التي خاضتها قبائل (شيبان) وأخواتها من قبائل (عدنان) , يساندهم ما يزيد على أربعة آلاف من مواليهم (النبط) .

لقد تنصّرت اغلب المنطقة الآرامية بعد ظهور السيد المسيح , اذ دخل في المسيحية قبائل (ربيعة) و (تغلب) و (قضاعة) و (طيء) و (مذحج) و (بهراء) و (سليح) و (تنوخ) و (غسان) و (لخم) و (شيبان) و (عجل) من (بكر بن وائل) , وملوك (الحيرة) (المناذرة) و (كِندة) و (السكون) و (كلب) , والكثير من سكنة (اليمامة) و (الطائف) و (بني حنيفة) وبعض (قريش) . وقد كانوا في الغالب على المذهب النسطوري الموحد , اذ اخذ النساطرة في (الحيرة) على عاتقهم مهمة التبشير بالمسيحية الموحدة , فاتّبعوا طرق التجارة الداخلية والخارجية والساحلية , ونشروا النصرانية النسطورية في شرق شبه الجزيرة العربية . وأضحى النسّاك المسيحيون ظاهرة ملفتة في جزيرة (سيناء) , وانتشرت المسيحية على مذاهب أخرى مشوبة في مصر . وكان اهل البحرين من (بني عبد القيس) يدينون بالنصرانية , ولهم أساقفة فيها وفي (قطر) , وكان ملك عُمان في زمان البعثة النبوية (الجلندي) نصرانياً , وفي بلاده عدة اديرة وأساقفة[77]. وقد كانت (نجران) مركزاً نصرانياً مهماً , شهد صراعاً فكرياً ودينياً , وهم الذين احرقهم ( صاحب الاخدود ) , وقد ظلوا هناك الى زمان (عمر بن الخطاب) حين هاجر اغلبهم الى العراق[78].

ومن السذاجة -بل من الجنون– الاعتقاد بوجود تأثيرات ساهمت في تنصّر الامة الآرامية , سوى الاعتقاد الفطري والاستعداد الفكري والارث المعرفي التوحيدي , اذ كانت الدول الكبرى المحتلة للمنطقة كلها وثنية , من الفرس والرومان .

وقد قام الرومان بذبح آلاف المسيحيين على دينهم وفكرهم , وحين أعلنت الدولة الرومانية في عهد (قسطنطين) انها اعتنقت المسيحية (البولصية) في القرن الثالث بعد الميلاد كان مذهب الامة الآرامية نسطورياً , مخالفاً للمذهب الروماني المشوب بالوثنية , وقد عانى الآراميون بسبب اعتقادهم التوحيدي الكثير .

ومن الواضح أن المشكلة المعرفية تزيد من مشاكل الكتابات الموجهة والفئوية عن تاريخ اليهودية او المسيحية . فمثلاً يمكن ملاحظة أن ذهنية الباحثين المعاصرين تقرأ كلمة (اليمن) كمرادف لكلمة (سبأ) , والحق ان الدولة السبئية في اليمن , او حتى الدولة المعينية , ما هما سوى اثر للحضارة العراقية , ودائرتين في فلكها , بصورة مباشرة او غير مباشرة . وبذلك فالديانة اليهودية انتشرت قطعاً في المجتمع السبئي الأقرب الى بلاد النبي (سليمان) , وذلك يعني في العراق وجنوبه , ثم دخلت الى اليمن على يد جزء من السبئيين . لذا يشير (احمد سوسة) الى انتشار اليهودية في اليمن , حتى أصبحت مركزاً من مراكزها[79]. ومن هنا فرغم انتشار اليهودية في (تيماء) و (خيبر) و(وادي القرى) و (يثرب) في القرن الأول الميلادي , الا انها لم تبلغ ذروتها في اليمن الا عند القرن السادس الميلادي , في عهد الملك (ذي نواس) , رغم تهوّد قبائل (حِمْيَر) في عهد الملك (اسعد ابي كرب)[80]. ومما يثبت بُعد الشقة الارتكازية الضرورية للتوحيد عن اليمن ان (ذا نواس) ذاته قام بإحراق نصارى (نجران) , وهي القصة التي أشار اليها القرآن الكريم تحت عنوان “أصحاب الاخدود”[81], ليجبرهم على ترك دينهم[82], في الوقت الذي دخل فيه سبئيو العراق والشام الى المسيحية , حيث تنصرت قبائل (طيء) و (مذحج) و (بهراء) و (سليح) و (تنوخ) و (غسان) و (لخم)[83], لقرب الأخيرين من المرتكز التوحيدي الإبراهيمي للديانات , وهو العراق .

وهناك مرويات عديدة تشير الى ان النبي (سليمان) حاول نقل “تابوت العهد” من يد بني إسرائيل الى يد المجتمع البديل (سبأ) , وهذا ما يصر عليه الاحباش . فيما يرى بعض الباحثين ان التابوت وقع تحت اليد الكنيسة الكاثوليكية المتحالفة مع الماسونية , ايّام الاستعمار الاوربي للعالم .

والواضح من الروايات ان للعصا و الحجر والتابوت -الذي ربما يحتويهم- اهمية خاصة في الربط بين عوالم الخَلق , وكذلك يمكن اعتبارها منظومات للسيطرة على بوابات العوالم , بل هي اعلى واسمى , حيث انها تعتمد في العمل على القوانين الكلية المحيطة بالخلق . وهنا تلوح بعض ملامح نظرية “الولاية التكوينية” الإسلامية الشيعية . كما يمكن ادراك مدى الاحراج الذي عاشه قادة الجن أمام القدرة المفاجئة للإنسان , التي اتاحت له التفوق على تأريخ من غطرستهم واستعبادهم للناس , خصوصاً بعد ان احضر (آصف بن برخيا) وصي (سليمان) عرش (بلقيس)[84], بسرعة تفوق سرعة الضوء , فيما كان عرض ذلك الجنّيّ بسرعة ادنى من سرعة الضوء , رغم انه من نخبة الجن الذين كان لهم شرف مجالسة (سليمان)[85]. ف(آصف) لم يكن لديه الا بعض علم من الكتاب , فكيف بمن لديه علم الكتاب كله ! .

ويمكن القول اجمالاً ان قبائل (سبأ) اخذت اليهودية الموحدة عن النبي (سليمان) , كدِين وشريعة , او كفكرة توحيدية عامة , استقامت او مالت لاحقاً , لذا لا يمكن القول الا ان هذا المجتمع قد حمل رسالة إلهية في وجدانه , عززها ارتكازه التوحيدي العراقي , وهو الامر الذي أكده موقفهم الإيجابي من المسيحية والإسلام .

لقد كانت ( النصرانية ) هي الدين الذي عُرف به المسيحيون الأوائل الموحدون , اما ( المسيحية ) فهو الاصطلاح الذي غلب بعد حركة (بولص) , حتى صار عامًّا للجميع منهم . لكنّ العرب ظلّوا يفصلون بين الدينين , فاختصّت النصرانية على الكنائس الشرقية . وقد كانت النصرانية انتشرت فعلياً -كدين وفكر وفلسفة- على يد الكلدان والآشوريين , ومنهم اسرى بني إسرائيل , وكانوا جميعاً شعلة نورانية اوصلت النور الى حدود الصين بالكلمة , لا بالسيف كما في أوروبا والمسيحية الغربية . وقد كان للنسطوريين الكلدان الدور الأكبر في الحركة الفكرية للنصرانية . فقد قام النساطرة بنشر هذا الدين في الجزيرة العربية وفارس وآسيا الوسطى والأناضول والهند . وعند سقوط (المدائن) و(الحيرة) بيد الجيش الاسلامي هرب بعض النساطرة , ووصلوا الى الصين , وهناك رحّب بهم الإمبراطور , فأقاموا مراكزهم العلمية , وساهموا في نشر النصرانية في الكثير من أقاليم الصين . ورغم الاضطهاد الذي تعرّضوا له من قبل (تيمورلينك) فقد استمرّ النساطرة في مهمتهم الدعوية للتوحيد في جنوب الهند . ورغم ذلك كله كان هؤلاء النسطوريون عرضة لقمع الكنيسة الرسمية الرومانية بفرعيها .

وقد كانت النصرانية في البلاد الرافدينية , والتي تعتنقها شعوبها العربية والنبطية وال(آشور)ية والفينيقية , ملزمة بالاستعداد لحماية دينها التوحيدي امام المدّ المسيحي البولصي التثليثي , ليس بالفكر هذه المرّة , بل بقوة السلاح ايضا , لذلك بدأت في التقوقع لحماية عقيدتها , من المطرقة الزرادشتية في الشرق , والسندان البولصي في الغرب .

وربما تكون كلمة (الحارث بن كعب) , احد رجال الدين في قبيلة (بلحارث) النجرانية التي يوصي بها ابنائه , شاهداً على مدى خطورة ما تعرّضت له النصرانية التوحيدية حينئذ , حيث قال فيها ( يا بني قد أتت عليّ مائة وستون سنة , ولا بقى على دين عيسى بن مريم من العرب غيري , وغير تميم بن مرّ بن أسد , فموتوا على شريعتي , واحفظوا عليّ وصاتي , وإلهكم فاتقوا , يكفكم ما اهمكم ويصلح لكم حالكم , واياكم ومعصيته ) . ورغم انّ هذه الكلمة قد اصطبغت بالمبالغة في تقدير انحسار النصرانية بين شخصين , وذلك ما يخالف الحقيقة التاريخية , إِلَّا انها توحي بخطورة ما تعرّضت له من طوق سياسي وغزو ثقافي . وَمِمَّا يُنسب ل(كعب) هذا الأبيات : “وصرتُ الى عيسى بن مريم هاديا * رشيداً فسمّاني المسيح حواريا .. بني اتقوا الله الذي هو رَبُّكُم * براكم له فيما برى وبرانيا .. لنعبده سبحانه دون غيره * ونستدفع البلوى به والدواهيا .. ونؤمن بالإنجيل والصحف بها * نهتدي من كان للوحي تاليا” .

وفي (الحيرة) برزت جماعة “العبّاد” , الذين كانوا يأتلفون عقائدياً وسلوكياً من مختلف القبائل العربية وباقي التجمعات الديمغرافية العراقية , في مؤازرة للحنيفية الموحِدة في الجزيرة العربية . وفي كثير من البلدان داخل بلاد ما بين النهرين كان بإمكان الناس عرض عقائدهم المسيحية الموحدة , إِلَّا انّ ذلك كان ممتنعاً في الأقاليم الخاضعة للسلطة او النفوذ الروماني , الذين يجوب قساوستهم مختلف الاصقاع مبشرين باسم “الرَّبّ يسوع” , تحت ارهاب السيف الإمبراطوري , وترغيب المال التجاري , لذلك انزوى معظم الموحدين النصارى كعبّاد زاهدين متكتمين , يعرضون دينهم لمن يستحق وحسب .

انّ الفكرة التي استند اليها النساطرة -بحسب الظاهر- في تناولهم لطبيعة السيد المسيح هي ذات الفكرة التي يعتمدها المسلمون الشيعة الإمامية حول طبيعة الأئمة من أهل البيت , حيث يَرَوْن انهم -في تجسّدهم- كانوا بشراً كما كان غيرهم , لكنّهم خارج الجسد مصدر للفيض الإلهي , بنحو الواسطة . وبذلك ف(عيسى) والأئمة مخلوقون لله , لكنّهم في منزلة اعلى وأعظم من أنْ تكون لبشر غيرهم , وذلك ما يشبه بنحو ما وظيفة الملائكة .

وهذا هو ما جعل (بابل) ومحيطها حاضنة مستقبلية للعقيدة الاسلامية الشيعية الإمامية , حيث دخلت قبائل (شيبان) و (عجل) و (الازد) ومجمل مملكة (المناذرة) في الاسلام , قبل وصول الجيش العربي الحجازي الى العراق . كما صار الكثير من مسيحيي الأمس دعاة العَلَوية الاسلامية , كعائلة (آل اعين) .

وهذا ما جعل الشاعر (النابغة الجعدي) ممن يتأله في الجاهلية وينكر الخمر ويهجر الأوثان والأزلام , ويوّحد الله على دين النبي (إبراهيم) , ويصوم , ويستغفر , ويتجنب موبقات عصره , حتى وفد على النبي (محمد) مسلماً , يلقي الشِعر في حضرته مؤيداً لرسالته الإلهية , كما ظل بعدها الى جانب صاحب الحق الوصي (علي بن أبي طالب) , وشارك معه في معركة (صفّين) وقد نصره بشِعره[86].

انّ (بابل) والمنطقة العربية لم تكن في عقائدها تخضع للأثر السياسي الراهن , بل كانت تستند الى ارتكاز فلسفي عميق , ناشئ عن الفيض المعرفي الإبراهيمي , وهذا ما ميّزها عن الشعوب الوثنية في أوروبا , التي استقبلت بدعة (بولص) , لذلك لم تعتنق الشعوب الشرقية الديانة الفارسية , رغم عمق التأثير السياسي للفرس في المنطقة . وهذا الارتكاز التوحيدي المفقود هو الذي جعل (كسرى) إمبراطور الفرس يمزق كتاب رسول الله اليه دون باقي الملوك[87], لأنه خارج الدائرة الإيمانية التوحيدية التاريخية , لا العصبية القومية للفرس كما يدّعي القوميون العرب الْيَوْمَ . بينما تأتي قبائل كبرى مثل (حضرموت) -عليها ملوك- لتؤمن بالإسلام طوعا[88], لما لها من ارتكاز عقلي عراقي بنحو ما .

 

 

 

 

 

 

 

المبحث الخامس: الوَندال

 

أو (الفَندال) , هم إحدى القبائل الجرمانية الشرقية , كانوا على الديانة المسيحية الموحدة لله . وقد كانوا مضطهدين من قبل الكنيسة التثليثية . فاجتمعوا تحت راية الملك الموحد (غايسرك) , وشهدوا عدة حروب مع الروم في القرن الخامس الميلادي , تنقلوا بعدها في جنوب أوروبا , بين فرنسا وايطاليا وفرنسا , ثم الى شمال إفريقيا , لا سيما مدينة (قرطاج) , وضموا إليها جزيرة (صقلية) , والعديد من جزر البحر المتوسط . ويُعتقد أن اسم الأندلس لجنوب ايبيريا مشتق من اسمهم (واندالوسيا) .

ويُختلف في تحديد أصلهم بين مدن (فاندل) السويدية و (هالندال) النرويجية و (فندسيسل) الدنماركية . استوطنوا منطقة سيليزيا سنة 120 ق م . وتم تسجيل وجودهم في المنطقة الواقعة بين نهر (أودر) ونهر (فيستول) في (جيرمانيا) . ثم تم إجبارهم -بالإضافة لحلفائهم الروجيين- من قبل (القوط) على الرحيل نحو جنوب حدود الإمبراطورية الرومانية . ودخلوا في القرن الخامس الميلادي في تحالف (القوط) بقيادة (ثيودوريك العظيم) , كما تحالف (الوندال) مع (الإفرنج) إبان فترة حكم (كلوفيس الأول) .

ينقسم (الوندال) إلى قبيلتين أساسيتين , السلينجيون , وعاشوا في سيليزيا بجرمانيا , والهاسدنجيين , الذين عاشوا في الإمبراطورية الرومانية , وأغاروا عليها , ثم تصالحوا , بالاتفاق على ترك الحرية للوندال بالعيش في مقاطعتي (داقية) و (المجر) الرومانيتين , مقابل ترك الغارات .

ثم هاجر (الوندال) الهاسدنجيون مع حلفائهم الألانيين السرماتيين والسوفيين الجرمانيين الى غرب أوروبا , في أوائل القرن الخامس الميلادي , كما فعل (القوط) من قبلهم , بعد أن اعتنق (الوندال) الأريانية , وهو مذهب مسيحي قائم على التوحيد , بما يخالف ما كانت عليه الإمبراطورية الرومانية من عقيدة التثليث (الكاثوليكية الأرثودكسية) .

فاتجه (الوندال) إلى الغرب , دون صعوبة , سوى عند وصولهم الى نهر الراين حيث اصطدموا ب(الإفرنج) في شمال بلاد الغال الرومانية , فُقتل من (الوندال) 20 ألفاً مع الملك (جوديجيزل) , ثم بمعونة الألانيين استطاعوا هزيمة (الإفرنج) وعبروا نهر الراين , بقيادة (جندريك بن جوديجيزل) واتجهوا جنوبا . ثم عبر (الوندال) جبال البرانس , ودخلوا ايبيريا , وعقدوا معاهدة مع الدولة الرومانية , اخذوا بموجبها معظم شبه الجزيرة . ثم قام (القوط الغربيون) بغزو ايبيريا وطرد الألانيين , وقتل ملكهم , ليدخل من تبقى من الألانيين تحت سلطان ملك الواندل (جندريك) الذي صار “ملك الوندال والألانيين” , والذي بنى اخوه (جايسريك) الاسطول الكبير للوندال , فعبر مضيق (جبل طارق) الى (قرطاج) , فاحتل معظم شمال افريقيا وجزر البحر المتوسط .

وظل الخلاف محتدماً بين (الوندال) الأريانيين وبين الأوروبيين الكاثوليك , حتى استولى (الوندال) على (روما) . الى أن شن الرومان البيزنطيون بقيادة الإمبراطور (جستينيان الأول) والقائد (بيليزاريوس) هجوماً بحرياً ضخما , قضى على اسطول (الوندال) ودولتهم في نهاية الثلث الأول من القرن السادس الميلادي , بعد استسلام الملك (جيليمير) ونفيه , بعد قرن من قيامها .

كان عدد (الوندال) حين دخلوا شمال افريقيا أكثر من 800,000 , اندمجوا مع المجتمع الأصلي بعد هزيمة دولتهم , وأصبحوا تحت سيطرة الرومان . ولم تكد تسقط دولتهم , وقلبها الموحِد , حتى ولد نبي الإسلام (محمد) في حدود 570م , أي بعد أربعين سنة من آخر حاكمية لهم , وقبل اندثار فكرهم على يد عتاة الرومان[89].

وقد اعتنق (الوندال) عقيدة (اريوس) الموحدة , التي ترى الله خالقاً , والمسيح مخلوقا . اذ كان (اريوس) مشهوراً بالتوحيد , كما يُنقل عن (ابن حزم)[90]. و (اريوس) بربري ليبي , درس الفلسفة الدينية المسيحية في مهدها في سوريا , فنبذته الكنائس الكاثوليكية ونسبت اليه الشائعات . حتى أصدر الإمبراطور (ثيئودوسيوس) قراراً بقبول شكل ديني واحد هو المسيحية الكاثوليكية الأرثوذكسية التي أقرها (داماسوس) أسقف (روما) و (بطرس) أسقف (الإسكندرية) . وبالتالي ضم غالبية الآريوسيين إلى الكنيسة, أما البقية الذين تخلفوا فقد انضموا على التوالي إلى مذاهب أخرى , وخاصة الذين انضموا إلى المسيحية النسطورية الموحدة التي كانت تتركز في العراق .

ان المسيحية الاريوسية كانت ديانة مجمل قبائل (القوط الشرقيين) في البلقان والغربيين في ايبيريا (اسبانيا والبرتغال) , وهذا ما ساهم لا شك بشكل خفي عميق في قبول جزء كبير من البلقانيين – سواء من السلاف او ممن ذاب معهم من (القوط) – في البوسنة وكوسوفو وألبانيا وغيرها من بلاد شرق أوروبا للدين الإسلامي واعتناقه , وكذلك دخول الكثير من (القوط الغربيين) في الإسلام عند تأسيس الاندلس , رغم دخول الأخيرين في الكاثوليكية المثلثة في حدود 600م , الا ان الفترة التي لم تتجاوز القرن بعد ذلك سمحت ببقاء الأساس التوحيدي الذي يرتكز عليه الإسلام في نفوس الكثيرين منهم[91].

ومن ثم يبدو جلياً ان الأمم المسيحية التثليثية في أوروبا وفي بعض مدن مصر كانت قد اشتركت في أصل ما عليه الوثنية من تأليه لغير الخالق الفلسفي , ولم تعد قادرة على استيعاب الفلسفة التوحيدية .

فيما كانت المسيحية في العراق التاريخي -الممتد من أرمينيا الى اليمن- وفي بلاد الشام وفي شمال افريقيا موحدة مؤمنة بخالق واحد , وبالتالي هي قادرة على فهم والايمان بعقيدة موحدة خاتمة .

لذلك كانت هذه الأمم الموحدة هي بالفعل من آمنت بالإسلام لاحقاً , وعملت على نشره . وأن هذه الأمم المسيحية الموحدة -التي لم يستطع التثليثيون فهم ما تريده , من كون المسيح مخلوقا , لكنه بقدرات فوق بشرية , فجعلتها كتابات بعضهم تؤمن بنصف الوهية المسيح زوراً وجهلا- لم تكن ترى سوى ذات القدرات التكوينية التي يراها شيعة اهل البيت في الإسلام لائمتهم . ليتجلى سر ايمان العراقيين ومعظم الامة الآرامية في ايران وأذربيجان ودول الجزيرة واليمن والشام والبربر ومعظم شمال افريقيا بعقائد المسلمين الشيعة , لفترة طويلة , هي مستمرة في العراق وايران الى اليوم , وفي شمال افريقيا قبل غلبة العنصر البدوي -بهجرة قبائل (قيس عيلان) النجدية الصحراوية اليها- على سلطانها , وانتهاجهم منهج التشيع في الولاية التكوينية والتشريعية .

 

لهذا كله كان من الضروري إعادة ترتيب المسار التوحيدي , وفرز الأوراق الدينية والفكرية , وضخ الحياة في الجسد الإبراهيمي , وازاحة الدين السلطوي المحرّف , وإظهار المسيحية النصرانية الحقة , والتي ترجع الى (عيسى بن مريم) , وكشف تواطئ اليهود مع الرومان , وذلك تم من خلال رسالة سماوية جديدة هي ( الإسلام ) .

 

 

 

 

 

 

 

المبحث السادس: الإسلام والمسيحية

 

 

 

الأرجح ان النبوءة التوراتية للنبي (إبراهيم) في تحقق بركة ولده (إسماعيل) من خلال قولها ( وأما إسماعيل فقد سمعتُ لك فيه , ها أنا أباركه واكثّره كثيراً جدا , اثني عشر رئيساً يلد , واجعله أمة كبيرة )[92]لم تتم الا من خلال العقيدة الإمامية في (علي بن أبي طالب) وبنيه , ولا يوجد لها بعد ذلك تفسيراً اسلامياً أو مسيحياً مناسباً أو منطقيا .

 

لقد تنصّرت قبائل (تنوخ) و (الأزد) التي منها (مذحج) و (النخع) و (الغساسنة) و (المناذرة) , وهي من القبائل السبئية , كذلك تنصرت قبائل (ربيعة) التي منها (تغلب) و (عبد القيس) (بكر بن وائل) التي منها (شيبان) و (عجل) , وهي من القبائل العدنانية , كذلك (أياد) و (جذام) . وكان (أنباط) العراق والآراميون والآشوريون نصارى ايضا . حتى اصبح العراق القديم ( بلاد الرافدين ) , وهو من أرمينيا حتى (قطرايا) أو (قطر) , بل حتى عُمان التي كانت من اعمال البصرة في زمان جلال الدولة البويهي[93], كله مسيحياً تقريبا , يدين بالنسطورية[94], التي ترى (عيسى بن مريم) إنساناً لا إلها . وقد صارت (الحيرة) المركز الديني الأكبر والأشهر عالمياً للمسيحية غير الرومانية .

إِلَّا انّ هذا الإيمان المسيحي كان يقلّ في عمقه العقائدي كلما ابتعد عن وهج النسطورية في العراق , فكان مسيحيو العراق أصلب من غيرهم في عقيدتهم , لكنّهم دخلوا الى الاسلام قبل دخول خَيل الجيش الاسلامي بلادهم , فصار (المثنى بن حارثة الشيباني) زعيماً لتلك الجموع المسلمة , وفي جيشه – الذي زحف الى (ذي قار) – نحو أربعة آلاف من نبط العراق , الذين اُطلق عليهم العرب اسم (الموالي) , لأنهم دخلوا في أحلاف موالاة مع القبائل العربية , بعد ان كانوا أهل مدنية لا قبلية . والغريب ان العرب من (ربيعة) و(مضر) تخاصمت نتيجة حروب هؤلاء الموالي لاحقاً في العصر العباسي انتصاراً لاحد طرفي (بني بويه) غير العرب , حتى اصلح بينهم (عضد الدولة) ملك (آل بويه)[95].

وفي مصر يقدّر بعض الباحثين انّ اكثر من ٨٠ ٪ من الأقباط دخلوا الى الاسلام دون قتال . وربما يكون هذا الامر مستغرباً من أُمَّة ورثت الظلموت الفرعوني , لكن حين يُعلم انّ المرحلة التي اعقبت حكم الهكسوس لمصر شهدت تغيّراً ديمغرافياً كبيراً , من خلال هجرة عربية ورافدينية واسعة باتجاه مصر .

وعن (سعير بن سوادة العامري) أن العرب كانت تتوقع ظهور النبي في (قريش) منذ زمان (هاشم بن عبد مناف) جد أب النبي (محمد) , بسبب الأخبار الدينية في بلاد الشام المسيحية , حتى ظن (سعير العامري) أن (هاشماً) هو ذلك النبي , لكرمه وسماحته وزعامته[96].

وفي قصة (بحيرى) الراهب , احد رجال الدين النصارى في الشام , مع (ابي طالب) -حين قدم مع ابن أخيه (محمد) في تجارة الى الشام- ما يكشف عن انتظار النصارى لظهور نبي , ومعرفتهم بصفاته , وعن علم (ابي طالب) بنبوة ابن أخيه قبل (قريش) , وايمانه به , حيث وفر له الحماية , حيث حذره الراهب من اليهود . كما فهم ما فهمه (بحيرى) مجموعة أخرى من الرهبان[97]. وقد حذّر الراهب المسيحي (قريشاً) من ان ترى الروم النبي فتعرفه بالصفة , فتقتله . وقد كان نَفَر من الروم يبحثون عنه في هذا الشهر لانتشار علم ظهوره . الامر الذي يعني ان اليهود والروم قد أيقنوا ظهور النبي وأنه من العرب , وقد عزموا على قتله[98]انسجاماً مع إرثهم الحضاري الفرعوني .

وهذا ما يسري على قناعة ملك الحبشة (النجاشي) بنبوة (محمد) رغم أنه مسيحي , اذ قال ل(عمرو بن العاص) -مبعوث قريش , بعد ان ضربه- ( أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله؟ )[99].

انّ العشرات من الآيات القرآنية التي تضمّنت مفردات ( أهل الكتاب , اليهود , بني إسرائيل , النصارى , المسيح , عيسى , موسى , نبي , رسول , التوراة , الإنجيل , الزبور , الصحف , ” اسماء الأنبياء ” , الرهبان , الأحبار , … ) وغيرها , تشير بما لا يدع مجالاً للشكّ انّ الاسلام منذ انطلق الى زمان وفاة النبي (محمد) كان يركّز في حواراته على اصحاب الديانات التوحيدية من اليهود والمسيحيين .

امّا ما جاء من تأريخ كتبه أمثال (سيف بن عمر التميمي) الكذّاب[100], او دعاة (بني أمية) وبني العباس , مثل (محمد بن عمر الواقدي)[101], والذي يظهر أن تاريخ النبي اقتصر في أغلبه على المواجهة مع (قريش) ورجالاتها , فليس إِلَّا خدعة كبيرة . فلقد دخل في الاسلام – منذ دعوته الاولى – أفواج من أهل الكتاب طوعا , لا كما دخلته (قريش) كرها , لذلك تجذّرت العقيدة فيهم , وماتت في (قريش) وحلفائها .

وقد تكون القبائل والجماعات اليهودية هي وحدها من واجهت الاسلام بالعنف او التآمر , رغم انّ كلاهما نبع عن التوحيد , لكنّ هذا الامر يمكن تفسيره من خلال معرفة انّ جلّ بني إسرائيل الذي دخلوا العراق في الاسرين البابلي والآشوري صاروا مسيحيين , منذ القرن الاول الميلادي . فيما دخل الكثير من اليهود في المسيحية في (القدس) على يد المسيح ذاته , ومن ثمّ على يد تلامذته. ولم يبقَ على اليهودية إِلَّا نزر يسير , متأثر بالظلموت الفرعوني . كما كان هناك مجاميع من اليهود لازالوا ينتظرون مخلّصهم , ولم يقتنعوا ب(عيسى) , وبعضهم لم يقتنع ب(محمد) كذلك , لكنّ الكثير من أفرادهم دخلوا في الاسلام تدريجيا .

وقد بقي بعض النصارى على دينهم بفعل عدم اقتناعهم بالقادة الجدد للإسلام العُمَري , حيث يُلاحظ انّ اغلب الحركة باتجاه الاسلام كانت على عهد النبي .

وقد واجه بعض قادة القبائل النصرانية انتشار الاسلام سلباً , بفعل رؤيتهم انهم إنما ينافسون قادة جدد يريدون النفوذ والمال , لذلك بقي هؤلاء خاضعين للمال الروماني البيزنطي . ومع ذلك كان هناك من كبار الزعماء من تخلَّى عن كلّ هذه البهرجة والنفوذ , لمجرّد قناعته , حتى سيق الى خشبة الموت الرومانية , مثل (فروة بن عمرو الجذامي) , الذي اسلم , وأرسل هدية الى الرسول (محمد) , وقد كان عامل الروم على العرب , فأخذه الروم جزاء إسلامه , فقال في السجن ( طرقت سليمى موهناً أصحابي والروم بين الباب والعزوانِ ) , ولمّا أراد الروم صلبه على ماء لهم قال ( الا هل أتى سلمى بأنّي حليلها على ماء عفرا فوق احدى الرواحل ) , وحين عُرض للقتل قال ( بلّغ سراة المسلمين بأنني لربي أعظمي ومقامي )[102].

وقد رأى بعض المؤرخين العرب انّ بعض القبائل النصرانية كانت تقاتل الى جانب الجيش الاسلامي لصلة العروبة , حيث يروون انها بقت على نصرانيتها , وهو خلط ووهم كبير , اصله رغبة رواة الاسلام العُمَري الأموي في رفع شأن الجيل الجديد من قادة قريش الذين دخلوا في الاسلام كارهين , والحطّ من شأن الجيل الاول , الذي انتقل تالياً لنصرة (علي بن أبي طالب) , حيث ليس هذا السبب العروبي كافياً لإقناع الباحثين باتحاد قبائل كانت تتقاتل بالأمس القريب نيابة عن الروم وفارس .

وهذا رجل من نصارى (تنوخ) رأى الانتصار للروم على المسلمين , لجامعة الدِين المشترك التي كان يراها للوهلة الاولى , لكنّه لاحقاً يشرح كيف كانت نظرة قومه ومجتمعه للطرفين المتحاربين ( فجعلنا لا نمرّ بأحد من أهل البلد إِلَّا وجدناهم أحسن شيء ثناء على العرب , في كل شيء من امرهم وفي سيرتهم , وأقبل الروم يفسدون في الارض ويسيئون السيرة , ومن إساءتهم شرب الخمر وسرقة المواشي وعدم إطاعة القوّاد , والتعرّض على النساء , وضرب الصبيان )[103]. وكما يُلاحظ انّ القيم الاخلاقية لنصارى العرب والأنباط كانت حافزاً مهماً في اسلامهم .

ولعب غير العرب من النصارى دوراً مهماً في انتشار الاسلام , حيث كان أنباط الشام وسكّان (السامرة) دليلاً وعيناً للجيش الاسلامي ضد الروم , وايضاً شارك (الجراجمة) في ارض (لبنان) الحالية و (أقباط) مصر في إضعاف جيوش الرومان وانتشار الجيش الاسلامي . وعند توجّه جيش المسلمين خلال (زيزاء – البلقاء – القسطل) لم يواجه أيّة مقاومة نصرانية قبل لقائه جموع الروم . فيما ينقل (ابن اعثم الكوفي) انّ قبائل (لخم, جذام, غَسَّان, قضاعة, عاملة) كانت على مسيرة الجيش الاسلامي في معركة (اليرموك) , وهي من القبائل النصرانية الكبرى في المنطقة[104]. وفي فتح الجزيرة اشتركت (تغلب) وجموع العرب المُتنصّرة الى جانب جيش المسلمين .

فيما لقصة قبيلة (أياد) النزارية إشارة خاصة يجب معالجتها , حيث ينقل بعض الرواة انها انتقلت الى بلاد الروم عند وصول جيوش المسلمين , ثمّ طلب (عمر) الى ملك الروم اخراجهم , وإلّا ذبح النصارى تحت يديه . وفي هذه الرواية عدّة إشكالات لا تستقيم أمام النقد , فمتى كان ل(عمر) ان يهدد ملك الروم والمعركة بينهما سجال! , وكيف يخشى ملك الروم ان يقتل (عمر) نصارى العرب وهو سيُخرج اليه مثلهم! , وكيف جاز ل(عمر) ذبح عُبَّاد الله جورا ! . لكنّ الصحيح الأقرب هي الرواية الأخرى التي ترى انّ (أياد) كانت تقيم في ارض الروم , لكنّها دخلت في الاسلام طائعة , وأرادت الخروج لنصرة المسلمين , فمنعها ملك الروم , وعندها جاز ل(عمر) تهديده . ومن ذلك يُعلم حجم التشويه الذي طال تاريخ النصارى العرب والأنباط على يد رواة (بني أمية) .

وقد وصل الامر بالمسيحيين الى التضحية بالنفس فرادى , وعلى مستوى رجال العلم والدين , من اجل نصرة الاسلام , كما فعل (باسل الراهب) في فتح (صور) , وما فعله (يوحنا) في فتح قلعة (اعزاز) و (إنطاكية) , فيما أغلق أهل (حمص) مدينتهم أمام جيش (هيراكليوس) الروماني .

وكان سكّان (حماه) و (حمص) و (شيرز) و (جبلة) معظمهم من العرب السبئية , لذلك فضّل (الأزد) ان يتوجهوا اليهم لنصرته وتخليصهم من نير الروم . وقد خرج أهل (معرة النعمان) بسيوفهم يستبشرون فرحاً بوصول جيش المسلمين .

لكنّ الامر في (العراق) لم يكن كما في البلدان الأخرى , ففيه كانت حوزة العلم النصرانية في (الحيرة) , واهله قد استشيعوا لحقّ (علي بن ابي طالب) في الخلافة , بعد أنْ عرفوا مكانته من رسول الله , حين التقى النبي بقادة (شيبان) و (عجل) قبل يوم (ذي قار) , والذي قال بعده انهم به نصروا , مما يثبت انهم كانوا يعتقدون بدينه , وأنهم رفعوه شعاراً في معركتهم , بعدما أوعدهم الخير . كذلك كان أهل العراق خليطاً من الانباط والعرب , تجمعهم النصرانية والقربى , وهو ما كان ينفر منه (عمر بن الخطاب) جرياً على عادة الجاهلية , ففرّق بينهم في الموّدة , كما فرّق بينهم في العطاء , بعدما اصطلحوا على تسميتهم ب ( العجم ) , لكونهم انباطاً وآراميين . لذلك كفر أهل العراق جملة بخلافة (ابي بكر) , ومن خلفه (عمر) , فكان الامر يزداد تعقيداً , وعند الرواة كذباً وتشويها . وَمِمَّا زاد في سوء الامر انّ (أبا بكر) أرسل اليهم (خالد بن الوليد) , ذلك الوثني سيّء الخلق . لذلك كان (عمر بن الخطاب) يطالب (المثنى بن حارثة الشيباني) بقوله ( اما بعد فاخرجوا من ظهري الأعاجم … ) , وقال ( احملوا العرب على الجد اذا جدَّ العجم ) .

لقد كان جيش نصارى العراق الذي اسلم وهو من (ربيعة) من (شيبان) و(عجل) و(بكر) , كذلك الأنباط و(الأزد) , عامل الحسم في تحرير العراق , حتى انّ (المثنى) وصل الى (بغداد) , وجعل له معسكراً ثابتاً في (الأنبار) , يقوده (فرات بن حيّان) , بعد أنْ اجبر أهل الأنبار من النصارى حامية الفرس على الانزواء .

ولهذا ايضاً ربما استنفر رسول الله الناس الى (تبوك) , لقتال الروم[105], وهم على المسيحية , وأبعد بلاداً عنه , ورغم ما قيل عن لين ملكهم مع رسل النبي , ولم يستنفر الناس الى قتال الفرس , وهم على الوثنية , وأقرب إلى بلاد العرب مركزا , رغم ما قيل عن سوء صنيع ملكهم مع رسل النبي , لأن أهل العراق كانوا قد كفوا رسول الله مؤونة الفرس فعلا .

وفي معركة (البويب) في السنة الثالثة عشر للهجرة جاء جيش الفرس بقيادة (مهران) , فالتئمت القبائل العربية النصرانية – مع مواليها من الانباط – بقيادة (المثنى بن حارثة الشيباني) , يؤازره نصارى (نمر) بقيادة (أنس بن هلال النمري) , و نصارى (تغلب) بقيادة (ابن مردي الفهري التغلبي) . وفي معركة (الجسر) قاتل نصارى (طيء) بقيادة (ابي زبيد الطائي) الشاعر , وكان نصرانيا . وفي فتح (تكريت) حضرت (تغلب) و (أياد) و (نمر) . وهي القبائل ذاتها التي يدعي المدعون ان (خالد بن الوليد) قاتلها عند دخوله للعراق[106], ولا تستقيم الروايتان . وكانت هذه القبائل هي التي انتحلت عقيدة التشيع ل(علي بن أبي طالب) , وهي ذاتها من فتح العراق , بعيداً عن مرويات (سيف بن عمر التميمي) الكاذبة , الذي لم ينسَ ان يجعل لقومه من (بني تميم) حصة كبيرة من فتح العراق , حتى انه جعل عفو جيوش المسلمين عن قبيلة (كلب) النصرانية في حروب فتح العراق بسبب حلفها الجاهلي مع (بني تميم)[107], اذ كانت أراضي (بني تميم) من البصرة تمتد الى قطر ضمن صحارى ساحل الخليج , وأراضي (كلب) من (السماوة) باتجاه (نجد) , فهمًا قبيلتان متجاورتان تقريبا[108].

وحين كان جيش الخلافة العُمَرية الذي أتى مع (سعد بن ابي وقاص) مشغولاً بنهب ثروات العراق , التي انبهر بها الى الحد الذي سمّوا تلك الأيام باسمها , فيوم الأبقار ويوم الحيتان (السمك) , والتي كانوا ينهبونها من مزارعي سواد العراق , بقيادة الأمراء العمريين الجدد مثل (سواد بن مالك) صاحب اول سرية ل(سعد) , كانت القبائل العراقية التاريخية المسيحية التي أسلمت تقاتل ضد الفرس والروم دفاعاً عن الإسلام , واشترك الانباط من أهل سواد العراق (الحمراء) في جيش (القادسية) الإسلامي ضد الفرس , بل اشترك الديلم الذي كانوا يسكنون الأرض الممتدة داخل العراق وايران المعاصرة .

وهؤلاء الأبطال من أهل العراق هم الذين وصفهم (سعد) في كتابه الى (عمر بن الخطاب) بقوله ( كان يدوون بالقرآن اذا جن عليهم الليل دوي النحل , وهم آساد الناس لا يشبههم الأسود ) , وهم ذاتهم من صاروا شيعة ل(علي بن أبي طالب) , فكان احرى بالوصف ان يبقى معهم . بل إنّ قبائل (عبد القيس) و (شيبان) تشكلت لديها صورة معرفية , أثمرت تشيعاً عميقاً ل(علي بن أبي طالب) , زاد فيه ارتكازهم المعرفي العراقي المسيحي . ومن الواضح من منطق كلام قبيلة (شيبان) عند لقائهم برسول الله وخشيتهم من هجوم الفرس عليهم[109]انه كان قبل معركتهم في (ذي قار) , وبالتالي هو عند اول بدء الدعوة , ولا يبعد أن تكون تلك المعركة إسلامية .

وقد كانت قبائل اليمن الأزدية تعيش بين الديانات التوحيدية الإبراهيمية واليهودية والمسيحية , اما في العراق فقد كانوا على المسيحية , وهذا مميز آخر يجعلهم يفضلون على غيرهم لو تم القياس . وهذا لا يلغي دور قبائل وأنساب اخرى ناصرت (علي بن أبي طالب) , بل ان (الأزد) كانوا محور حركة هذه النصرة , فهناك قبائل كثيرة لم تقل إقداماً في نصرة الحق مع (علي) , حيث لا يفترقان حتى يردا على رسول الله الحوض .

لذلك انتشرت معاني الاسلام النبيلة في بُطُون العرب النصارى وبعض اليهود , وكذلك الانباط والآراميين , فيما لم تجد استجابة ذات معنى في البطون الوثنية العربية , كما هي معظم (قريش) , ولم تؤمن المسيحية الرومانية كذلك . انّ الذي يؤمن بالإسلام كان لابدّ ان يكون شعباً يجمع التوحيد بالأخلاق , وما عداه سيكون إيمانه متذبذبا . لهذا كان (علي بن أبي طالب) يعد أصحابه للانتشار في بُطُون هذه الشعوب والقبائل النبيلة , لصناعة جيل جديد يعرف هويته ويتمسك بها . عن (أبان بن تغلب) قال ( قلت: لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق -ع-: جُعلتُ فداك , هل كان أحد في أصحاب رسول الله ص أنكر على ابي بكر فعله؟ , قال: نعم , كان الذي أنكر عليه اثنا عشر رجلاً , من المهاجرين خالد بن سعيد بن العاص , وكان من (بني أمية),  وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر , وبريدة الأسلمي من الأنصار والهيثم بن التيهان وسهل وعثمان ابنا حنيف وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وأُبي بن كعب وأبو أيوب الأنصاري. فلما صعد أبو بكر المنبر تشاوروا بينهم , فقال بعضهم: لننزلنه عن المنبر , وقال آخرون: لئن فعلتم إذاً أعنتم على أنفسكم . فذهبوا إلى أمير المؤمنين يستشيرونه , فقالوا: تركتَ حقاً أنت أحق به وأولى , ولقد هممنا أن نصير إليه فننزله عن المنبر . فقال: لو فعلتم ذلك لما كنتم إلا حرباً , ولكنكم كالملح في الزاد وكالكحل في العين , ولو فعلتم ذلك لأتوني فقالوا بايع والا قتلناك )[110].

يقول (غيومان لوسيتر) في كتابه (تاريخ فرنسا) ما نصه ( انّ هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة وقالوا للناس اسلموا او موتوا , بينما اتباع المسيح ربحوا النفوس ببرّهم وإحسانهم )[111], ولا يُعلم عن أيّ برّ ( دمويّ ) يتحدث (لوسيتر) ! , إِلَّا اذا قصد برّ نصارى الشرق وحدهم , والذين دخلوا في الاسلام طوعا .

نعم , يمكن الاتفاق مع المستشرقين المعنّفين للإسلام فيما فعله الاسلام (العُمَري) , و (الأموي) لاحقا . وحين يوصف بالعُمَري تجاوزاً لمرحلة (ابي بكر) , فلأنّ فترة (أبي بكر) لم تكن سوى مرحلة وسطية للهيمنة على السلطة , لأنه لم يكن جزءاً واقعياً من المتآمرين , لكنّه كان دنيوياً محضاً , ينفع في جعله الخطوة الاولى نحو استلاب الخلافة من قبل اللاعبين خلف الكواليس , لاسيما بعد أنْ زوّج ابنته (عائشة) من رسول الاسلام .

وبذلك يجب التفريق بين ما جاء به الاسلام وبين ما قام به مسلمون , كما يجب التفريق بين ما جاء به المسيح (عيسى بن مريم) وبين ما فعلته المسيحية الرومانية[112], بمعنى انّ الاعتداء صفة متأصّلة في الناس , لا في الدين .

ومن ذلك يُعرف انّ المستشرقين لم يكونوا واقعيين في دراسة الأسباب التي جعلت الأقوام الغالبة تعتنق الاسلام , رغم انتصارها على جيش المسلمين , كالمغول , والأتراك , وهي الأسباب التي ستكون منطلقاً جيداً لفهم أسباب دخول نصارى الشرق في الاسلام .

امّا ما يراه مستشرق مثل (دوزي) من دافع اقتصادي لاعتناق النصارى للإسلام فلم يكن واقعياً , حيث افترض انهم أرادوا إسقاط (الجزية) عنهم , لكنّه غفل انّ الدخول في الاسلام يعني بذل النفس , لا المال وحده , حيث سيكونون جزءاً من الجيش الاسلامي اذا هاجم , وجزءاً من الجسد الاسلامي اذا تعرّض للخطر . امّا اذا كان حال هؤلاء النصارى كنصارى العراق , قد تشيّعوا ل(علي بن أبي طالب) , فهم ملزمون بدفع خمس اموالهم . لذلك كلّه وغيره يُعلم انّ لدخول أهل الكتاب في الاسلام اسباباً اعتقادية بحتة في الغالب , ولا يعني ذلك انّ بعضهم لم تكن نواياه سيئة في إسلامه مثل (كعب الأحبار) .

ويبدو ان المسيحيين كانوا يميّزون أهل الدين الحق عن غيرهم , فكانوا اليهم اقرب , في اسلامهم وفي تنصّرهم , فهذا اسقف نينوى الجاثليق (مار مي الارزني) يرمي الميرة والمعونة الى جيش (علي بن أبي طالب) في واقعة (صفّين) , فكتب اليه (علي) وصية على رعيته .

وفي مصر انقسم الشعب الى قسمين , احدهما متمسك بموروثه , والآخر انضم الى جيش المسلمين . وفي بعض الروايات انّ بعض رؤساء الأقباط أصلحوا الطرق وأعانوا جيش المسلمين . وقد اسهم الأقباط في فتح (قبرص) , واشتركوا في المعارك البحرية للمسلمين . وقد كان أهل مصر اكثر الناس ولاءً ل(علي بن أبي طالب) , وأشدهم نقمة على عثمان بن عفان وحزب (بني أمية) , حتى أعلنوا الثورة الكبرى بقيادة أبناء الصحابة , وهي الثورة الشعبية التي جاءت ب(علي بن أبي طالب) الى السلطة . فيما جاء بعض (البربر) يعرضون اسلامهم قبل دخول جيش المسلمين[113].

انّ العلاقة بين نصرانية الشرق ومسيحية الغرب كانت على نحو النقيض بين التوحيد والوثنية , ولم يكن نصارى العرب آخذين بما عليه الكنيسة الرومانية من عقيدة او تشريع , فهذا (المنذر بن الحارث الغساني) يتزوج بعدّة نساء , على خلاف ما عليه الكنيسة الرسمية . فيما يوجز (ريتشارد بيل) العلاقة بين الكنيسة ونصارى الشرق بعبارته ( انّ الكنيسة لم تنجح حقيقة في تثبيت قدمها بين العرب إطلاقا ) . وهذا مالم يفهمه (لويس شيخو) في إطار دفاعه عن نصرانية العرب , فعلّل عدم التزامهم بأحكام الكنيسة بقوله ( ويمكن القول بعدم وجود وازع ديني لدى هذه القبائل ) . فيما انّ الحقيقة انّ هذه القبائل كانت (نصرانية) , تدين بما عليه شريعة (عيسى) وناموسها , لا ما عليه المسيحية (البولصية) من وثنية , اعتمدتها الكنيسة الرسمية الرومانية , التي يرى المستشرقون انها المرجع في تحديد معنى الالتزام الديني .

لقد كان الصراع في بدء الدعوة الاسلامية قائماً بين (قريش) الوثنية وحلفائها وبين الاسلام الدين الناهض بالتوحيد , لذلك لم يكن هناك ذكر للمواجهة مع القبائل النصرانية الكبرى , رغم قوتها .

حين جاء وفد (عبد القيس) بقيادة (الجارود) الى رسول الله أراد (الجارود) التأكّد من شيء واحد فقط , هو الّا يكون دين الاسلام دون مستوى النصرانية , فأخبره الرسول انّ الاسلام خير مما يدين به , فأسلم وأسلمت قبيلة (عبد القيس) , وكانوا أشدّ الناس في اعتقادهم , حتى انهم كانوا يقفون في وجه الاسلام العُمَري الأموي بالسلاح . فقال رسول الله عنهم ( أتوني لا يسألون مالاً , وهم خير أهل المشرق ) . فيما اسلم من (عبد القيس) – وهي من أجَلّ القبائل التي ناصرت (عليّاً) – (المنذر بن ساوي العبدي) ملك البحرين , وكان نصرانيا , وأسلم معه قومه , في زمان رسول الله , بلا جند ولا فتح , حيث أرسل الى النبي يخبره بإسلامه , ويسأله في امر غير المسلمين في بلاده .

فيما اسلم الكريم (عدي بن حاتم الطائي) سيد قبيلة (طَيء) , وكان نصرانياً , بعد ان أخبرته اخته (سفانة) بكرم أخلاق رسول الله , الذي أطلقها , وأطلق قومها كرامة لها , بعد ان علم انها ابنة الكريم في العرب (حاتم الطائي) . وكانت قبيلة (كلب) قد أرسلت وفداً , اسلم , وعاد اليها فأسلمت , وكتب لهم رسول الله كتاباً ولأهل (دومة الجندل) . ولا يمكن اغفال قصة الإسلام الطوعي لنصراني من نينوى اسمه (عداس) , التقاه رسول الله في (الطائف) سريعاً لمجرد انه سمع كلام النبي فأحس بكينونته بفطرته التوحيدية[114].

 

لكنّ القارئ للمصادر الروائية التاريخية , لا سيما الرسمية منها , يرى بوضح كيف ارادت هذه المصادر إظهار النصرانية في المنطقة عموماً على انها فردانية , لا جماعية , بمعنى انها حاولت إلغاء المظاهر الدينية القبائلية والمدنية , وأرادت تصوير وجود المسيحيين بنحو مشتت وموزّع في أفراد يسكنون تلك القبائل والمدن . ويبدو انّ ذلك التصوير الروائي كان متعمدا , لصبغ المنطقة – قهراً – بلون (قريش) الوثني . وهذا ما وافق رغبة الكنيسة الرومانية والقبطية ربما في عدم إظهار منافس تاريخي لهما , كان جزءاً من الديانة المسيحية , اسلمهما للهزيمة .

امّا نصارى (نجران) , الذين لهم عمق تاريخي وعقائدي في المسيحية , فيبدو انّ قادة الدين العُمَري لم يستسيغوا وجودهم في المنطقة القريبة , فأجلوهم في ايام (عمر) , لأسباب افتعلوها .

انّ القبائل العربية النصرانية – ذات البعد المدني الحضاري – لم يكن اَهلها ليكونوا امّعات في قضية اغتصاب فريق (ابي بكر) للخلافة دون استحقاق , لذلك يبدو انّ الكثير منها قد خرج اَهلها ضد جبهة (ابي بكر) . ولم تكن الصلاة والعبادات الفردية هي من ترمز عند (ابي بكر) للخروج عن سلطانه , بل منع الزكاة والخمس هما ما يشيران للخليفة انه مرفوض من قبل هذه القبائل , باعتبار انّ جبايتها من وظائف السلطان . فامتنعت معظم هذه القبائل عن ايصالها الى (ابي بكر) , الذي اشاع انّ ذلك كان ( ردّة ) من تلك القبائل عن دين الله , او ما تم لاحقاً تسميته بالردّة , وقد كان لا يعرف بهذا في حينه , وهذا ما زمّر له المؤرخون العُمَريون والأمويون , تماشياً مع مؤامرة اغتصاب الخلافة وسرقة الدِين . لذلك امتنعت قبيلة (كلب) بقيادة (وديعة الكلبي) عن إيصال الزكاة الى مقرّ الخلافة , وكذلك فعل (أكيدر بن عبد الملك) صاحب (دومة الجندل) , الذي التجأ الى (الحيرة) , وانضم الى قبائل (كلب) و (بهراء) و (الضجاعم) و بعض (غسَّان) و (تنوخ) , وكلهم كانوا على دين النصرانية سابقاً , والتي واجهت جيش (عياض بن غنم) و (خالد بن الوليد) , الذين كانوا يفعلون فعل الجاهلية في الأسرى , يطلقون حلفاء الجاهلية ويضربون رأس غيرهم , بحسب (سيف بن عمر التميمي) , فيما يُفترض ان قتالهم عقائدي لا قبلي![115].

ومن اخطر الأمثلة على الاقلام المشبوهة كان (سيف بن عمر التميمي) الوضّاع الكبير , الذي وثّقه بعض رجالات الدين الأموي , ففي فتح العراق اجمعت روايات (عمر بن شبه) و (الواقدي) و (هشام بن الكلبي) – وهم من كبار المؤرخين عند القوم – انّ المسلمين في طريقهم الى (الحيرة) – التي جعلوها هدفاً , وكانت المركز الديني للمسيحية النسطورية سابقا – لم يجدوا مقاومة ولا عرقلة , الّا شيء من بعض حاميات الفرس تذكره بعض الروايات , لكنّ (سيف بن عمر التميمي) وحده انفرد بادّعاء انّ الفرس حشروا الى جانبهم ( عرب الضاحية ) , وهم الذين يقيمون على حافات البوادي والارياف , وكان منهم بعض (بكر بن وائل) , فقُتلوا , ما دفع (بكر) الى الاستنجاد بالفرس لأخذ ثأر قتلاها . وليس ذلك الّا من موضوعات (سيف) ضد كل فئة خرجت على (بني أمية) او الدين العُمَري . ف(سيف) يعود للانفراد مرّة اخرى في روايته عن دخول المسلمين الى (الحيرة) , حيث يجمع (هشام بن الكلبي) و (ابن إسحاق) انّ أهل (الحيرة) ومنهم (عمرو بن عبد المسيح) قد خرجوا للمسلمين سلماً وصالحوهم على الجزية , واتفقوا على ان يكونوا عوناً وعيناً لهم على الفرس , لكنّ (سيف) وحده يذكر انّ قتالاً نشب بين الجانبين , وأنّ (خالد بن الوليد) خطب فيهم وذكّرهم بعروبتهم وبالعدل الذي جاء به المسلمون ! , في غفلة من (سيف) عن جور (خالد) ونزقه المعروفين في كلّ ارض وطئها . و (سيف) هذا ذاته من انفرد باتهام قبيلة (أياد) – التي كانت مسيحية – انها خرجت الى ارض الروم , فطالب (عمر) بإخراجها , في هوى قبلي عند (سيف) لتصوير قبيلة (أياد) بوجه من اسلم إكراها . ولم تكن خطب (خالد) سوى تذكير بالدنيا ودعوة للسلب والنهب والاستعانة بمفاهيم الغزو الجاهلية , كما في خطبته لغزو بلاد فارس يوم (الولجة)[116]. وما ذلك الا لان (أبا بكر) و(خالد بن الوليد) كانوا يسرقون العراق عمليا , ولهذا أجمعت قبائل العراق النصرانية – او اجمع (أبو بكر) و(خالد) – على قتالهم[117], حسب روايات (سيف بن عمر التميمي) , اذ انها لو صدقت لكانت جرائم ضد الإنسانية .

فكيف جاز مقاتلة نصارى العراق وهم أهل الأرض وأصحاب كتاب؟! , وقد شارك قسم كبير منهم في نصرة الجيوش الإسلامية ضد الفرس . الا انه لو تم القبول بروايات (سيف بن عمر التميمي) فعلياً لكان أهل العراق أصحاب الحق في رفضهم لجيوش (ابي بكر) وقتالهم لأمرائه , فهذه الجيوش لم تحدّثهم عن الإسلام , ولم تحاججهم به , ولم يكن قادتها من مسلمة الفتح وما بعد الفتح مؤهلين لذلك , بل دعوهم الى عنوان الإسلام , دون بيان , لغرض ان يرفضوا فيقتلونهم ويسلبون ثرواتهم ويسبون نساءهم , وهذا ما جرى . ولهذا انطلق أبو بكر فرحاً الى (قريش) يبشرهم بسلب (خالد) ل(امغيشيا) , رغم ان (خالداً) دمّر هذه الحاضرة , بعد ان لم يجد فيها أحداً وقد تفرق أهلها في القرى[118].

وحين وصل هؤلاء الطغاة بقيادة (خالد بن الوليد) الى (أمْغيشيا) – وهي مدينة بحجم (الحيرة) تتبعها مدن عدّة مثل (ألْيس) – وجد اَهلها قد تفرّقوا في قرى جنوب العراق ووسطه , ورغم ذلك امر (خالد) بهدمها ! . وتمت إبادة عمرانها , واستلاب ثروتها , حتى صارت حصة الفارس ١٥٠٠ , غير النفل . وكلّ ذلك والمدينة ما خرجت الى الحرب وما حملت السلاح .

وحين وصل جيش (خالد) الى (الحيرة) – وهي المركز الديني والسياسي لأهل العراق – كانت اخبار جرائمه قد سبقت اليهم , لا سيما خراب (أمْغيشيا) المسالمة – فكرهوا امر الاسلام العُمَري وأهله . لذلك حين صالحهم (خالد) على الجزية كانوا قد رفضوا الدخول في الاسلام , رغم خطبته فيهم , لأنهم ظنّوا انّ اسلام (خالد) هو اسلام (محمد) , وهيهات . وقد فهم زعماء (الحيرة) (عدي بن عدي) و (عمرو بن عبد المسيح) و (اياس بن قبيصة) و (حيريّ بن أكال) ما عليه حقيقة (خالد) وأميره (ابي بكر) , فعالجوا أمرهم بالهدايا , التي أخذ (خالد) منها حصته وأرسل باقيها الى أميره الخليفة , وقد كانت أمراً فوق الجزية , لكسر طغيان هذه الفئة .

ومن عجيب نزق (خالد) ورجاله – وهو امر معتاد في كل معركة – انّه اشترط على أهل (الحيرة) ان يمنحوا صاحبه (شويل) اخت (عمرو) أحد زعمائهم , وهي (كرامة بنت عبد المسيح) , او لا يكتب لهم شيئاً , وحين احتار قومها من امر هذا الطغيان , أجابتهم هي انها بلغت الثمانين وأنها ستفادي نفسها من (شويل) هذا , ففادته , فقال ( لا أسلمك بأقل من الف درهم ) , وهو يظنّ انّ المبلغ كبير , فقبلت , فلامه اصحاب (خالد) , فقال لهم ( انه لا يعرف عدداً يزيد على الف ) ! . ولا يُعلم كيف كان يجيز قادة جيش المسلمين الجدد التلاعب بأعراض الناس , حتى وصل الامر الى تزويج هذا الجاهل من امرأة كريمة في قومها وأخت سيدهم .

وفي يوم (عين التمر) أسر (خالد) (عقّة بن ابي عقّة) , وحاصر الحصن الذي لجأ اليه الجند والنَّاس والرهبان , فطلب أهل الحصن الأمان من (خالد) , لما رأوْا من بطشه وقلة مروءته , فأبى الّا النزول على حكمه , فأجابوه الى ذلك وفتحوا الحصن , لكنّه ضرب عنق أسيره (عقّة) , ثمّ قتل كلّ من في الحصن واحداً واحدا , وسبى وغنم كل ما وجد , ووجد البعض من صغار السن يتعبدون في بيعتهم , فوزّعهم على جنده , وكان منهم (نصير) ابو القائد (موسى بن نصير) و (سيرين) ابو المفسر (محمد بن سيرين) . و(خالد) الذي يفعل كل ذلك لأجل الدنيا , هو ذاته الهارب يوم معركة (مؤتة) , والكاسر لمعنويات جيش المسلمين فيها ضد الروم , بعد شهادة قادة الجيش الثلاثة . وقد جعل رواة السلطة هذا الهروب فضيلة ل(خالد) , رغم ان تاريخ المسلمين لم يحدث بمثل هذا الفعل المشين في عهد رسول الله , الا ما كان من (خالد) . وليكملوا مشهد هذه الفضيلة قالوا ان المسلمين اصطلحوا على تأمير (خالد) بعد شهادة القادة الثلاث , رغم ان (الطبري) ينقل عن (ابي قتادة) ان (خالداً) هو من أمّر نفسه ولم يكن اميرا , وأن (آل المغيرة) بعد ذلك كانوا يخجلون من الخروج الى الصلاة من شدة تعيير الناس لهم كما نُقل عن جواب امرأة (سلمة بن هشام بن المغيرة) لزوجة النبي (ام سلمة)[119].

والملفت للنظر أن المسيحية المشرقية عانت كثيراً في خلافة الثلاثة (ابي بكر) و(عمر) و(عثمان) , وفي زمان (بني أمية) , فيما انتعشت المسيحية البولصية .

ف(عمر) أعطى مسيحيي (القدس) -الذين يؤلهون (عيسى)- أماناً مفتوحاً شاملاً , بكتاب مختوم[120], لم يعط بعضه لنصارى العراق النساطرة الموحدين , الذين سلب جنوده أراضيهم وثرواتهم . في الوقت الذي أتلفت أوامر (عمر) مكتبات مصر والعراق المسيحية , حين أمر بإتلاف الكتب الانسانية لنفس العلة التي منع بها (عمرُ) رسولَ الله بها من كتابة كتابه الذي يحفظ الأمة من الضلال , بدعوى الاكتفاء بكتاب الله ! .

بينما أوقف (عثمان) الضياع والأملاك العامة على بيوت (بني أمية) , لا سيما من قبل (معاوية) في الشام الذي لم يكتفِ براتبه السنوي الذي جعله (عثمان) له كأعلى راتب لعامل في الدولة , بل جعل الضياع المسيحية التي هرب أهلها جميعاً وقفاً على بيته حصراً بعد أخذ موافقة (عثمان) , الامر الذي جعل باقي أهل الدنيا ممن حمل عنوان الصحابة يقتطعون الأراضي والضياع ويثرون على حساب المال العام , بل عمد جميع ولاة (عثمان) الى هذا الإجراء , بعد ان أوقف قوانين محاسبة العمال لأنهم كانوا من أقاربه , فالخليفة ذاته وجدوا عنده بعد وفاته ثروة ضخمة جداً , مالية وحيوانية , وتحت يده الضياع والأراضي[121], حتى ان (عثمان) امر خازن بيت مال المسلمين بإخراج اعطية لأحد اقاربه , فرفض الخازن ورآه مبلغاً كبيراً فيه خيانة للمسلمين جلية , فأخبره (عثمان) انه ليس سوى خازن لهم , فوضع الخازن المفتاح على باب الكعبة وجلس في بيته[122].

فيما ثار المسلمون والمسيحيون سويةً ضدّ الوالي الجائر لدولة الخلافة (قرة بن شريك) . وجاء الوالي (اسامة بن زيد) بإجراء كانت متبعاً في الإمبراطوريات القديمة من قبل أشد الطغاة , حيث وضع حلقات الحديد في أيدي السكان لضمان دفعهم الضرائب , بمن فيهم رهبان الكنيسة القبطية . وجاء (عمر بن عبد العزيز الاموي) ليطرد المسيحيين من الدواوين .

ان الجزية التي جعلها (بنو أمية) مغرماً على الناس جعلت اقواماً – ومنهم الكثير من أقباط مصر – يعلنون اسلامهم . ولا ريب انّ هذا الاسلام من هؤلاء كان مملوءاً بالغلّ والحقد على هذا الدين وعلى الذين جاءوا به . كما انّه كان فرصةً لركوب الموجة الأموية , وهي التي ركبت الموجة الانقلابية من قبل , ليتشكل في النهاية تعقيد يُدعى دِين , جوهره النفاق والوثنية .

يورد المؤرخ (نيقفوروس) خبراً مفاده ( انّ بطريرك الإسكندرية اقترح على موفد الإمبراطور هيراكليوس – هرقل – القائد مارتيانوس تقديم الاغوسطا اودوكيا او غيرها من بنات الإمبراطور زوجة لعمرو – بن العاص – , على أنْ يجري تعميده لاحقاً في الحوض المقدس ليصبح مسيحيا , فعمرو وجيشه يثقون بقيرس – المقوقس – ويثق بهم ) .

فيما يورد (ساويروس) خبراً آخر ( فأما سانوتيوس الدوكس المومن فأنه عرّف عمر سبب اختفاء الأب المجاهد بنيامين البطرك, وأنه هارب من الروم خوفاً منهم, فكتب عمرو بن العاص إلى أعمال مصر كتاباً يقول فيه: الموضع الذي فيه بنيامين بطرك النصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله, فليحضر آمناً مطمئناً ويدبّر حال بيعته وسياسة طائفته. فلما سمع القديس بنيامين هذا عاد إلى الإسكندرية بفرح عظيم بعد غيبة ثلث عشرة سنة, منها عشر سنين لهرقل الرومي الكافر, وثلث سنين قبل أن يفتحوا المسلمين اسكندرية , لابساً إكليل الصبر شدة الجهاد الذى كان على الشعب الأرثذكسي من الأضطهاد من المخالفين , فلما ظهر فرح الشعب وكل المدينة وأعلموا سانوتيوس الدوكس المؤمن بالمسيح, الذى كان قرر مع الأمير عمرو حضوره وأخذ له منه الأمان, فمضي لذلك الأمير وعرّفه بوصوله, فأمر بإحضاره بكرامة وإعزاز ومحبة, فلما رآه أكرمه وقال لأصحابه وخواصه: أن في جميع الكور التي ملكناها إلى الآن ما رأيت رجل الله يُشبه هذا . وكان الأب بنيامين حسن المنظر جداً, جيد الكلام بسكون ووقار. ثم التفت عمر إليه, وقال له: جميع بيعك ورجالك أضبطهم ودبّر أحوالهم, وإذا أنت صليتَ علي حتى أمضي إلى المغرب والخمس مدن وأملكها مثل مصر وأعود إليك سالماً بسرعة, فعلتُ لك كلما تطلبه مني. فدعا له القديس بنيامين وأورد له كلاماً حسناً أعجبه هو والحاضرين عنده, فيه وعظ وربح كثير لمن يسمعه وأوحى إليه بأشياء وانصرف من عنده مُكرماً مُبجلاً. وكلما قاله الأب الطوباني للأمير عمرو بن العاص وجده صحيحاً لم يسقط منه حرف واحد. فلما جلس هذا الأب الروحانى بنيامين البطرك فى شعبة دفعة أخرى بنعمة المسيح ورحمته, فرحت به كورة مصر كلها , وجذب إليه أكثر الناس , الذين أضلهم هرقل الملك المخالف, وكان يجذبهم للرجوع إلى الأمانة المستقيمة ووعظ وملاطفة وتعزية, وكثير ممن هرب إلى الغرب والخمس مدن خوفاً من هرقل المخالف , فلما سمعوا بظهور راعيهم عادوا إليه بفرح , ونالوا إكليل الاعتراف ) .

وهذا الإكرام للمسيحيين البولصيين كان خلاف الاضطهاد الذي اعترى مسيحيي العراق من قبل جماعة الانقلاب . ويبدو هنا واضحاً انّ لاختلاف الإيمان المسيحي بين الأقباط والنسطوريين دخل كبير في طريقة التعامل التي يتبعها جنود الانقلاب ورجالات الأمويين .

فقد كان أهل العراق الموحدين من المسيحيين الذين يَرَوْن (عيسى) إنساناً لا إلهاً أولى بهذه المعاملة والامان من المسيحيين الأقباط الذين يَرَوْن (عيسى) إلهاً .

لكن الملفت ايضاً انّ (عمرو بن العاص) أراد دعاء (بنيامين) له ولرجاله , فيما (عمرو) يذر اجلّاء الصحابة خلف ظهره , ويحارب خيارهم ! .

امّا (سانوتيوس) هذا فقد كان موظّفاً رومانياً بيزنطياً , لكنّه هو ذاته الذي قاد الأسطول الذي رافق (عمرو بن العاص) في حملته البحرية العسكرية على (بنتابوليس) في ليبيا .

وينقل (ساويروس) , ضمن حديثه عن (تاوضوروس) زعيم الكنيسة الخلقدونية الرومانية , كيف كان (بنو أمية) يأخذون الرشى من المسيحيين الخلقدونيين , لتغريم زعيم الأقباط . حيث استلم (يزيد بن معاوية) مبلغاً كبيراً من المال من اجل ذلك .

لكنّ الواقع انّ الكنيسة القبطية كانت على العكس من ذلك في توسّع وازدهار في هذه الفترة . في الوقت الذي يتم التشدد تجاه مسيحيي العراق الموحدين . ما يكشف عن الحقيقة الفلسفية للتعاون ( الأموي – المسيحي البولصي ) , الناشئة عن الوثنية .

فيما ينقل (بيدي) , الذي عاش في زمان (معاوية) , كيف حكم هذا الخليفة حول ( كفن المسيح ) , حيث قال (معاوية) حسب ما ينقل ( دعوا المسيح مخلص العالم , والذي تعذّب من اجل البشرية , والذي لُفّتْ هذه القطعة من القماش -التي احمل بين يدي- حول رأسه في القبر من طريق شعلة النار لمن يعود هذا النسيج ) . وهذا الطقس الذي ادّاه (معاوية) – إِنْ صحّ – ليس الا استمراراً للكهنوت السحري القديم , واقراراً بالمسيحية البولصية .

فيما ينقل (فينلاي) كيف انّ المسيحيين كانوا يروون قصة اليهوديين الذين تنبّأوا ان يحكم (يزيد الثاني) أربعين سنة , لكنّهما طلبا اليه تهديم الرموز المسيحية , فمات اثناء تنفيذ طلبهما .

والغريب انّ هذين المتنبئين اليهوديين هما ذاتهما من تنبأ للمدعو (كونون) بحكم الامبراطورية الرومانية , وطلبا اليه مقابل ذلك ان يقضي على ( تلوث المسيحية في الشرق ) ! . وقد حكم باسم (ليو الايزوري) , فاضطهد المسيحيين واليهود على السواء . ولا تُعرف الغاية من هذا الربط بين (ليو الايزوري) و (يزيد الثاني) , لكنّ الاكيد انّ هناك صلة ما , يمكن إجمالها في الحملتين اللتين شنهما كل من (ليو) , للتغيير القانوني والديني , و (يزيد الثاني) , ضد المسيحيين الشرقيين , بقيادة (مسلمة بن عبد الملك).

كما انّ هذه الرواية تكشف عن تداخل عالم المؤامرات , وسقوط الحدود الجغرافية او الدينية امام الحركة التآمرية لحاخامات السنهدرين . وكان الاستهداف نحو النصرانية واليهودية الشرقيتين الموحدتين. فيما يبدو انه خطوة باتجاه ( أوروبا الحديثة ) .

فيما يرى (مكسيموس المعترف) انّ العرب – الذين كانوا ممثلين في نظره بسلطة الانقلاب العُمَري الأموي – أدوات التمهيد لقدوم عدوّ المسيح ( المسيح الدجّال ) .

وكان (محمد بن كعب القرظي) , وهو من مسلمة اليهود , اقرب المقربين الى الخليفة الأموي (عمر بن عبد العزيز) , وكان يأتي لزيارة الخليفة في (دمشق) كما يذكر (ابن سعد) في (الطبقات) , ويبعث برسائله من (المدينة) الى قصر الخليفة ب(دمشق) , فيجيبه الخليفة من هناك .

امّا اليهودي الآخر (وهب بن منبه) فقد كان إماماً للمسلمين خلال حكم ((بني أمية)) , وكان على القضاء في (صنعاء) لصالحهم , وله جملة من الآراء في القدر , احدثت خلافاً بين عامّة المسلمين .

وقد روى القوم (عن عبد الرزاق , عن أبيه , عن وهب قال : يقولون عبد الله بن سلام كان أعلم أهل زمانه , وإنّ كعباً أعلم أهل زمانه , أفرأيت من جمع علمهما , أهو أعلم أم هما ) . فأي دولة إسلامية كان اعلم علمائها ثلاثة من اليهود ؟! , هذه هي دولة ((بني أمية)) , وارثة ( الانقلاب العُمَري ) .

و (ابو الدرداء) – بأمر من (معاوية) – ينشر الثناء على (كعب الأحبار) , فيقول ( إن عند ابن الحميرية لعلماً كثيرا ) . وهذا (معاوية) ذاته يثني على نفر منهم (كعب الأحبار), فيقول ( ألا إن أبا الدرداء أحد الحكماء, ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء, إن كان عنده لعلم كالبحار, وإن كنا فيه لمفرطين ) .

بينما يروي الرحالة الأسقف (اركلف) الذي حجّ الى (القدس) عام ٦٧٠م انّه وجد طائفتين من اليهود في (القدس) , احدهما اعتنقت المسيحية , والأخرى بقيت على اليهودية . فيما كان ل(عبد الملك بن مروان) – الخليفة الأموي – جماعة من اليهود يعملون بين يديه مختلف الاعمال , قد اسقط عنهم الجزية . وقد قام هذا الخليفة الأموي ببناء مجمل الحرم والصخرة في ( بيت المقدس ) عام ٦٩٠م , ورصد لذلك خراج (مصر) لسبع سنين, في أبهة وفخامة دنيوية اثارت حتى الكتّاب الإفرنجيين . لكنّ الغريب انه جاء بعشرة أسر يهودية للقيام بخدمة الحرم! , وقد تكاثرت تلك الأسر لاحقاً .

وهذا الإسكان المتكرّر للأسر اليهودية في (القدس) امر مريب جداً , حيث ابتدأه (عمر بن الخطاب) , الذي كان المؤسس ايضاً لمشروع ( اعادة إعمار الهيكل ) , واستمرّ في أدائه (عبد الملك بن مروان الأموي) , الذي اتمّ البناء ايضا , فيما قام الزعيم الأشهر في تاريخ الحروب الوسطى (صلاح الذين الأيوبي) بإسكان ثلاثين أسرة يهودية جديدة , بطلب من طبيبه اليهودي الأندلسي الخاص وشيخ (كبّالاه) السحرية الأشهر (موسى بن ميمون) , بعد فتحه للقدس وطرد الصليبيين , وبعد أنْ كان صديقاً مقرباً وقديماً لوصي العرش الصليبي القمص (رايموند) .

وعجيب هذا الاشتراك في المهمة الغريبة من هؤلاء القادة المسلمين – ظاهراً – الأشهر والأكثر احتراماً في التاريخ الرسمي . وما اعجب من ذلك الّا اشتراكهم – جميعاً – في العداء المفرط لأهل البيت المحمدي وشيعتهم , حتى بقروا بُطُون الحوامل .

وقام لاحقاً (الوليد بن عبد الملك الأموي) , الذي قام بهدم بيوت اهل (المدينة المنورة) على رؤوس أهلها بعد ان امر واليه (عمر بن عبد العزيز) بذلك[123], بنقش اسمه بالفسيفساء على الكرنيش الموضوع على المثمن الذي يحمل قبة الصخرة . وهو ما ازاله الخليفة العبّاسي (المأمون) لاحقاً وكتب اسمه مكانه .

ومظاهر التغيير الديمغرافي كانت سمة بارزة للعصر الأموي , حيث تمّ تهجير القبائل الموالية للحزب العَلَوي المحمدي , قسراً او تطويقا . في الوقت الذي تمّ اسكان الجنود المنشقين عن بيزنطية بقيادة (سابوريوس) في الشام , بأمر من (معاوية) , وتحت إشراف ابنه (يزيد) . كما قام الأمويون بتوطين المنشقين (السلاف) في المناطق الشامية ايضا .

والظاهرة الملفتة في تاريخ أمراء (بني أمية) هي اعتمادهم على الوزراء المسيحيين , او نشأتهم تحت يد مربّي مسيحي . بل يمكن القول انّ الدولة الأموية تمت ادارتها من خلال وزراء مسيحيين ومفتين يهود .

واذا كانت الكنيسة البولصية تقول عن (يوحنا الدمشقي) انه ( أحد آباء الكنيسة العظام في مشارق المسكونة ومغاربها ) , وقد وصفه المؤرخ (فيليب حتي) بقوله ( إنه مفخرة من مفاخر الكنيسة التي ازدهرت في ظل الخلافة الأموية , وذلك لما اتصف به من النضوج والمقدرة كمنشد ولاهوتي وخطيب وكاتب بارع في فن الجدل ) , ووصفه البابا (يوحنا بولس الثاني) في رده على إشادة البطريرك (اغناطيوس الرابع) بقوله ( هو المناضل عن الايمان الأرثوذكسي ) , فيجب ان يُعرف انّ (يوحنا) هذا وعائلته هم من أداروا الدولة الأموية فعليا , وهو خلقيدوني ارثوذكسي المعتقد , بدليل نتاجه في العقيدة الخلقيدونية – كما يرى باحثون مسيحيون – , وقد ترهّب في دير القديس (سابا) الأرثوذكسي, الحافظ للإيمان الأرثوذكسي وقتئذ .

وقد شغل (منصور الرومي) – جد (يوحنا) – مركز مدير المالية العام وحاكمية (دمشق) في عهد الإمبراطور الرومي (موريس) (٥٨٢ – ٦٠٢م) الى عهد (هرقل) (٦١٠ – ٦٤١م) . وهو الذي فاوض العرب على تسليم (دمشق) صلحاً بيد (ابي عبيدة) على غير علم من (توماس) حاكم المدينة وصهر (هرقل) . ولمّا كانت أمور الشام كلها قد أوكلت الى (يزيد بن ابي سفيان) – الذي كان القائد العام للجيوش العُمَرية هناك – فقد توافق الرجلان , فاعتمد (يزيد) على (منصور الرومي) وأبقاه . وعند موت (يزيد) انتقل حق الولاء إلى أخيه (معاوية) , ثم إلى (يزيد بن معاوية). ولعل وفاة (المنصور الرومي) كانت في أواسط القرن السابع. ويخبر الأب (لامنس) على أن (المنصور) اعتزل في دير القديسة (كاترينا) في (سيناء) بعد تسليم (دمشق), وألّف هناك كتاب (شرح الزامير) المنسوب إلى (أنستانيوس السينائي), ويشير إلى أن (منصور) هو نفسه (أنستانيوس السينائي) بعد تغيير اسمه كنسياً, وأنه هو الذي كتب شرح ( المزمور السادس ) .

امّا (سرجون) – والد (يوحنا) – فقد ذكره المؤرخون العرب بأنه (سرجون بن منصور الرومي) , كاتب (معاوية) وابنه (يزيد بن معاوية) , و(عبد الملك بن مروان) . ولّاه (معاوية بن ابي سفيان) ديوان المالية في ولاية الشام اولاً, ثم في سائر ارجاء الإمبراطورية الأموية عندما اصبح الخليفة الأموي الأول, وقد استمر في وظيفته هذه الى خلافة (عبد الملك بن مروان) , اي ما يزيد على الثلاثين عاماً , كان خلالها زعيم المسيحيين في (دمشق). ويكفي في سوء صنيعه انه هو الذي أشار على (يزيد بن معاوية) تولية (عبيد الله بن زياد) العراقينِ ( الكوفة والبصرة ) للقضاء على أيّ حركة تخرج لنصرة ابن بنت رسول الله (الحسين بن علي بن أبي طالب) , ومن ثمّ قتله بكربلاء[124], بعد ان كتب ل(يزيد) من الكوفة رجل حضرمي يمني جنوبي هو (عبد الله بن مسلم) حليف (بني أمية) يخبره بضعف (النعمان بن بشير الانصاري) عن مواجهة (مسلم بن عقيل) سفير (الحسين) , و(النعمان) لم تطاوعه نفسه قتل (الحسين) او أصحابه[125].

وكتب الدكتور (جوزيف زيتون) عن (يوحنا الدمشقي) بحثاً جاء فيه ( كان مولد يوحنا في مدينة دمشق ما بين العامين ٦٥٥ – ٦٦٠م , دُعي منذ القرن التاسع “دفاق الذهب” أو “مجرى الذهب” – وهو اسم نهر بردى في الأساس- بسبب النعمة المتألقة في كلامه وحياته. تتلمذ هو وأخ له بالتبني, اسمه “قزما الأورشليمي” , لراهب صقلي اسمه “قزما” ايضاً كان واسع الاطلاع, محيطاً بعلوم عصره. كان قد أسره قراصنة وجاءوا به الى دمشق لبيعه في سوق النخاسة, اشتراه سرجون والد يوحنا منهم, وضمه الى بيته معلماً لولده يوحنا وشقيقه بالتبني وهو ”قزما الأورشليمي”. تعلما منه الايمان الأرثوذكسي, والفلسفة اليونانية, وقد ملك يوحنا الفلسفة اليونانية فطوعها فيما بعد لإيضاح العقيدة والايمان الأرثوذكسي. عاش يوحنا في بيت والده عيشة الدمشقيين الأثرياء والوجهاء السهلة, وكان من رواد البلاط الأموي بالنظر الى مكانة والده عند الخلفاء. وقد ربطته بالخليفة “يزيد بن معاوية” صداقة حميمة, وكانت “ام ميسون” زوجة معاوية وهي مسيحية من بني تغلب من زعماء قبيلة “كلب” … قضى “يزيد” صباه بين اخواله وفي صحبة اتراب مسيحيين , كالأخطل الشاعر المسيحي التغلبي , والمنصور بن سرجون اي يوحنا الدمشقي , وقد تحرر علناً من احكام الشريعة الاسلامية حتى اتهمه بعض المؤرخين المسلمين بانتحال المسيحية, وقد عهد بتثقيف ابنه الى راهب مسيحي. ويخبرنا ابن العبري انه ابقى حكاماً مسيحيين على مقاطعات كثيرة و”الرها” خصوصاً, فقد ظلت المدينة يحكمها انستاس بن اندراوس. كان يوحنا يتحسس الشعر ويتذوقه وخاصة في بلاط الخلفاء, والذي كان مفتوحاً على السواء للشعراء المسيحيين والمسلمين, وكان الأخطل يدخل على الخليفة معلقاً على صدره صليباً من ذهب , مما حّمّله لقب “حامل الصليب” وكان به مرفوع الرأس , وكان الخليفة ورجال البلاط لا يرون حرجاً في ذلك , بعكس الوافدين من مكة والحجاز فكانوا يستاؤون بشدة من دخوله والصليب على صدره. وتهتز مشاعر يوحنا من هذا المشهد المحبب الى قلبه لإيمانه, وكانت تهتز مشاعره لدى احتكاكه بشعراء الصحراء. ويرى عدد من الدارسين أن بعض تآليفه تأثرت بهذا الاحتكاك , لاسيما أناشيده وقوانينه … هذا ويظهر أن يوحنا شغل منصباً إدارياً رفيعاً في زمان الأمويين, وعلى الأغلب هو وظيفة ابيه امين ديوان المال العام في الخلافة الأموية, كما يجمع معظم الدارسين لسيرته, إضافة الى ان البعض اسند اليه بالإضافة وظيفة امانة سر الخليفة او مستشاراً أولاً ) .

و (يوحنا الدمشقي) سليل الاسرة السرجونية الرومية هذه , والمتنعّم بأموال الدولة الاسلامية , كتب في كتابِه “الهرطقات” (باليونانيّة) , الذي يُعدّد فيه مئة بدعة نشأت في المسيحيّة حتّى عصرِه, ويختمها بالهرطقة المئة “هرطقةُ الإسماعيليّين” أي “الإسلام”, في مقالِه هذا يقول (محمد نبيٌّ كذّابٌ , قابلَ راهبًا آريوسيًّا فاخترعَ بدعتَه ).

والراهب الذي يتَّهمون النبي (محمداً) به هو المدعو (بحيرى) , ورد ذكرُه أيضًا عندَ (عبد المسيح بن إسحاق الكنديّ) في القرن الثّالث الهجريّ, في رسالتِه إلى (عبدِ اللهِ بن إسماعيل الهاشميّ) , يقول ( بعدَما طُردَ الرّاهبُ النسطوريّ سرجيس مِنَ الكنيسة, قَدِمَ مكّةَ في الجزيرة العربيّة وقابلَ محمداً ولقّنه التعاليمَ النسطوريّة ) .

انّ هذه المواجهة تكشف عن استمرار الصراع بين المسيحية الموحدة (النسطورية) وبين المسيحية الوثنية (البولصية) . وذلك حين تُفهم هذه الكتابات من وجهة نظر المسيحيين البولصيين . فبغض النظر عن حقيقة هذه الاتهامات , يمكن بوضوح رؤية الصِّلة التي أوجدوها بين النصرانية الموحدة و (محمد) . فيما انطلقت المسيحية الوثنية المجسمة (البولصية) في هجومها من تحت مظلّة الحكم الأموي , الوارث للانقلاب العُمَري . وبذلك يُدرك انّ الصراع ظلّ قائماً بين الوثنية , بكلّ وجوهها الجماعاتية , وبين التوحيد , بكلّ مظاهره الفكرية .

وفيما كانت المسيحية البولصية تنمو في غرب أوروبا , تحت رعاية الكنيسة الرومانية الكاثوليكية الغربية , كان من اللازم إنهاء الوجود الفكري للكنيسة الرومانية الشرقية وإضعافه , لتأثرها بالمدّ الشرقي النسطوري الأقرب للتوحيد , رغم ظاهرها البولصي العام , وهذا ما ساهمت فيه دولة (بني أمية) , بالإضافة الى إسهامها المباشر في إنهاك وتطويق الدين الاسلام ورجالاته , من خلال ايذاء القادة الحقيقيين من (آل محمد) . لذلك كانت الدولة العثمانية صاحبة الفضل ايضاً في نمو السيطرة الفكرية للفاتيكان , بعد اسقاطها لبيزنطية . لأنّ ذلك كلّه كان مقدمة لعبور ( يهود السنهدرين ) نحو أوروبا وعقلها , والذين كانوا يعبِّرون عن الارث الكهنوتي الفرعوني المظلم .

ولمعرفة الغاية الأهم لانقلاب (قريش) بمعونة الأعراب في سقيفة (بني ساعدة) , وأسباب ظهور الاسلام الرسمي القرشي الحقيقية , ومعنى الغاية الباطنية[126], يجب البدء بالقصة من ( مدراش الملوك العشرة ) , الذي يُنسب الى الحاخام (شمعون بن يوحاي) , الذي عاش في القرن الثاني للميلاد , حيث تروي القصة -التي ابتدأ انتشارها ضمن الأسرار اليهودية منذ الحروب الصليبية- مع (شمعون) المختبئ في كهف منذ ثلاث عشرة سنة , خوفاً من ملك (أيدوم) الذي امر بإفناء (إسرائيل) , قضاها بين الصلاة والصيام , داعياً الله ان يمنحه النور الذي يبحث عنه , وفجأة بدأت تُكشف له اسرار وغوامض , ويرى (القيني) , الذي هو مصطلح للدلالة على الشخصية العربية , نسبة الى (القين) احد أبناء (شعيب) الذي كان من أنبياء العرب , فرأى انّ مملكة جد العرب (اسماعيل) ستأتي , فعاتب الرَّبَّ قائلاً ( ألم يكفِ ما أنزلته بِنَا مملكة أيدوم الملعونة , حتى نستحق مملكة اسماعيل ايضا! ) , فردّ عليه مقدم الملائكة (ميتاترون) بقوله ( لا تجزع يا ابن الانسان , جاء القدير بمملكة اسماعيل ليخلّصك فقط من تلك المملكة الشريرة أيدوم , وسينصّب عليها نبيّاً بإرادته , وسيفتح الارض لهم , وسيأتونكم ويعيدون للأرض مجدها , وسيقع رعب عظيم بينهم وبين أبناء عيسو ) , فأجابه الحاخام قائلاً ( وما أدرانا انّ بهم خلاصنا؟! ) , فقال له (ميتاترون) ما نصه ( الم يقل النبي اشعيا انه رأى عربة وزوجاً من ركّاب العربات , احدهما يمتطي حماراً , والآخر يمتطي جملا ؟ , لمَ قال ذلك فيما كان في وسعه القول : عربة تجرّها الجمال ثمّ عربة تجرّها الحمير ؟ , هل لأنه عندما يمضي قُدماً يمتطي جملا , وعندما تنهض المملكة بساعديه سيمتطي حمارا ؟ ) .

فيما يذكر (الطبري) في تاريخه ( ولمّا بعث عمر بأمان أهل ايلياء وسكنها الجند شخص إلى بيت المقدس من الجابية , فرأى فرسه يتوجى فنزل عنه , وأتى ببرذون فركبه فهزّه , فنزل فضرب وجهه بردائه , ثم قال: قبح الله من علمّك هذا . ثم دعا بفرسه بعد ما أجمه أياماً يوقحه فركبه , ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس )[127].

انّ النبوءة اليهودية لا تهتم كثيراً بمن يمتطي جملاً , بل بمن يمتطي الحمار . وهي هنا إشارة الى ظهور الاسلام , وركوب رسول الله (محمد) الجمل , وهذا تحقيق فعلي لنبوءة (اشعيا) القائلة ( تغطيك كثرة الجمال بكران مِدْيَان وعيفة , كلها تأتي من شبا , تحمل ذهباً ولباناً وتبشّر بتسابيح الرَّبّ )[128], حيث يبدو ان (شبا) هي ذاتها (سبأ) التي كان لها مع رسول الله الدور الأهم في نشر الاسلام , ويكفي معرفة انّ الانصار كانوا منها .

لكنّ الحاخام (شمعون) صاحب النبوءة يركّز على مقولة (بلعام) في الكتاب المقدس ( ثمّ رأى القيني , فنطق بمثله وقال: ليكن مسكنك متيناً وعشّك موضوعاً على صخرة )[129], فيقول هذا الحاخام ( يكون الملك الثاني الذي ينهض من بين أبناء اسماعيل محبّاً لإسرائيل , ويسدّ الشقوق بينهم كما يسدّ الشقوق في الهيكل , ويعيد تشكيل جبل موريا ويسوّيه , ويبني مسجداً على صخرة الهيكل , وفق ما ورد ” ليكن عشّك موضوعاً على صخرة ” )[130].

وعن (ابن عساكر) روى (سيف بن عمر التميمي) , عَنْ أَبِي (عثمان) , وَأَبِي حَارِثَةَ , وَالرَّبِيعِ يَعْنِي ابْنَ النُّعْمَانِ الْبَصْرِيَّ بِإِسْنَادِهِمْ , قَالُوا ( قَالَ كَعْبٌ حِينَ اسْتَشَارَ -يَعْنِي عمر- النَّاسَ : بَأَيِّهَا تُرِيدُ أَنْ تَبْدَأَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : بِالْعِرَاقِ , قَالَ : فَلا تَفْعَلْ فَإِنَّ الشَّرَّ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ وَالْخَيْرُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ , فَجُزْءٌ مِنَ الْخَيْرِ بِالْمَشْرِقِ وَتِسْعَةٌ بِالْمَغْرِبِ , وَإِنَّ جُزْءًا مِنَ الشَّرِّ بِالْمَغْرِبِ وَتِسْعَةً بِالْمَشْرِقِ , وَبِهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ وَكُلُّ دَاءٍ عُضَالٍ , فَعَزَمَ عَلَى الشَّامِ )[131]. و(كعب الأحبار) يعلم جيداً انّ العراق لن يخضع لظلموت الحضارة الباطنية القابيلية التي يمثّلها هو ومن جاء به . لكن المعيب أنْ يستمع خليفة المسلمين لقول يهودي لم يُسلم الّا قبل فترة وجيزة , ويذر هذا الجهاد العظيم لأهل العراق ضد دول فارس والروم , فضلاً عن احاديث النبي والصحابة في فضل العراق وأهله ! . ولم يفت القوم – كالعادة – ان يعدّلوا هذا التاريخ الغريب , فنسب (الثعلبي) هذه الرواية السوداء الى النبي نفسه في ( قصص الأنبياء ) .

وفعلاً سار الخليفة الى الغرب – الشام – يرافقه مشيره ومفتيه (كعب الأحبار) , بعد ان انشأ الاثنان نظريتين , تتناول الاولى ( شرّ العراق ) , وتتناول الثانية ( خير الشام ) , وهي الصورة التي يمكن رؤية خيوطها بعد تسمية الأشياء بمسمياتها , فالعراق عراق (علي) والانبياء . لكن بقي إضافة عنوانين اخرين لمعرفة معنى ( الغرب ) في رواية (كعب الأحبار) , هما ( مصر الفراعنة ) , و ( أوروبا الرومان والبولصيين ) .

فيما يروي (الطبري) انّ يهودياً طلب الى (عمر) وهو بالشام الّا يرجع حتى يفتح (أورشليم) , ففي طريق (عمر) أتاه رجل من يهود (دمشق) قائلاً ( السلام عليك يا ” فاروق ” , انت صاحب ايلياء , لا والله لا ترجع حتى يفتح الله ايلياء ) . وشهد ذلك ( اليهودي ) الصلح بعد فتح (أورشليم) , بعد ان دعاه (عمر) حين قيل له ( انّ لديه علماً جمّا )[132].

وفيما حاول (سيف بن عمر التميمي) حماية تاريخ الخليفة (عمر بن الخطاب) بادعائه انّه خضع لشرط المسيحيين عند فتح (القدس) بعدم اسكان اليهود فيها , الّا انّ ذلك يكذّبه مؤرخين اهم من (سيف) والمصدر الذي نقل ادّعائه , هما (سعيد بن بطريق) , وقد كان بطريركاً مسيحياً , و(اليعقوبي) , المؤرخ المسلم الحاذق , واللذان لم يذكرا هذا الشرط في فتح (القدس) . لكنّ مصادر يهودية تقول انّ هناك جماعات من اليهود كانوا في الجيوش الاسلامية الفاتحة , هم الذين اشترطوا على المسلمين تنظيف الحرم من آثار البيزنطيين , ومن ثمّ استوطنوا (القدس) مع المسلمين في ناحية (جبل الزيتون) المطل على (جبل الحرم) , وهذا ما يُنقل عن رسالة العالم (سليمان بن يروحام القرائي) , المقيم في (القدس) عند القرن العاشر الميلادي , ( انّ اليهود أطلقت لهم حرية الدخول والسكنى ببيت المقدس حين ظهور ملكوت إسماعيل ) . وكذلك يشير (ثيوفانس كونفسور) في نهاية القرن الثامن الى ( انّ اليهود أشاروا على الخليفة عمر بن الخطاب بإزالة الصلبان من الكنيسة الكبرى التي وجدت على الطور أمام الحرم ) . امّا المؤرخ الأرمني (سيبوس) فيذكر ( انّ عمر سمح لليهود ببناء معبد للصلاة داخل ارض الحرم ) . فيما ينقل العالم (سمحا أسف) عن مخطوطة يهودية قديمة ما نصّه ( ثم امرهم بكنس القدس وتنظيفها , وعمر يشرف عليهم … فكلما انكشف … سأل شيوخَ اليهود عن الصخرة , فكان بعض العلماء يحدد له الموضع الى ان انكشف , فامر ان يُبنى سُوَر القدس ويُبنى على الصخرة قبة تُطلى بالذهب . وبعد ذلك أرسل اليهود الى سائر بلاد الشام يعرفون اخوانهم بما وافقهم عليه عمر … ثم انه قال : أين تحبون ان تسكنوا في البلد ؟ فقالوا : جنوب البلد , وهو سوق اليهود . وكان طلبهم قرب القدس وأبوابها , وكذلك مع السلوان للاستحمام . والسلوان هي القرية الملاصقة البنايات الى يومنا الى جبلي صهيون والحرم … فأنعم أمير المؤمنين عليهم بذلك … )[133]. وهنا كان (عمر) يهودياً بكل ما للكلمة من معنى .

وفي المجلد الثالث من تاريخ (الطبري) قال (عن أبي مريم مولى سلامة قال: شهدتُ فتح ايلياء مع عمر رحمه الله , فسار من الجابية فاصلاً حتى يقدم ايلياء , ثم مضى حتى يدخل المسجد , ثم مضى نحو محراب داود , ونحن معه , فدخله ثم قرأ سجدة داود , فسجد وسجدنا معه . وعن رجاء بن حيوة عمن شهد قال لما شخص عمر من الجابية إلى ايلياء فدنا من باب المسجد قال ” ارقبوا لي كعباً ” , فلما انفرق به الباب قال ” لبيك اللهم لبيك بما هو أحب اليك ” , ثم قصد المحراب محراب داود , وذلك ليلا , فصلى فيه , ولم يلبث أن طلع الفجر فأمر المؤذن بالإقامة , فتقدم فصلّى بالناس وقرأ بهم ” ص ” وسجد فيها , ثم قام وقرأ بهم في الثانية صدر ” بني إسرائيل ” , ثم ركع , ثم انصرف , فقال ” عليَّ بكعب ” , فأتى به , فقال ” أين ترى أن نجعل المصلى ؟ ” فقال ” إلى الصخرة ” , فقال ” ضاهيت والله اليهودية يا كعب , وقد رأيتك وخلعك نعليك ” , فقال ” أحببتُ أن أباشره بقدمي ” , فقال ” قد رأيتك , بل نجعل قبلته صدره , كما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلة مساجدنا صدورها , اذهب اليك , فإنّا لم نؤمر بالصخرة , ولكنا أُمرنا بالكعبة ” فجعل قبلته صدره . ثم قام من مصلاه إلى كناسة قد كانت الروم قد دفنت بها بيت المقدس في زمان بني إسرائيل , فلما صار إليهم أبرزوا بعضها وتركوا سائرها , وقال ” يا أيها الناس اصنعوا كما أصنع ” وجثا في أصلها , وحثا في فرج من فروج قبائه , وسمع التكبير من خلفه , وكان يكره سوء الرعة في كل شيء , فقال ” ما هذا ؟ ” فقالوا ” كبّر كعب وكبّر الناس بتكبيره … )[134] . و (رجاء بن حيوه) هذا الذي سجد لسجود (كعب الأحبار) من أهل الكتاب الذين اظهروا اسلامهم , وصار المفتي والفقيه الأموي الابرز لأمراء (بني أمية) , وله احال (عبد الملك بن مروان) هندسة النقوش عند إعمار الحرم في (بيت المقدس) .

والنصوص تتناول بوضوح ما قام به الخليفة الثاني (عمر بن الخطاب) من اعمال في (بيت المقدس) وبنائه المسجد المسمى اليوم (قبّة الصخرة) . ولقد رأى اليهود في بناء (عمر) لمسجد الصخرة سعياً منه لإعادة بناء ( الهيكل ) , وبالتالي فقد اعتبروه ( مخلّصهم = منقذهم ) من جور البيزنطيين . ومن هنا اطلق عليه اليهود لقب (الفاروق)[135], وهي كلمة من أصل (آرامي) , حيث الآرامية اللغة التي كان يتحدث بها اليهود إبّان الفتح العربي , جاءت معرّبة من (بوروق) او (بوروقو) , بمعنى ( المنقذ = المخلِّص = المحرَّر = الفادي ) . يؤيد ذلك ما ذكره (الطبري) في ( تاريخ الرسل والملوك ) من انّ اوّل من لقّب (عمر) بالفاروق رجل من يهود (دمشق) , شهد مع (عمر) أيضاً الصلح مع أهل (ايلياء) . كما انّ (الطبري) في ذات الكتاب يذكر انّ (كعب الأحبار) تلا على (عمر بن الخطاب) نبوءة قال فيها ( يا أمير المؤمنين , انه قد تنبّأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة . فقال عمر: وكيف ؟ . فقال : انّ الروم أغاروا على بني إسرائيل , فاديلوا عليهم , فدفنوه – الهيكل – , ثمّ اديلوا فلم يفرغوا , ثمّ أدليت الروم عليهم الى ان وليت , فبعث الله نبياً على الكناسة , فقال : ” أبشري أورى شلم , عليك الفاروق ينقيك مما فيك ” . وبعث الى القسطنطينية نبياً , فقام على تلّها , فقال : ” يا قسطنطينية , ما فعل اهلك ببيتي ! , أخرجوه وشبهوك كعرشي , وتأوّلوا عليّ , فقد قضيت عليك ان أجعلك جلحاء يوماً ما , لا يأوي إليك احد ولا يستظل فيك , على أيدي بني القاذر سبأ وودان , فما أمسوا حتى ما بقي شيء ” ) . ثمّ يزيد (الطبري) على تلك الرواية عن (ربيعة الشامي) قوله ( اتاكِ الفاروق بجندي المطيع , ويدركون لأهلك بثأرك من الروم )[136].

و(عمر) الذي سمح ل(كعب الأحبار) ان يقول في (بيت المقدس) بنداء ( لبيك اللهم لبيك ) – رغم اقتصار هذه العبارة على حرم الله عند الكعبة – لم يسأل (كعبَ الأحبار) عن حقيقة ذلك النبي الذي كان مبعوثاً قبل خمسمائة عام , بمعنى انه جاء بعد (عيسى) , والإسلام لا يقرّ ل(القدس) او القسطنطينية بنبوة بعد المسيح ! , ذلك لأنّ (عمر) يعلم انّ هذه النبوءة من احد سحرة (السنهدرين) , من خلال علومهم الباطنية الفرعونية .

لقد تحدّث المؤرخ (سيبوس) عن طلب العرب من ملك الروم تسليم (القدس) لهم , باعتبارها إرث النبي إبراهيمي , وسعيهم – العرب – لبناء ( الهيكل ) اليهودي , قبل احتدام الصراع بين اليهود والعرب حسدا , وبعد قيام جماعة من اليهود بإثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين . فيما ذكر المؤرخ (ميخائيل السرياني) انّ العرب حين أرادوا اعادة بناء ( الهيكل ) تهدّم ولم يقم , فاخبرهم اليهود انه لن يقوم ما لم يسقطوا ( الصليب ) , لذلك انزل العرب الكثير من الصلبان . وهذا ما أشار اليه (استاسيوس السينائي) بحدوث هزّات ارضية تسببت بانهيار ما بناه العرب من ( الهيكل ) .

وقد ذكرت بعض المصادر التاريخية انّ (عمر) سمح بإقامة نحو سبعين أسرة يهودية في (القدس) , وذلك ما يتوافق ومرافقة (كعب الأحبار) له . فيما اسكن العرب جموعاً من الأسر اليهودية في اغلب المدن الشامية عند الفتح , ما يكشف عن تخطيط خفي خلف الكواليس للتغيير الديمغرافي .

امّا اليهودي المعاصر (إسرائيل وولفنسون ابو ذؤيب) فيكتب  ( ينبغي الّا يغيب عن البال انّ الخسارة القليلة التي لحقت بيهود بلاد الحجاز ضئيلة , بالقياس الى الفائدة التي اكتسبها العنصر اليهودي من ظهور الاسلام , فقد أنقذ الفاتحون المسلمون آلافاً من اليهود كانوا منتشرين في أقاليم الدولة الرومية , وكانوا يقاسون ألوان العذاب )[137].

لقد قرّر مجمع (طليطلة) المسكوني عام ٦٩٥م محو اليهودية كديانة من اسبانيا , بعد اكتشافه انهم هم من حرّض العرب على غزوها . ومثل هذه الاتهامات شاعت كثيراً ضد اليهود من قبل المجامع المسيحية حينذاك . ولا تُعلم الغاية اليهودية من دعم الجيوش العربية , وما المكاسب التي اغتنموها لاحقاً . حيث كان اليهود سبباً مهماً – من الناحيتين التحريضية والمعلوماتية – في انحسار ممالك (القوط الغربيين) . فهل كان ذلك في إطار مرحلة تغيير ضمن الجماعات الباطنية , ام انه صدى لإرث عدائي تاريخي بين اليهود المختلفين في انتمائهم العقائدي العام وبين السلطة السياسية للمالك الأوربية ؟ .

وبقدوم الأتراك الى المناطق المسيحية في العراق وايران وأذربيجان وأرمينيا , كان أمير الاكراد المروانيين , الذي ابتز الحمدانيين في شرفهم وأراد الزواج من احدى نسائهم فقتلوه قبل الباء بها وهو (أبو علي بن مروان) , والذي نشر مذهب (الشافعي) في (ديار بكر) بعد زوال ملك الحمدانيين , وأثار قومه الفتنة بين القبائل العربية للسيطرة على بلدانهم , وعمدوا الى منع الخطبة للفاطميين وحث الامراء العرب على منعها[138], قد استخدم قومُه المسيحيين لجباية الأموال من العرب المسلمين[139], ثم كانت نهاية اميرهم ان يستجير بالأتراك (الغزّ) الذين غدروا به[140].

وفي نهاية القرون الوسطى , ورغم ما كانت عليها بغداد من التجارة والحياة الزراعية والحرفية والتعليمية , الا ان الحكومات كانت متقلبة تلعب بها الأموال , فانحدرت الصناعة والحرف الى احط دركاتها . وصار الجدال الديني هو السائد شعبيا . حتى ان النزاعات تفشت بين الطوائف المسيحية في الموصل , مما يكشف عن تغلغل الأثر العثماني والاوروبي في أراضيها .

وفي القرن الثامن عشر , على الرغم من الطاعون كان ينتشر من بغداد الى مناطق مختلفة من العراق , وكان الشعب يزداد فقراً وتزداد الامية بسبب قلة الاستقرار وضعف الأمان , شهد الصعيد الرسمي حملة حكومية لبناء المدارس الدينية على مذهب العثمانيين وفتح الباب واسعاً امام المبشرين المسيحيين الاوربيين , الذين عُرفوا بخلاعتهم , ما تسبب بثورات شعبية جديدة , كما في ولاية البصرة .

لقد كان المسيحيون الاوربيون يستخدمون الطرق غير المشروعة من خلال الرشوة والدعاية المغرضة وينشرون الفساد للربح في الشرق المسلم , وخلال المنافسة بين البرتغاليين والهولنديين والإنجليز في القرن السابع عشر شهدت أسواق المنطقة ومنها العراق ظواهر الغش والتلاعب الممنهج واقبح صورة الانانية التجارية . وقد سبق البرتغاليون الى المنطقة الشرق أوسطية بسبب الامتيازات التي منحتها لهم الحكومة الإيرانية , ثم الهولنديون , فيما وصلت اول تجارة بريطانية الى البصرة عام 1635م[141].

ان الجباية القاسية والعدل المهان والهدايا المأخوذة كرهاً هي ما ميزت كل عصور العثمانيين في العراق , لا سيما القرن الثامن عشر . فيما صار لليهود والمسيحيين الكاثوليك والبروتستانت البريطانيين والفرنسيين والهولنديين حرية التجارة والحركة في البصرة , وهي المدينة التي كان يسير بها الاهمال نحو الطاعون الذي ضربها في سبعينات القرن الثامن عشر فكان هؤلاء الأجانب يهربون ويبقى أبناؤها يعانون الامرين .

ومنذ منتصف القرن الثامن عشر صار التنافس الفرنسي البريطاني في العراق واضحاً , مع رغبة تبشيرية فرنسية تمتزج بالسياسة من خلال جعل القنصل اسقفاً , وسلوك تجاري بريطاني سرعان ما اصبح متغلغلاً في عمق السياسة المملوكية في بغداد والبصرة وإسطنبول , والسياسة الاجتماعية المحلية من خلال العلاقات المالية والقبلية التي تفرعت عن مندوبي شركة الهند الشرقية والقناصل البريطانيين بالتعاون مع اللوبي اليهودي العراقي , حتى ان العلاقات المملوكية البريطانية لم تتأثر في خضم الحرب البريطانية التركية في بداية القرن الثامن عشر , بل ازدادت قرباً وتعاوناً , عن طريق الرعاية المملوكية للمصالح البريطانية , وصفقات السلاح التي زودت بها بريطانيا المماليك . كما كان بعض المدربين والأطباء حول الولاة فرنسيين . فيما اشتركت البعثات البريطانية والفرنسية ومن شاركهما من الاوربيين في مجال التنقيب وسرقة الاثار العراقية تحت نظر الحكومة المملوكية الجاهلة والمرتشية . وقد اصبح السفير البريطاني في القرن التاسع عشر ثاني رجل في العراق عملياً وبصورة شبه رسمية بعد رتبة الباشا في بغداد[142].

وقد بلغت قدرة التحكم البريطاني بالسياسة العثمانية في العراق مرحلة متقدمة , وهو ما سيكون مقدمة لما بعده لاسيما مع وجود التعاون اليهودي البريطاني في المنطقة . فصار تعاون المماليك , المولودين على المسيحية في البلاد غير العربية والذين يشعرون بأنهم غرباء محتلون , مع الانجليز ضرورة في نظر الطرفين لحكم المنطقة . حتى ان (سليمان اغا) احد ضعفاء حكام المماليك , الذي بقي اسيراً في إيران لسنين , حتى اطلق الإيرانيون سراحه برغبتهم , ولم يستطع دخول البصرة او بغداد الا تحت حماية قبائل (المنتفك) , صنع له البريطانيون وغيرهم من المتلاعبين بالتاريخ بالمال تاريخاً بلا عمل ولا اثر حضاري فعلي , سوى انه كان متعاوناً مطيعاً للبريطانيين .

وكان اهم ما ميّز عهود حكم مماليك العثمانيين للعراق ثورات القبائل المستمرة , وضرب الحكومة لها بقسوة كل سنة , وانتشار العصابات وقطاع الطرق وسلب المسافرين , وفرض الضرائب على المستضعفين واعفاء الأقوياء , وإعطاء الأراضي للماليك الغرباء ورجال الحاشية الأجانب والمتواطئين , والعبث المستمر للجنود والاغاوات , وامتلاء الديوان بالمستشارين المجانين والجهلة والمتعصبين , بالإضافة الى جنون وعبث وجهل اكثر الولاة في بغداد , وسعيهم الدائم الى تشتيت القبائل وتفكيكها[143] .

وفي صحراء (نجد) في شبه الجزيرة العربية يظهر من وصف المسيحي البريطاني (فيلبي) لشخصية ومسيرة الداعية السلفي المتطرف الإرهابي (محمد بن عبد الوهاب) مدى الاعجاب والإيمان به وتبجيله له , حتى بما يفوق ربما تبجيله للمسيح نفسه , وهو ما ليس معهوداً في كتابات المستشرقين التي تعادي الإسلام وتزدري المسلمين , وتتهمهم بالسلب والإكراه , فكيف بمن كان دينه يقوم على السلب والإكراه مثل (محمد بن عبد الوهاب) ! , إلا إذا كان هذا الدِين من وحي حكومة وبلاد (فيلبي)[144].

ولم تكن هناك من دوائر حكومية للصحة ولم يكن في العراق سوى مستشفى واحد يقع في بغداد , فكانت الامراض تنتشر كأوبئة , ومن ثم فالناس مضطرة للتشافي على يد افراد محليين . لا سيما مع قلة العناية الحكومية بالبيئة والصحة المجتمعية . فيما كان المسيحيون واليهود يتمتعون بنظام تعليمي واضح , الامر الذي مكنهم من تطوير انفسهم ومجتمعاتهم والدخول في السلك الوظيفي . وكان ان سمحت الحكومة العثمانية للبريطانيين وموظفيهم الهنود فتح دائرة بريد تعمل في العراق , وهي ربما مكنت البريطانيين من التجسس بصورة اعمق , الامر الذي قلدته الحكومة العثمانية ففتحت دائرة مشابهة بعد مؤتمر باريس . وقد سمحت هذه الدائرة مع دائرة التلغراف بانفتاح العراق على العالم .

وكان من الواضح اثر البريطانيين في سياسة الدولة العثمانية عامة وفي العراق خاصة في القرن التاسع عشر . حتى ان الامراء والعسكر كانوا يستعينون بالقناصل البريطانية لتولي الحكم من خلال السفير البريطاني في إسطنبول . وكان يمثل بريطانيا في العراق منذ 1870م موظفون كبار برتبة وكيل سياسي او قنصل في عدة مدن . وقد استولى البريطانيون – المتسللون في العراق منذ ثلاثة قرون – على التلغراف والملاحة النهرية وعلاقات مع قبائل عديدة ونفوذ حكومي يصل من البصرة الى بغداد والموصل الى إسطنبول , الامر الذي جعل طريق احتلالهم للعراق ممهداً تماما . وكان للروس والامريكان والفرنسيين والألمان ممثلون كبار في العراق , لكنه لا يمكن ان يقارن بشيء يُذكر من النفوذ البريطاني في العراق . وفي الحقيقة ان وظيفة اغلب هؤلاء القناصل الرئيسة كانت التنقيب عن الآثار , لدعم التوراة , او السرقة , حتى ان عنوان القنصل والمنقب الآثاري صار واحداً حينها . وقد لعبت كتابات هؤلاء القناصل والآثاريين دوراً في سرد التاريخ على الطريقة الأوروبية . ففي مثال حاول معظم الباحثين الغربيين جرّ أرض (كوش) الى بلاد السودان والحبشة , تماشياً وتوافقاً مع رغبة معظم الكنائس المسيحية في جعل الافارقة من أولاد (حام بن نوح) صاحب الخطيئة بحق ابيه في زعمهم . وهي نظرة عنصرية , لا سيما أن الشعوب التي تم ذكرها من نسل (حام) لا تشترك في الجنس .

وبالتأكيد أن التوراة المترجمة خلطت بين الكثير من الشعوب ونسبتها الى غير اصلها , فالكنعانيون والسبئيون الذين نسبتهم التوراة الى (حام بن نوح) , وجعلتهم تفاسير الكتاب المقدس شركاء للأفارقة السودان في الاب , لا يشتركون فيسيولوجياً في شيء مع الافارقة . بل أنهم لا ينتمون الى جنس بشري واحد , لا على التصنيف القديم , الذي يقسم العالم الى ثلاثة اجناس , حيث ينتمي الكنعانيون والسبئيون الى فرع البحر المتوسط من العرق الأبيض القوقازي , وينتمي الافارقة الى العرق الأسود الزنجي . ولا يشتركون معاً في تصانيف الأعراق الحديثة , كما في نظرية الأعراق الجغرافية التسعة .

أما ادعاء بعض مفسري الكتاب المقدس أن شكل الكوشيين كان أسود اللون فليس مستنداً الى نص صريح , بل هو مأخوذ من نص ( هَلْ يُغَيِّرُ الْكُوشِيُّ جِلْدَهُ أَوِ النَّمِرُ رُقَطَهُ؟ فَأَنْتُمْ أَيْضًا تَقْدِرُونَ أَنْ تَصْنَعُوا خَيْرًا أَيُّهَا الْمُتَعَلِّمُونَ الشَّرَّ )[145]الذي ليس فيه أية دلالة على اللون الأسود للبشرة . كما استدلوا على طول قامة الكوشيين من النص ( هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: تَعَبُ مِصْرَ وَتِجَارَةُ كُوشٍ وَالسَّبَئِيُّونَ ذَوُو الْقَامَةِ إِلَيْكِ يَعْبُرُونَ وَلَكِ يَكُونُونَ. خَلْفَكِ يَمْشُونَ. بِالْقُيُودِ يَمُرُّونَ وَلَكِ يَسْجُدُونَ. إِلَيْكِ يَتَضَرَّعُونَ قَائِلِينَ: فِيكِ وَحْدَكِ اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ. لَيْسَ إله )[146]الذي تأتي (كوش) فيه مضافة لغوياً , يجب كسر آخرها في اللغة العربية للترجمة , فيما أتت صفة “ذوو القامة” مرفوعة لأنها تشير الى السبئيين الذين تبتدأ بهم جملة حالية جديدة .

وفي هذا القرن كانت جل اعمال الدولة العثمانية في العراق النزاع والتقاتل بين المماليك ولاة العثمانيين على السلطة , وانتشار الجثث والامراض والاوبئة . وكان من الواضح وجود خطط بريطانية لإيصال بعض المماليك -الذين اشتراهم من كانوا قبلهم من المماليك من الأسواق- الى السلطة , مع ظهور بارز لعرب (شمّر) في الشمال والجنوب وصراعهم مع الاكراد وقبائل العبيد . وكذلك استمرار حملات العثمانيين ضد القبائل العربية والشيعية منها بالخصوص مثل بني لام . وكذلك ضد الكثير من الاكراد في اطار الصراع المملوكي – الكردي للاستحواذ على النفوذ في العراق تحت راية العثمانيين الذين كانت ثروة العراق تشغلهم ويوزعون فرمانات حكمه على أساس حصتهم التي يبعثها كل قائد او زعيم بعد التقاتل مع اخر اليهم . في ظل تواطئ سعدوني مع بعض الولاة والقادة وفقاً لرؤية زعيم قبلي ما لقبائل (المنتفك) في غيبوبة عن الوعي السياسي والإداري , والتي تسببت في اضعاف جنوب العراق على مدى القرون القادمة .

ورغم ابتداء السلطنة العثمانية في إسطنبول في بداية القرن التاسع عشر في اصلاحاتها الا ان احداً لم يفكر في تطبيق هذه الإصلاحات في العراق , وظل المماليك بجهلهم يحكمون قبضتهم المتخلفة على العراق . ورغم إبادة الانكشاريين في مركز الإمبراطورية العجوز الا انهم ظلوا لفترة أطول في العراق , حتى تم تهديدهم بالمدفعية فتحولوا الى الوحدات النظامية طوعاً , وهذه الوحدات الجديدة التي اصطبغت بصبغة محلية ظلت تجمع بين رجالات الجيش القدماء الغرباء ورجالات الرؤية الطائفية المتعصبة المحليين , والذين كانوا يزدرون ما عليه غالبية سكان العراق من الشيعة . فيما أصبحت هذه الإصلاحات مدعاة لمزيد من التغلغل المسيحي الأوروبي , لا سيما البريطاني في العراق . وقد تم سلب المزيد من الأراضي القبلية وتحويلها الى اميرية حكومية تحت داعي الإصلاح الزائف . وقد كان الإصلاح عسكرياً في غالبه موجهاً بإدارة مسيحية اوربية , لا تسمح له ان يتغول للمواجهة الدولية , بل حافظت التدخلات الأوروبية على مظهر للقوة العثمانية موجهاً الى الداخل العراقي[147] .

وأمام رغبة العثمانيين في إسطنبول انهاء حكم المماليك في العراق وإعادته الى يدهم , تم ارسال (صادق افندي) لإقناع الوالي المملوكي بالتنحي , الا ان الوالي استشار (إسحاق) الصراف اليهودي واتفقوا على قتل المبعوث السلطاني , فقتلوه خنقا , وقد كان السفير البريطاني جزءاً من هذه القصة , فتم ارسال ضباط من الشركس يرافقهم الألبانيين للاستيلاء على العراق , فتحالفوا مع حلفاء المماليك السابقين من قبائل (عقيل) و(شمّر) التي كانت تنتمي للجانب الأقوى وترتضي بما تغنم , وكانت (عقيل) على قسمين احدهما الى جانب الوالي , فصادف تلك الحملة لإزالة حكم آخر المماليك (داوود باشا) ان انتشر الطاعون , الذي ظهرت أولى الإصابات به من خلال محلات اليهود , ولولا ارتفاع مناسيب دجلة وفيضان النهر في نفس الشهر لاختفى سكان بغداد عن آخرهم , فحمل الوالي جزءاً من ثروة الدولة وهرب , ونهب زعماء (عقيل) الكثير من ثروات السراي الحكومي وأحرقوه , والغريب ان الاجتماعات والمؤامرات كانت تدار في دار (صالح بك) , التي أصبحت دار المقيم البريطاني لاحقا , وهؤلاء المجتمعون في هذه الدار هم من قتلوا (قاسم باشا) اول الضباط الداخلين الى سراي بغداد من الجيش العثماني الذي قاده (علي رضا باشا الشركسي) . وبعد صراع وخديعة وسلب ونهب وموت وخراب استسلم (داوود باشا) , لكنّ المفاجأة انه لم يُعدم , بل تسلّم الحكم في البوسنة و(أنقرة) وغيرها حتى مات , وكأن دماء من سقطوا في بغداد كانت هباءً منثورا , فتم قتل جميع المماليك , الخصم والجندي الموالي والمتعاون وغير المتعاون , المواجه والهارب والمقاتل والمستسلم , على يد قيادة الألبانيين , بلا امان ولا عهد ولا ذمة , كما كانت عادة سياسة الدولة العثمانية , التي استفادت من هذا الوجود المملوكي , والذي صنعته لقرون ثم ابادته . ومن تخلي (علي رضا باشا الشركسي) عن مظاهر السلطة الإسلامية التقليدية واحاطته بالمسيحيين الأوروبيين وتجديده لامتيازات شركة الهند الشرقية البريطانية يمكن فهم من كان خلف استغلال المماليك ثم قتلهم , للاستفادة من خلفائهم بصورة اكبر . وذلك كله في حدود منتصف القرن التاسع عشر[148].

ومن الغريب الوصف الذي طرحه كاتب مسيحي في كتاب ( أربعة قرون من تاريخ العراق ) عن وحشية قبائل جنوب العراق , وأن مرجعيتها الدينية سلفية , وأنها ترفض الخضوع للنظام , ومكمن الغرابة هو التاريخ والسياسة والإدارة الفاشلة والمتخلفة والجاهلة للعثمانيين في العراق , واستيلائهم على أراضي اهله وثرواتهم , وارسالها الى الخارج , من خلال ولاة وجنود وموظفين أجانب , وتسبب وجودهم في انتشار الامراض والاوبئة طيلة قرون , وكذلك اعتبارهم ان القسم الأعظم من شعب العراق كافر . وهم اذ يعادون الدولة الصفوية , التي يملك شعبها علاقات تاريخية وحضارية وقبلية بشعب العراق , باعتبارها في نظر العثمانيين المتطرفين طائفياً شيعية كافرة , كانوا يمنحون امتيازات مفرطة للمسيحيين البريطانيين والأوروبيين الأجانب ذوي النوايا السيئة – والتي ثبت اثرها السيء فيما بعد – دون مقابل , كما ان تخريبهم للزراعة والتجارة والصناعات المحلية يقرب من مفهوم الإبادة الجماعية , وبالتالي ان موقف قبائل جنوب العراق ومدنهم وعواصمهم المقدسة في كربلاء والنجف كان موفقاً , لرفضهم تلك الحقبة السوداء المظلمة , رغم ان هذا الجنوب وحده من سيدافع عن دولة العثمانيين لاحقاً حين يغدر بهم البريطانيون في بداية القرن العشرين .

ولم يفت العثمانيين في تلك الفترة قتل المسيحيين العراقيين الشرقيين أيضاً , لأسباب يمكن فهمها من خلال معرفة المستفيد لاحقا . وبدأت تنتشر قبائل (عنزة) و(شمّر) و(زبيد) في العراق بدل قبائله القديمة التي كانت تهرب بسبب هيجان الجور العثماني , الذي انطلق فجأة في كل هذه الابادات المخططة والمنظمة والتي لن تعود عليه بالخير . حيث تم ضرب (الخزاعل) وقبائل الفرات الأوسط , وتعيين شيخ منتفكي لجباية أراضي (بني لام) لإثارة الفتنة بين اقوى تحالفين قبليين في العراق , ولم يكن زعماء (المنتفك) من (السعدون) غير المتحضرين يفهمون ما يراد بهم , رغم انهم قاوموا محاولة تحويلهم الى موظفين اتراك , من خلال اعطائهم وظيفة ( قائم مقام ) بدل ( شيخ المشايخ ) , وكذلك محاولة تركيا سلب الأراضي التي تحت أيديهم وضمها الى مدن أخرى .

في الوقت الذي كانت منشورات وأخبار التحريض والثورة ضد الحكم العثماني ينشرها في العراق -عن طريق البضائع- على ما يبدو من اسمائهم أشخاص مسيحيون أو يهود , هم الصيدلي (داود فتو) , وتاجر الآثار الأدبية (اسكندر) , وكذلك الجهات الأجنبية المشرفة على اتصالات البرق في البلاد , ويغذيها في جنوب العراق زعيم المجتمع السني في البصرة (طالب باشا النقيب) , الذي حظيت أسرته لاحقاً بدعم البريطانيين وتشكيل الحكومة العراقية الأولى , كما حظيت سابقاً بامتيازات العثمانيين[149].

 

 

 

 

 

 

 

[1] الالهة في رؤية الانسان العراقي القديم , ص 36 – 81

[2] سورة مريم 29 – 30

[3] كمال الدين وتمام النعمة , الصدوق , مؤسسة النشر الاسلامي – جماعة المدرسين بقم المشرفة , ج ١ , ص ٤٦١

[4] السومريون ص ١٤٩

[5] سورة القصص 48

[6] سورة الصف 61

[7] سورة الاحقاف 7

[8] سورة المائدة 110

[9] سورة غافر 40

[10] سورة آل عمران 49

[11] سورة المائدة 70

[12] سِفر التثنية 1 : 30 – 35

[13] سفر التثنية 1 : 36 – 38

[14] سفر التثنية 1 : 39 – 40

[15] العرب واليهود في التاريخ ,  ص 325

[16] سورة الأعراف 148

[17] سورة الأعراف 149

[18] سورة الأعراف 138

[19] العرب واليهود في التاريخ , ص 315

[20],, انجيل متى 15 : 7 – 8 ,, سفر ارميا 26

[21] انجيل متى 27 ,, سِفر أعمال الرسل 4 : 10

[22] العرب واليهود في التاريخ , 304 – 313

[23] عندما بدأ تلميذ عيسى (توما) يبشّر بالمسيحية في العراق ومن ثم الشرق

[24] سورة آل عمران 49

[25] سورة المائدة 70

[26] سِفر اشعياء : 31 : 1

[27]د. اسرائيل ولفنسون , ص 31  تاريخ اليهود في بلاد العرب ,

[28] سورة الصف 6 – 9

[29] سورة الصف 6 – 9

[30] انجيل يوحنا : 6 : 26 – 27

[31] انجيل يوحنا : 6 : 1 – 11

[32] انجيل يوحنا : 6 : 14

[33] انجيل يوحنا : 6 : 15

[34] انجيل يوحنا : 6 : 16 – 63

[35] انجيل لوقا : 14 , 15 , 16 , 17 , 18 , 19 , 20 , 21

[36] سورة المائدة 24

[37] انجيل متى : 21 : 12 – 13

[38] انجيل متى : 23 : 37

[39] انجيل متى : 21 : 23 – 31

[40] انجيل متى : 21 : 32

[41] انجيل متى : 21 : 33 – 40

[42] انجيل متى : 21 : 41

[43] انجيل متى : 21 : 42

[44] انجيل متى : 21 : 43

[45] البحث مستل من كتاب “صراع الحضارتين” , علي الابراهيمي

[46] الاستشهاد في المسيحية , اسقف الغربية : الانبا يؤانس

[47] سِفر أعمال الرسل 23

[48] مؤرخ اللاهوت الديني (هايم ماكبي)

[49] سِفر أعمال الرسل 9

[50] سِفر أعمال الرسل 8 : 3

[51] سِفر أعمال الرسل 9 : 1 – 2

[52] سورة البقرة 124

[53] رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 11 : 32 – 33

[54] انجيل يوحنا 6 : 53 – 58

[55] الإصحاح 5 : 21

[56] الإصحاح 5 : 7

[57] الإصحاح 11 : 23

[58] الإصحاح 2 : 46 – 47

[59] بين 17 – 19 و 23

[60] 16 : 23

[61] سِفر أعمال الرسل 15 : 1 – 5

[62] أعمال الرسل 21 : 17 – 26

[63] رسالة بولص الى أهل كورنثوس الاولى 9 : 20 – 21

[64] أعمال الرسل 21 : 27 – 40

[65] أعمال الرسل 23 : 22 – 30

[66] رسالة بولص الى افسس 6 : 5 – 9

[67] رسالة بولص الى أهل رومية 13 : 1 – 7

[68] سورة التوبة 30

[69] سورة التوبة 31

[70] البداية والنهاية , ابن كثير , ج 2 , حديث : “اني خاتم الف نبي”

[71] انجيل متى , الاصحاح الاول

[72] العرب واليهود في التاريخ , ص 56

[73] العرب واليهود في التاريخ , ص 56 – 57

[74] العرب واليهود في التاريخ , ص 57 – 58

[75] مقدمة في تاريخ العراق القديم , ص 215 – 218

[76] مقدمة في تاريخ العراق القديم , ص 219

[77] تاريخ العرب قبل الإسلام , د. محمد سهيل طقّوش , دار النفائس – ط 1 – 2009 , ص 267 – 272

[78] الملكة بلقيس التاريخ والاسطورة والرمز , ص 68  ,, اعيان الشيعة , دار التعارف , ج 1 , ص 243

[79] الملكة بلقيس التاريخ والاسطورة والرمز , ص 39

[80] الملكة بلقيس التاريخ والاسطورة والرمز , ص 67

[81] سورة البروج 4 – 8

[82] البداية والنهاية , ج 3 , ص 134

[83] الملكة بلقيس التاريخ والاسطورة والرمز , ص 68

[84] سورة النمل 40

[85] سورة النمل 39

[86] بحار الأنوار / محمد باقر المجلسي / مؤسسة الوفاء / ج ٢٢ / ص ١١٥

[87] أعيان الشيعة / ج ١ / ص ٢٤٤

[88] نهاية الأرب في فنون الأدب / ج ١٨ / ص ٧٢

[89] موسوعة المعرفة الالكترونية

[90] كتاب الفصل فى الملل والاهواء والنحل , المطبعة الأدبية – مصر 1317 هجرية , ط 1 , ص 48

[91] ويكيبيديا : تم اعتمادها هنا لجامعيتها في ربط موضوع الوندال والقوط بالاريوسية والنسطورية

[92] سفر التكوين ١٧ : ٢٠

[93]تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 645 – 646

[94] أقليات العراق في العهد الملكي / زيد عدنان باجه جي / دار الرافدين / ص ٣٣

[95] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 599

[96] البداية والنهاية , ابن كثير , ج ٢ , ص ٣٨٧

[97] تاريخ الأمم والملوك , الطبري , دار الكتب العلمية , ج ١ , ص ٥١٩

[98] تاريخ دمشق , ابن عساكر , دار الكتب العلمية , ج ٢ , ص ٤

[99] البداية والنهاية , ج 4 , قصة اسلام عمرو بن العاص

[100] جاء في تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني , حرف السين ت ٥١٧ : قال ابن معين : ضعيف الحديث , وقال مرة : فليس خير منه . وقال أبو حاتم : متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي . وقال أبو داود : ليس بشيء . وقال النسائي والدارقطني : ضعيف . وقال ابن عدي : بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها . وقال ابن حبان : يروي الموضوعات عن الأثبات , قال : وقالوا أنه كان يضع الحديث . قلت : بقية كلام ابن حبان : اتهم بالزندقة . وقال البرقاني عن الدارقطني : متروك الحديث . وقال الحاكم : اتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط . قرأت بخط الذهبي “مات سيف زمن الرشيد” .

[101] قال الذهبي : واستقر الاجماع على وهن الواقدي . ميزان الاعتدال – دار الكتب العلمية – الجزء السادس – ص ٢٧٦

[102] البداية والنهاية / ابن كثير / الجزء الخامس / قدوم وافد فروة بن عمرو الجذامي صاحب بلاد معان

[103] الخلفاء الراشدون مواقف وعبر / د. عبد العزيز الحميدي / دار الدعوة ٢٠٠٥م / ص ٣٧٧

[104] كتاب الفتوح / احمد بن اعثم الكوفي / الجزء الأول / ص ١٩٨

[105] تاريخ الطبري , ج ٣ , ذكر الخبر عن غزوة تبوك

[106] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٥٨٢

[107] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٥٧٩

[108] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٣ / ص ٧

[109] البداية والنهاية , ابن كثير , ج 2 , دار الكتب العلمية , ص 154

[110] الاحتجاج / احمد بن علي الطبرسي / مطابع النعمان / ط ١٩٦٦ م / ج ١ / ص ٩٧

[111] حاضر العالم الإسلامي وقضاياه السياسية / محمد عِوَض الهزايمة / الطبعة الثانية / ص ٦٤

[112] تناولت المسيحية الرومانية وقسوتها بالتفصيل في كتاب (صراع الحضارتين)

[113] البداية والنهاية / ابن كثير الدمشقي / دار عالم الكتب / ط ٢٠٠٣ م / ج ١٠ / ص ٢٧٠ – ٢٧٧

[114] السيرة الحلبية / نور الدين الحلبي / دار الكتب العلمية / ج ١ / ص ٥٠٠

[115] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٥٧٩

[116] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٥٥٩

[117] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٥٨١ – ٥٨٣

[118] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٥٦٢ – ٥٦٤

[119] تاريخ الطبري / دار الفكر / ج ٢ / ص ١٦٢ – ١٦٣

[120] تاريخ الطبري , مؤسسة الاعلمي , ج ٣ , ص ١٠٥

[121] تاريخ التمدن الإسلامي / جرجي زيدان / مؤسسة هنداوي / ج ٢ / ص ١٩ – ٢٠

[122] الفتنة الكبرى \ طه حسين \ مؤسسة هنداوي \ ج 1 \ ص 81

[123] اعيان الشيعة \ ج 1 \ ص 314

[124] اعيان الشيعة \ ج 1 \ ص 589

[125] اعيان الشيعة \ ج 1 \ ص 588

[126] مصادر البحث الأساسية في كتاب (صراع الحضارتين) الذي صدر عن مركز عين للدراسات والبحوث ودار القارئ بقلم الكاتب

[127] تاريخ الطبري , مؤسسة الأعلمي , ج ٣ , ص ١٠٦

[128] سفر اشعيا 60 : 6

[129] سفر العدد 24 : 21

[130] الفتوحات العربية في روايات المغلوبين , حسام عيتاني , دار الساقي , الفصل الثامن

[131] تاريخ مدينة دمشق , ابن عساكر , دار الفكر ,  ج 1 , ص 159

[132] تاريخ الطبري , ج 2 , دار الكتب العلمية , ص 448

[133] كعب الاحبار , إسرائيل بن زئيف , مطبعة الشرق التعاونية – 1976م , ص 38 – 39

[134] تاريخ الطبري , مؤسسة الأعلمي , ج ٣ , ص 106 – 107

[135] الشيخان , طه حسين , ص 71

[136] تاريخ الطبري , مؤسسة الأعلمي , ج ٣ , ص ١٠٧

[137] الفتوحات العربية في روايات المغلوبين , حسام عيتاني , دار الساقي

[138] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 411 – 414

[139]لقد كان مجموع جباية الدولة العباسية في زمن المأمون  390855000 درهم فضة أي ما يعادل تقريباً 273 مليار دينار عراقي في عام 2020م وهو الصافي غير النفقات في البلدان وغير الغلات والمواد مثل العسل والقماش والحيوانات \ تاريخ التمدن الإسلامي 2 \ جرجي زيدان \ ص 60

[140] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 417 – 418

[141] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 136

[142] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 304 – 308

[143] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 302 – 303

[144] تاريخ نجد ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (السلفية) , ص 31 – 41

[145] سفر إرميا 13: 23

[146] سفر إشعياء 45: 14

[147] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 309 – 314

[148] أربعة قرون من تاريخ العراق \ ص 315 – 331

[149] مشهد الإمام أو مدينة النجف , ج 4 , ص 179

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.