دراسة تاريخ المجتمعات وأديانها تتطلب جهداً كبيراً لتنقيح المعطيات وقراءة الأحداث , ثم الخروج بنتائج واقعية او منطقية . لكنّ دراسة تاريخ الفراعنة يستدعي القيام بجهد مضاعف لعبور التيار الغربي المسيطر على الذهنية البشرية لعقود في تفسيره ورؤيته لتلك الحضارة .
ففي مثال مقتضب , يرى الكثير من الباحثين أن (كوش) التوراتية جزء من حضارة جنوب مصر , وهذا ما يغلب على المنشورات الرسمية , دون وثائق متينة , في حدود الاطلاع . لكن ذكرت التوراة منطقة (كوش) الى جانب (لود) و(فوط) , في الهجوم الكبير من قبل ملك بابل على مصر الفرعونية[1], ويظهر أن (كوش) كانت تحد مصر من أحد جوانبها بحدود غير مباشرة او غير واضحة الاتصال[2], وكانت من البلدان التي سقطت في يد ملك بابل , في حملته لإسقاط مصر الفرعونية نهائياً , الى جانب بلاد (لود) و(فوط)[3], مما يدل على أنها او جزءاً منها كانت في طريق حملته , بل ان (لود) و (فوط) كانوا حلفاء مشتركين قريبين على نينوى عاصمة (آشور)[4], او أنها كانت واقعة تحت نفوذ الفراعنة , فتكون تلك البلدان موزعة بين الشام والحجاز , كما هو السياق التاريخي للسيطرة الفرعونية .
ولمعرفة عقائد الدولة الفرعونية[5]يمكن الانطلاق من المؤرخ (هيرودوت) في القرن الخامس قبل الميلاد , الذي كتب ( انّ المصريين اكثر تقوى من سائر البشر … ويهتمّون كل الاهتمام بالشعائر المقدّسة … ) , ومع ذلك لم تكن عقائدهم هي ذاتها في كل زمان ومكان , بل تبدّلت في احيان كثيرة , ولا أقلّ من التغيّر الذي تكشفه جهة توجيه الميّت عند دفنه , التي تكشفها مقابرهم خلال عصور متعددة , حيث كانت اجساد بعض الموتى المصريين باتجاه الغرب , والبعض الاخر بالاتجاه الشمالي او الشمالي الشرقي , مما يعني التبدّل في قناعاتهم في موضوع بأهمية مصائر الموتى , الذي يشغل الانسان دائما . لكن يمكن لذلك ان يكون تنوّعاً مناطقياً في العقائد ايضا , وليس زمانياً ربّما , حيث اختلفت اتجاهات الدفن باختلاف المقابر .
لقد تم العثور على مجموعة من الرسوم والنقوش التي تعود الى عصور ما قبل التاريخ المصرية , السابقة على عصر الأسرات الأوّل , توّثق مجموعة من المعارك والحوادث التي تشارك فيها كائنات مثل ( العقرب ) وطائر (أبيس) و( الصقر ) و( ابن آوى ) , وهي التي نقل التاريخ المكتوب تقديسها وتأليهها في مجمل الحضارة المصرية اللاحقة . كما تضمّنت تلك المكتشفات وجوداً للإله (مين) .
انّ العقل المعاصر يقرأ تلك الرموز بنحو من الأسطورة الحاكية عن سذاجة تلك الشعوب الاولى , لكنّ هذه القراءة المتأخرة لا تكشف عن السبب الواقعي لتقديس تلك المظاهر الحيوانية لاحقا , وبتركيز ومواظبة , من قبل حضارة كبيرة ومتمدنة كالحضارة المصرية , كما انها لا تفسّر وجود هذه الكائنات في منقوشات هدم قلاع المدن واحتلالها , وربّما لم يُرِد الناقش للحجر الفهم المعاصر للباحثين الغربيين , بل أراد قول شيء آخر تماما .
كما نقلت المنقوشات – التي يُرجّح انها تنقل احداث توحيد ( مصر العليا ) و( مصر السفلى ) على يد الملك (مينا) – رسومات ل( ابن آوى ) و ( الصقور ) , وفيها ايضا الإله (خنسو) , احد أعمدة ثالوث (طيبة) . ومن غير المفهوم استمرار وإصرار المصريين على توثيق وجود الآلهة ذات الوجوه الحيوانية في الغالب , رغم بشرية بعضها , ضمن معاركهم وحوادثهم الكبرى , خصوصاً تلك المرتبطة بوجود الملك .
وكانت الكثير من هذه الآلهة تفقد حجمها بمرور الزمن أمام إله صاعد جديد , او ربما يتم دمج إلهينِ في إله واحد , وأحياناً تكون هناك الآلهة الكبرى الحاكمة على مجموعة الأقاليم المصرية , فيما تنتشر أيضاً مجاميع من الآلهة الصغيرة المساعدة , والملفت انها تعمل بانسيابية مثيرة ضمن المنظومة الكبرى للآلهة .
وربّما كان العجل الذي حمل اسم (أبيس) او (مرور) و( العجل الأبيض ) و( العجل الأسود العظيم ) من اهم الآلهة الواضحة التقديس في عصور الدولة المصرية القديمة , وكانت له مجموعة من الكهنة والخدم , فيما ارتبطت الآلهة (حتحور) بصورة ( البقرة ) , رغم بشريتها .
فيما كان ( الكبش ) من الصور الملفتة للآلهة الاولى للمصريين , وقد مُثّلت من خلاله الآلهة (آمون رع) و(حرشف) و(خنوم) . انّ العامل المشترك في الآلهة ( الكبش ) هو ارتباطها بعملية الخلق , حيث حملت بعضها لقب ( خالق البشر ) وبعضها ( ابو الآلهة ) .
كما كانت المسلّات , وهي أعمدة طويلة نسبيا , تحمل قدسية خاصة لدى قدامى المصريين , استمرت لاحقا , وقد وجدت مجموعة كبيرة منها مثل أعمدة (ايونو) و(بنبن) و(جد) . ورغم انّ الباحثين الآثاريين عاجزون عن تفسير أصل قداستها , الا انّ المصريين ربطوها بشكل غامض بالآلهة ذاتها , كما في عمود مدينة (القوصية) الذي ارتبط بالآلهة (حتحور) .
ويمكن القول انّ هذه الأعمدة لم تكن هي بذاتها مقدسة , بل كانت عبارة عن وسائل مفترضة للتواصل مع الآلهة , لذلك أخذت قدسيتها من قدسية علم الآلهة ذاته .
والصولجانات اليدوية كانت مشابهة لقدسيتها , كواسطة لعبور قوى الآلهة , بحال المسلّات , فكان هناك مثلاً الصولجان (سخم) , الذي يعني ( القوة ) , وكان يرمز للسلطة وقوة الآلهة . وقد كان للآلهة ذاتها صولجانات , لا يُعرف مغزى واضح لحملها من قبلها مع كونها آلهة لا تحتاج في فعلها الى الصولجان , لكن يبدو انّ هناك تفسيراً مصرياً لم يصل الى الباحثين المعاصرين حول حقيقة استخدامها في العالمينِ البشري والخارق . وقد ارتبط احد هذه الصولجانات بالإله الكبير (اوزيريس) , مما يعني أن هناك عناية خاصة بهذا الصولجان .
لكنّ الأمر الأكثر اثارة كان ورود مصطلح (دواور) , الذي ترجمه بعض الغربيين بمعنى ( المنتمي العظيم للفجر ) , لكنّه اليوم يُترجم -بكلّ بساطة ووضوح – الى كلمة ( متنوّر ) , ومنه طائفة ( المتنوّرين ) المنتشرة في العالم . وقد ارتبط المصطلح باحتفالات مقدّسة غامضة , كما في عصر الملك (جت) , كان ( المتنوّر ) فيها يضع لحية صناعية .
ويبدو انّ المصريين القدماء الأوائل كانوا يعتقدون بعقيدة التوحيد ذاتها التي اعتقد بها الانسان السومري الاول , حيث (نُون) , ( القديم , اللانهائي , العمق العظيم ) , والوصفان الأخيران ليسا الا بمعنى ( السرمدي ) , وهو ذات المعنى المستخدم لوصف الإله الإبراهيمي . وهنا من الغريب إدِّعاء باحث مثل (ياروسلاف تشيرني) انّ ذلك يعني إيمان قدماء المصريين بالفوضى ! .
و(آتوم) عنى به المصريون القدماء ( الكامل , المطلق , الموجود بذاته , الأزلي , الأقدم , المتفرد , الأوحد ) . وربما يكون هو ذاته المخلوق الاول ل(نُون) , لكن يمكن ان يكون هذا التقريب بين المصطلحين بعيداً عن ذهنية الباحث الغربي في الغالب , لافتقاده للخلفية الفلسفية الشرقية العميقة .
ثمّ أوجد (آتوم) – بنفخة منه – (شو) و(تفنوت) , وهما وصفان للطبيعة بحسب الباحثين , وإن حملهما الباحثون الغربيون -كالعادة- على محمل الآلهة . وهذا الإشكال في الحمل الخاطئ قد عانت منه الترجمات الغربية للعقائد السومرية ايضاً , كما صوّروا كلمة (دينجير Dingir 𒀭) بمعنى ( الإله ) , فيما لم يقصد بها السومريون سوى ( القداسة ) . وهذا الاشكال ناتج عن الخلفية الوثنية او المادية للمجتمعات الغربية . لكن يبقى هناك احتمال كبير ان يكون (شو) أيضاً مظهراً آخر ل(نُون) و(آتوم) , حيث هو اسم التجليّ من خلال الآيات الطبيعية , حين خلق السماوات والأرض وملأ ما بينهما بآياته , لا سيما ان اللاهوت المصري وصف (شو) ب( اللامرئي ) وأنّ الابصار لا تدركه . ومن الغريب ايضا ان يحيل الباحثون هذه المعاني الى الرؤية اللاهوتية التثليثية الاقانيمية للمسيحية الرومانية , وجعلهما متطابقتين ! .
كانت هناك على الدوام في مصر آلهة رئيسة وآلهة ثانوية , يشكّلان منظومة واحدة . ولا يمكن الذهاب الى الفهم الذي نتج عن بعض الآثاريين , لتفسير ظاهرة دمج الآلهة الثانوية بآلهة اكبر , كنتيجة لصراع سياسي او مناطقي , لأن الكثير من تلك الآلهة الثانوية ظلت مقدسة ومحترمة حتى لدى المنتصر والغالب , إنَّما كان السلوك هذا لدى المصريين يقوم على أساس المعتقد المصري ذاته , الذي يؤمن بوجود عالم اخر , تسكنه كائنات خفيّة , مترتبة بصورة طبقية , لذلك كان فيها من هو ذو نفوذ في عالمه , وبالتالي في عالم البشر ايضا , وكان هناك من هو أقلّ شأناً , لكنّه كان قادرًا على التواصل مع مناطق محددة , لا تهدد نفوذ الكائن ذي النفوذ , وبالتالي ليس من الغريب ان يتم دمج هذه الآلهة والربط بينها .
ومن الطبيعي انّ الانحراف في الفكر الديني المصري بدأ ينتشر خلال فترات زمنية متباعدة , كما هو الحال مع الانحراف في المجتمعات التوحيدية العراقية , لكنّ شيئاً ظهر فجأ ذهب بالدِّين المصري بعيدا , فانغمس كليًّا في منهج الظلموت .
والواضح من الاستعراض التاريخي للعقائد في مصر انّ هناك تعمّداً في دمج نظرية الخلق الاولى -التوحيدية ربما- مع قصص وأساطير اخرى , لخلط الأوراق وإشباع صور الشخصيات والحوادث فيها بألوان جديدة تناسب ذلك الظهور المفاجئ . وسيأتي لاحقاً بعض ملامح هذا الدمج , وسيتبين لماذا يمكن الاعتقاد بذلك .
انّ النتيجة المباشرة لهذا الخلط العقائدي الغريب وتشوّه الأفكار بمرور الزمن كانت ظهور مفهوم ( الآلهة المادية ) , المرتبطة بالماورائيات , ذات القدرات الخارقة , يصحب ذلك الكثير من الطقوس والسلوكيات الناشئة عن تلك الاعتقادات , والتي تتطور مع الزمن بنحو اكثر تعقيدا .
يمكن تقسيم الآلهة المصرية في فترة الظلموت -التي اعقبت الفترة الشبيهة بالتوحيدية- الى مستويين , آلهة رئيسة , وآلهة ثانوية او محلية . وربما اندمجت الآلهة المحلية مع الرئيسة في فترة من الفترات لإنتاج إله جديد رئيس .
كذلك يمكن القول انّ واحداً من اقدم الآلهة المصرية التي تعود لعصر ما قبل الأسرات هو الإله (مين) , الذي يتم تصويره على شكل رجل منتصب , يرتدي رداءً ضيّقاً , ويرفع احدى يديه بالسوط ويخفي الاخرى تحت ردائه .
ومن الآلهة الرئيسة (آمون) او ( الخفي ) , معبود الدولة الحديثة , والذي يتم دمجه عادة بآلهة رئيسة اخرى , كذلك (رع) وهو اهم الآلهة المصرية وأشهرها ورئيس مجمعها التاسوعي , و( المسافر الدائم على مركب الآلهة ) , الذين اندمجا لاحقاً في الإله (آمون-رع) . وهناك أيضاً الإله (حورس) بمعنى ( البعيد ) , الذي اشتهر في الأسطورة المصرية الكبرى (اوزيريس, ست, إيزيس) كابن ل(اوزيريس) و(إيزيس) , والمنتقم من عمه (ست) . والإله (اوزيريس) حاكم عالم الموتى , و الرمز الكبير لضحايا الحسد , والذي قتله اخوه (ست) , وأراد أخذ زوجته , وهي اختهما معا . والإله (ست) رمز الشر لأنه قتل اخاه (اوزيريس) , لكنه المقدس ضمن التاسوع الإلهي . ومنهم الإله (بتاح) رب الصناعات والفنون او خالقهما .
وربما كانت هذه الآلهة تظهر في مناطق متعددة , لتحمل عناوين متعددة , رغم وحدة الظهور , مثل ظهور (ست) بصورة (آشو) . وأحيانا يكون الإله هو ابن لأحد الآلهة الكبار , فيأخذ أهميته من ذلك البعد النسبي والقوة التي يملكها ايضا , كما هو الإله (أنوبيس) .
او انّ الآلهة تكون زوجة لأحد الآلهة , وهي ذاتها تكون مهمة ايضا , كالآلهة (إيزيس) , زوجة الإله (اوزيريس) , وأم الإله (حورس) , والتي انتشرت عبادتها في أوروبا بصورة كبيرة في العهد اليوناني الروماني .
وهناك ما يمكن عدها عناوين لقوى مقدسة , لا انها اسماء لآلهة , وهذا ما تحويه الهالة التقديسية الخاصة بها , كالعنوان (سخمت) , والعنوان (أبيس) , و (سرقت) , و (سكر, سوكر) , و (يوسعاس) , ربما كانت وسائط عمل الآلهة بأيّ صورة كانت , وربما هي مجموعة من الآلهة الفرعية العاملة تحت نظر الآلهة الكبرى . وهناك احتمال اخر مفاده ان تكون هذه العناوين تشير الى وسائل تكنولوجية , أُستخدمت من قبل هذه الآلهة المفترضة , مما ابهر المصريين ونفعهم ايضا .
او تكون تلك الآلهة في الواقع ليست سوى بشر مقدّس لدى المصريين , كانت له إنجازات او خوارق , او ربما اخطأ الباحثون في ترجمة رؤية المصريين لقدسيته , كما هو الإله (ايمحتب) , الذي كان مهندساً معمارياً للملك (زوسر) . وعلى هذا الواقع يمكن احتمال وجود إله بشري اخر هو (ددون) , الشاب الصعيدي الذي يحمل البخور .
وبعض الآلهة كان يوصف بأنه رسول الآلهة , كالإله (تحوت) , مما يعني انه ليس إلهاً بالمعنى الفلسفي , ومع ذلك تم وصفه بانه ( ربّ الكتابة ) , وهذا ما يشير الى معنى اخر يرتبط بتكنولوجيا تواصل الآلهة مع المصريين , لا سيما انه ارتبط بالقمر , وبه ارتبطت الآلهة (سشات) وهي ( ربّة المعرفة والكتابة ) . ويشبه (تحوت) إله اخر هو (خنسو) , او ( الهائم على وجهه ) كما ترجمه المتخصصون , والذي لا يعني اكثر من ( المسافر ) باللغة الحديثة , وعلاقته دائمة مع (آمون) وحركته , وتم ربطه بالقمر ايضا , مما يعني انّ الآلهة الرسولية او الناقلة كان يتم الإشارة اليها برمز القمر , او الشمس كما حدث مع الإله الكبير (رع) .
وأحياناً لم تكن تلك الآلهة المفترضة سوى وصف لحالة مكانية او زمانية , ارتبطت لدى المصريين بمعاني بُعدية محددة , كالإله (جب) إله الارض , والآلهة (نوت) آلهة السماء , الذينِ اعتبر الباحثون انّ المصريين قالوا بزواجهما , وهو امر مستبعد اذا تم التفكير بعقل المصري ذاته , لكن ربما كان المصريون يعتقدون بارتباط هاتين الحالتين بعلاقة ما , منتجة لعلاقات اخرى , ككونهما كانا متحدين .
وقد يمكن فهم بعض تلك الآلهة على نحو مخالف لما هو شائع , كالإله (حتحور) , التي تعني ( بيت أو مقر “حورس” ) , والتي اعتبرها بعض الباحثين زوجته , فيما ترجمة اسمها قد تعني وسيلة انتقاله , او مقر قيادته فقط , خصوصاً انها ذاتها تُسمى ( عين “رع” ) , وأنها القوة التي دمّرت اعدائه .
وبعض تلك الآلهة ليست الا مسميات لحالات تواصل الآلهة وأوامرها , كالآلهة (حكا) و(حو) و(سيا) , التي تصاحب ( مركب الإله ) , وتعبّر عن حالات مثل النطق والسحر , والأخير ربما ليس اكثر من وصف لتقنيات تلك الآلهة .
أمّا إله مثل (خنوم) فيبدو محيراً للباحث , حيث يعني اسمه ( الخالق ) , وفي ظلّ وجود آلهة خالقة ك(نُون) و(آتوم) و(شو) , يكون وجوده مستقلّاً أمراً غير مستساغ , وغير متوافق مع المنطق العقلي , لذلك يمكن ان يكون وصفاً آخر لإله آخر . وعلى ذلك يمكن حمل الثنائي الآخر في ثالوث (خنوم) المتمثل بالإلهتين (ساتت) و(عنقت) .
فيما هناك آلهة مستوردة ووافدة من آسيا او غيرها , كالآلهة (رشبو) و(بعل) و(سبد) و(عشتارت) و(عنات) و(قادش) . وآلهة أخرى ارتبطت بمعاني الزمن او المواسم , مثل الآلهة (رنبت) المرتبطة بالسنة , والآلهة (رننوت) المرتبطة بالقدر , ويشابهها الإله (شاي) , والآلهة (رننوتت) المرتبطة بالحصاد .
وكانت هناك أيضاً آلهة لوصف فلسفة النظام الكوني , وتثبيت العدالة والحق والنظام , كمقدس حاكم على الوجود الكوني والتشريعي , مثل الآلهة (ماعت) , التي تصف الأساس الذي خُلق عليه العالم .
انّ ارتباط آلهة مثل (رع) , وهو إله رئيس, مسافر دائماً , مع آلهة أخرى تجسيدية رمزية , مثل (حكا) التي ترمز للسحر او الفيزياء بالمصطلح الحديث , و(سيا) التي تشير للذكاء والمعرفة , و(حو) التي تجسّد الأوامر الصوتية للإله , يعطي معنى آخر لفهم حقيقة الآلهة الفرعونية , ويدفع بعيداً عن الفهم المُتكلَّف والساذج للباحثين الغربيين . فهنا يبدو واضحاً ان المصريين كانوا يتحدثون عن ظواهر ذكية ابهرتهم , ويصفون مظاهرها بمصطلحات عديدة .
وكانت هناك آلهة من نوع خاص , احتفظت بهيبة ناتجة عن خوف المصريين منها , مثل الإله (مونتو) إله الحرب وحامي الملك . والإله (نحب كاو) الذي يتم تصويره كثعبان برأسين وجسد بشري , يرافق الإله (رع) في قاربه كحارس له . وكذلك هناك الآلهة المرعبة (نيت) , وهي حامية للملك ايضا , وأحدى بنات (رع) . ومن آلهات السحر كذلك (ورت حكاو) .
ولعلّ الملفت في تصوير النقوش المصرية للآلهة تعدد مظاهرها وغلبة الصفة الحيوانية عليها . فقد استخدم المصريون أشكال ( العجل ) و( الثعبان ) و( ابن آوى ) وطائر (إبيس) و( الصقر ) و( الأسد ) وغيرها كثير , كذلك استخدموا الشمس والنجوم والقمر .
لكنّ الغريب هو ظهور الآلهة بصورة هجينة , تجمع بين رأس حيواني وبين جسد بشري , وليس من الواضح الحكمة من ذلك اذا تم اعتماد الفهم العام المتداول لتفسير اعتقادات وأساطير الشعوب , لكنّ الأخذ بما يُنقل عن ظهور كائنات بهذه الصورة الهجينة للعاملين بالسحر في العصر الحالي يعطي تفسيراً اكثر وضوحا .
وكذلك يلفّ الغموض انتشار رمزية ( قرص الشمس ) فوق رؤوس الآلهة , واستخدام القبعات الطويلة او ذات القرون من قبل اغلب الآلهة , فتلك التفسيرات الاحتمالية المتداولة -بحسب ما اطلعتُ عليه- ليست الا فهمًا معاصراً لسلوك قديم له فلسفته الخاصة .
انّ الرؤية الدينية الإبراهيمية تثبت دائماً وجود مخلوقات بُعدية في عوالم أخرى خفية , لذلك حملت عنوان ( الجنّ ) بمعنى ( المخفي ) او المراوغ , يقودها كائن ذو قدرات خاصة اسمه (ابليس) , ولقبه (الشيطان) , وهو اول أعداء (آدم) بعد اصطفائه , بسبب الانانية والحسد ايضا . لذلك كان من الطبيعي استغلال هذه المخلوقات للمجتمع القابيلي البدائي , وفتح الصراع من جديد مع المجتمع الآدمي , فكان هناك تبادل نفعي بين الحضارتين القابيلية والابليسية , حيث (قابيل) يفتقد الى الدعم الذي حظي به المجتمع الآدمي سماوياً بعد انشقاقه وانسلاخه .
لكن كان من الطبيعي جداً ان تسعى الحضارة القابيلية لتحسين الصورة السيئة لمؤسسها (قابيل) وجعله محترماً كبقية اخوته , لذلك تمّ ادخال (ست) مكان (قابيل) كإله في مجمع الآلهة المصرية , وكذلك في مجامع آلهة لشعوب مختلفة أخرى , بعد انتشار هذه الحضارة في عموم الارض , من هنا كانت أسطورة (اوزيريس, إيزيس, حورس, ست) نسخة معدّلة عن قصة ابني (آدم) الإبراهيمية , لتحسين صورة (قابيل) أو (ست) في الذاكرة البشرية .
انّ المجتمع المصري القديم ربما لا يشترك شكلاً مع المجتمع الآدمي العراقي –ذي الملامح الشرق اوسطية- , حيث تظهر المومياوات جنساً يجمع الى حد كبير من حيث الهيئة بين الميديترانية المتوسطية وبين النوبية الجنوبية , قد أخذ المعرفة عن المجتمع الآدمي الشيتي , او انه اختلط بالمجتمع القابيلي .
وقد اعتبرت الأسطورة المصرية انّ تل (السكينتين) هو المكان الذي ظهر عليه (آتوم) , وبالتالي هو المكان الأزلي , وهذا الاختيار لأرض مرتفعة يظهر عليها المخلوق الاول يتطابق مع الرؤية الاسلامية الشيعية , التي ترى انّ الظهور الاول ل(آدم) كان على ارض هضبة (النجف) المرتفعة , او جبل الكوفة .
لكنّ الأسطورة المصرية لاحقاً يبدو انها أدمجت أحداثاً أخرى في هذه القصة , لتنتج مفاهيم قابيلية ابليسية خاصة , فقد افترضت -حسب مصادر التاريخ الفرعوني- انّ هذا التل الأزلي يقع ضمن ( جزيرة اللهب ) , وإطلاق هذا الوصف على الجزيرة يستدعي صوراً فريدة عند دمجه بالمعتقدات الأخرى للفراعنة , حيث كان للمصريين تلالاً أزلية أخرى , منها تلّ (عين شمس) , الذي يعلوه حجر مخروطي كان بداية ظاهرة المسلّات الغريبة في الحضارة الفرعونية , والتي تشترك فيها حضارات وثنية كثيرة حتى في اصقاع بعيدة جداً عن الارض الفرعونية , وتتشابه هذه الظاهرة في وجودها مع ظاهرة الاهرامات .
وفي حين كانت الرواية الإبراهيمية لظهور (آدم) بسيطة , كانت الرواية الفرعونية معقدة , وترى انه ظهر للمرة الاولى على شكل طائر (البنو Phoenix) , وهذه الصورة تذكّر بفكرة ظهور مخلوقات غريبة للسحرة والمتعاملين مع عوالم الجنّ . وَمِمَّا يلفت النظر انّ المصريين كان لهم مجموعة من التلال المشابهة في مجموعة من المدن , مما يثير تساؤلات مهمة حول حقيقة إيجادها اذا كان التل الأزلي واحداً مرتبطاً بالظهور الاول للبشر ! .
القصة الأخرى الملفتة , والتي يمكن دمجها مع قصة ( جزيرة اللهب ) , هي معركة الإله (رع حور اختي) , التي خاضها حين كان حاكماً على (النوبة) ضد مؤامرة حيكت ضده في مصر . انّ هذه المعركة لم تكن ضد البشر هذه المرة , بل ضد مخلوقات مختلفة تم توصيفها بما يعني ( الأرواح الشريرة ) او ( الآلهة الأقل رتبة ) , وهي بالمعنى الإبراهيمي تعني الجنّ . وفيها استقلّ الملك (رع حور اختي) سفينته , يرافقه (حورس) , لكنّ (حورس) بعد الوصول الى مصر اقلع طائراً من سفينة الملك باستخدام ( قرص الشمس ) , مهاجماً اعداءه من السماء , ملحقاً بهم الهزيمة حتى اضطروا الى الهروب . ثمّ يعود (حورس) الى سفينة الملك , حيث يمنحه (تحوت) لقب (حورس بحدتي) . ثم يتفقد (رع حور اختي) ارض المعركة برفقة الآلهة الآسيوية (عشتارت) , ولا يظهر بوضوح سرّ وجود آلهة آسيوية في معركة عظيمة مفصلية في تاريخ الآلهة المصرية القديمة , لكن الذي يمكن فهمه انّ هناك تحالفاً كان بين المنطقتين لمواجهة خطر كبير تعرضت له المنطقة , هدد وجودهما . وقد ظهر لاحقاً انّ (حورس) لم يقضِ على الأعداء تماماً , حيث عمد الفارّون منهم الى النزول الى الماء بشكل ( تماسيح ) و( أفراس نهر ) , مهاجمين سفينة (رع حور اختي) , لكنّ معركة بالسلاح الأبيض نشبت بينهم , قادها (حورس) , انتهت بالقضاء عليهم , بعد تسللهم الى السفينة . ثم اقلع (حورس) باستخدام ( قرص الشمس ) مرة أخرى , ترافقه الآلهة (نخبت) التي تأخذ رمز ( النسر الحامي ) , والآلهة (وادجت) التي تأخذ رمز ( الأفعى ) , ليغيرا من جديد على الاراضي المصرية , ويخضعاها لسلطة الملك (رع حور اختي) . لكن يتجدد القتال في (تحل) قرب الحدود الآسيوية , وقائد المتآمرين كان (ست) , الذي فرّ لاحقاً متخذاً شكل ( الثعبان ) , مما يكشف انه استخدم ذات تقنيات الآلهة (وادجت) . لكنّ (حورس) هزم الجميع , فقرر الملك مكافأته واتخاذ ( قرص الشمس ) كظاهرة مقدسة في جميع المعابد .
ان الإنسان المعاصر , الذي يعيش تقنيات العصر الحديث , سيتبادر الى ذهنه -عند قراءة احداث هذه المعركة- تصوّر واحد لسفينة الإله الملك (رع حور اختي) و( قرص الشمس ) للإله القائد (حورس) , هي فكرة ( حاملات الطائرات ) , وربما ذلك ما يُفسر انّ الأسطورة لم يرد فيها ذكر البشر , حيث كانت الآلهة وَالْجِنُّ هما بطلاها حسب القصة المصرية القديمة .
انّ قصة معركة ( الطائرات ) هذه كان لها شبيه في عدة حضارات أخرى . ففي الحضارة الهندية حيث معركة الآلهة الكبرى (الفاميناس) في حضارة (راما) كانت سماوية او فضائية . وفي حضارة (المايا) القديمة كان هناك الإله او الملك (بكال) , الذي استخدم ما يشبه الصاروخ لزيارة العالم الآخر , حيث يظهر وهو يمسك بيديه لوحة تحكم , فيما قدمه على كابسة او شيء من هذا القبيل , فيما في نهاية النقش ما يشبه فوهة لخروج اللهب , والملفت للنظر انّ هذا الملك -الذي تقع حضارته في المكسيك اليوم- هو احد الذين بنوا هرماً شبيهاً لأهرام فراعنة مصر .
ويرى بعض الباحثين في المصريات , مثل (تشيرني) , أصلاً حقيقياً لهذه الأساطير , بسبب الصراع بين أتباع (حورس) وأتباع (ست) , وربما يكون ذلك مقبولاً الى حد ما , لكنّه يخالف التصور المعاصر عن بدائية العالم القديم , كما لا يملك أحد تفسيراً واضحاً لهذه الأساطير الضخمة , ولا يمكن أيضاً نفي حقيقة وجودها بعشوائية ومزاجية . لكنّ الامر الأهم هو وجود التقنيات القتالية الضخمة لدى تلك الحضارات , ودخول حضارات غير بشرية في القتال , ودموية تلك المعارك وشراستها , مما يكشف عن انهيار سكّاني واقتصادي رافق كل ذلك . وقد نقلت أسطورة أخرى هي أسطورة ( دمار البشر ) كيف انّ الآلهة غضبت على البشر بسبب أعمالهم السيئة , وأرادت تدميرهم , لكنها لاحقاً عفت عنهم وحاولت استنقاذهم . وهناك وجهة نظر أخرى لتفسير هذه الاساطير , تحتاج الى تأمّل , بأن تلك الاساطير ربما لم تكن تشير الى الماضي , بل الى المستقبل .
وقد كان المصريون يعتقدون بوجود عوالم أخرى , مثل عالم (دِت Det) , وأنّ هناك مخلوقات ترافق الآلهة وتحظى بقوى خارقة خاصة . لكنّ المصريين كانوا يعتقدون انّ الملك وحده هو من يستطيع التواصل مع تلك الآلهة , باعتباره ابناً لها , لذلك كانت المنقوشات الاولى تظهره وحده من يبتهل الى الآلهة . ويبدو انّ سلسلة من الملوك احتفظوا بأسرار مهمة تتعلق بعلم التواصل مع العوالم الأخرى , استطاعوا من خلالها التأثير في الناس , وربما من خلال اتفاقيات سبقت هزيمة المخلوقات التي شاركت في المعارك الكبرى السابقة , تضمنت خضوعهم لإرادة تلك الحضارات غير البشرية , مقابل انتفاعهم بتقنيات خاصة , تنتجها تلك الحضارات , اثبتت فاعليتها في خضمّ الصراع . وربما لم يكن جمهور الناس متقبّلاً لفكرة التعامل مع المخلوقات التي كانت تحارب ضد (حورس) و (تحوت) , لذلك احتفظ الملوك بأسرارهم , وحاولوا الظهور بصورة اكثر نفعاً للناس . لكن مع مرور الزمن ومع ازدياد الاضطراب الفكري تغلغلت عقائد هؤلاء الملوك في الناس , وبدأت تظهر قدرة عامة للتعامل مع تلك المخلوقات , التي أخذت صبغة وعنوان الآلهة , في فلسفة دينية جديدة مخترعة ومبتدعة . لذلك يظهر في المنقوشات الاثرية اللاحقة انّ العامة من الناس يبتهلون الى الآلهة , وليس الملوك وحدهم .
ثمّ ظهرت رسومات ( الآلهة القزمة ) , التي هي مجموعة من الكائنات التي تتصف بصفات القزم , ذي الوجه الكبير والظهر الطويل والعجز القصير , كما جاء في الأساطير اللاحقة , مثل الآلهة (بس) و(عحا) و(توريس) , لكنّ هذه الآلهة القزمة كانت مع ذلك تستطيع ان تصل الى السماء ! . (( يَا بَنِي آدم لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أخرجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ))[6].
وقد وردت رسومات ( القرين ) في الكثير من النقوش المصرية الفرعونية , وهي فكرة متكررة وثابتة في العقيدة المصرية , كما في منقوشة الإله (حكاو) والملك (أمنحوتب الثالث) , ولا يمكن معرفة المعنى الذي قصده المصريون من ( القرين ) , وهل هو ذاته المعنى الذي ذكره القرآن الكريم في عدة آيات , مثل (( قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ )) , و (( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ )) , و (( وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ )) , و (( حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ )) , حيث يبدو انّ للسلوك البشري حاكمية على هذا الاختيار للقرين , كما في (( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ )) و (( وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخر وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا )) .
والأديان الإبراهيمية عموماً متفقة على وجود مخلوقات غير الانسان , لكنّها خفية ( الجنّ ) . فقد ورد في القرآن الكريم سورة كاملة باسمهم , ومنها يتضح انهم كائنات عاقلة مكلّفة , تعيش ذات التساؤلات التي يعيشها الانسان , وتهتم لقضايا كثيرة يهتم لها . لكن من هذه السورة التي فيها (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا )) يمكن معرفة انّ لهذه الكائنات القدرة على الاستماع لعالم الانسان , ومن خلالها يُعرف انهم تواصلوا مع عالم البشر باستمرار .
ان ملخص مفهوم ( القرين ) لغوياً – بغض النظر عن مكان وجوده داخلياً او خارجيا – أنه المصاحب للشيء والمرافق له بوجود تداخل ما بينهما .
وجود القرين ( الجنّ ) ربما لا يحتاج الى استدلال دينياً , حيث يرافق الانسان كما ورد في بعض النصوص القرآنية وبعض النصوص الحديثية , (( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ))[7]. لكنّ الآلية العلمية الفيزيائية لإيضاح هذه الحقيقة الدينية لا زالت غير تامة , رغم توصّل العلم الحديث الى خيوطها الفلسفية المادية الاولى . وقد أشار القرآن الكريم الى مفهوم الزوجية في نظام الكون كله (( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ))[8]. وفي مصر القديمة آمن المصريون بوجود القرين (كا) للآلهة او البشر[9].
ان نظريات مثل ( الاكوان المتوازية ) و ( الممرات الدودية ) في الفيزياء الحديثة , والتوصل الى اجسام مثل (النيوترينو) , ودراسة مبادئ الطاقة الكونية وتأثيرات الموجات الكهرومغناطيسية حول الارض , وغيرها , ربما تقود قريباً الى المعرفة التامة بحقيقة التواصل بين الانسان وعالم الجن , لكنّ الاقرب الى الفهم حالياً ان الآلية في ذلك تعتمد على الترددات والاهتزازات الموجية .
وعلى أية حال , الثابت من القرآن الكريم أن ( القرين ) من شياطين الإنس والجن الذين يدفعون الناس إلى معصية الله , وإلى طريق النار , وأنّ لكل إنسان قريناً يدفعه إلى هذا الطريق , وأن بعض الناس يستمعون إلى هذا القرين , ويمضون في طريق البعد عن منهج الله , وبعض الناس لا يستمعون إلى القرين ولا يبالون به , وبذلك يكونون من أهل الجنة .
لقد ضرب القرآن الكريم مثلاً عندما سأل شخص من أهل الجنة عن القرين الذي كان يوسوس له بالسوء , فاطّلع فرآه في سواء الجحيم , أي في وسط النار . ومعنى ذلك أن هذا القرين قد أخفق في أن يقود ذلك المؤمن إلى طريق الهلاك[10].
وأشار القرآن الكريم كذلك إلى التواصل بين شياطين الجن والإنس , وأن هناك اتصال من نوع غير منظور بينهم , ليتفقوا على محاربة الأنبياء وشرائعهم[11]. وليس الشياطين او الجن هم وحدهم القرناء بالإنسان , بل هناك الملائكة أيضاً , وبصورة دائمة , وبشكل اكبر[12].
لكن مع ضرورة ادراك انّ هناك مخلوقات أخرى خلقها الله كما نصّت الأديان الإبراهيمية , وهم ( الملائكة ) , الذين هم غير ( الجنّ ) هيئةً وتكليفا . حيث ( الملائكة ) جعلهم الله قوانين تتحكم في مجريات الكون , وربط وجودهم ب( العرش ) , و( العرش ) السماوي هو أصل كل شيء أنار بنور الله , بما فيه العلم , كما ورد عن أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب)[13].
و( العرش ) هو المقترن بتدبير الامر في الكون , أي القوانين الكونية , وحياة الإنسان , بما فيها القوانين الطبيعية , كما تم بيانه في بحث سابق ( بانثيون الأصنمة ) .
ومن آثار الباحثين , مثل (احمد سوسة) و(جرجي زيدان) و(ليونارد كينغ) و(ماسبيرو) , يمكن فهم انّ المصريين كانوا حصيلة لخليط من مجتمعينِ , احدهما ( ساميّ ) , هاجر الى مصر بحدود الألف الرابع قبل الميلاد , فيصبح القول بوجود أصل توحيدي للعقائد المصرية أمراً منطقيا , وتكون هذه الأساطير وليدة الحضارة الآدمية العراقية بدرجة كبيرة من القبول . ويرى الاستاذ (ليونارد كينغ) ان الساميّين الذين هاجروا بحدود الألف الرابع قبل الميلاد هم من نقل مصر الى العصر الحديدي , الذي عرفوا فيه الآلات واستخداماتها .
وفي الحضارة الفرعونية كان هناك دائماً (رع) , العين التي ترى كل شيء , وعوالم الجن . فقد عبد الفراعنة المصريون آلهة عديدة , وكلها ترتبط بالفضاء[14], على خلاف الكثير من الأقوام الوثنية المجاورة , الذين عبدوا اصناماً ترتبط بقوة الطبيعة او بشخصية مقدسة من الأسلاف . لكنّ (رع) كان واحداً من اهم الآلهة في حياة المصريين , ويرمزون له بعين ذات أبعاد محددة , ويمثّل إله الشمس , كان يعبده قدماء المصريين , بل إن اسم (رع) دخل في ألقاب الفراعنة مثل (رع نب)[15].
وتنقل بعض المصادر عن نصوص الأهرام الآثارية المكتشفة أنشودة للشمس , التي تردد فيها هوية الملك بأنه إله الشمس . إن هذه الأنشودة تخاطب مصر, في تعداد طويل للمنافع التي تتمتع بها, تحت حماية وسيادة ( إله الشمس ) , وعلى ذلك يمُنح فرعونُ مصرَ المنافع نفسها , ولهذا يجب أن يتسلم نفس الهبات من مصر , ولذا الأنشودة بأكملها تُعاد بوضع اسم فرعون أينما يجيء اسم (رع) أو (حورس) في الأنشودة الأصلية[16].
كان رمز ( العين ) يُستخدم كتميمة لطرد الشر وللشفاء في زمان الفراعنة , وامتد استخدامه حتى في ايام الرومان , وهذا الامر الاخير دليل على تأثير الديانة الفرعونية في المعتقدات الرومانية . والغريب ان هذه ( العين ) لازالت رمزاً لأضخم رموز العلم والصناعة والتطور المعاصرة اليوم !
ويصوّر ( كتاب الموتى ) كذلك تمتع الملك في قبره بكتب كثيرة , ومناظر حافلة تصوّر العالم الآخر , فتمثّله بين يدي (أوزيريس) , أو في صحبة إله الشمس (رع) , في زورق وسط حاشية من الآلهة , يبحر في أحد محيطات السماء , وهناك كانت كهوف تتعاقب الشمس على إنارتها , ثم يستعرض كتباً تعين الملك المتوفي -بما يحتشد فيها من صور- على معرفة ما يحيط ب( مركب الشمس ) , وتشرح له أسماء الآلهة ومن يسكن من الجنّ هناك.
فيما اتحد الإله (امون) او ( الخفي ) , والذي كان معبوداً لمدينة (طيبة) , مع الإله (رع) , المعبود الكوني الآخر في مصر , في صورة (امون-رع)[17].
وحكى (ابن العبري) ما نصه ( <ساروغ بن ارعو> ولد له <ناحور> وعمره على الرأي السبعيني مائة وثلاثون سنة , وعلى رأي اليهود ثلاثون سنة . وجميع أيامه ثلاثمائة وثلاثون سنة . ويقال أن <ساروغ> اظهر سكة الدراهم والدنانير , وفي أيامه اكثر الناس اتخاذ الأصنام , وكان الشياطين يظهرون منها الآيات الباهرة . و <ساميروس> ملك الكلدانيين أبدع المكاييل والموازين ونسج الإبرسيم واخترع الأصباغ . وقد جاء في الخرافات انه كان له ثلاث عيون وقرنان . وفي هذا الزمان <اوفيفانوس> ملك مصر صنع سفينة وغزا سكان السواحل . وبعده قام <فرعون بن سانس> , ومنه سميت الفراعنة )[18], وما يهم في هذه الحكاية هو ظهور الشياطين .
ويبدو ان هذه المعتقدات ظهرت بشكل مقارب في بلاد الرافدين ايضا , لكن بصورة محدودة مقتصرة على مجموعات ومناطق , كما جاء في خطاب النبي (إبراهيم) في القرآن الكريم (( يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ))[19]. وقضية عبادة الشيطان ليست بسيطة , بل هي معقدة مركبة (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ))[20].
فيما كان السحر شفرة الفراعنة , اذ يشير بعض الباحثين الى انّ مفردة ( ديانة ) لم تكن متميزة في المجتمع المصري , وأنّ كلمة (حكا hike) , التي تعني ( القوى السحرية ) , هي الأقرب لهذا المفهوم في ذلك المجتمع . وكانت هذه القوى مقتصرة في الأدب المصري القديم على الآلهة والملك الحي , لكن يمكن ملاحظة أنه في الدولة الوسطى أصبحت اكثر سرياناً في المجتمع العام , مما يعني انّ تعاليم الشفرات السحرية صارت متداولة ومتفشية ومقبولة , وذلك يستتبع انّ العقيدة التي تستند اليها انتشرت أيضاً كدِين عام للدولة , من خلال ازاحة العقائد الأولى الأقرب للديانة العراقية حينذاك .
لقد تضمنت نصوص الاهرامات في الدولة القديمة ونصوص الأموات في الدولة الوسطى و( كتاب الموتى ) في الدولة الحديثة الكثير من التعاويذ والتراتيل السحرية , التي كان هدفها التواصل مع الآلهة لحماية الميّت في رحلته ضمن العالم الآخر , رغم انها كانت في الأصل مكتوبة لحماية ونفع الأحياء .
وقد اعتقد المصريون انّ الآلهة تمتلك قوى خارقة , يشاركها الملك في ذلك نتيجة لمعرفته بعالم الأسرار الماورائية . لكنّهم اعتقدوا لاحقاً انّ المتعلّمين لهذه العلوم يمكنهم تسخير قوى الآلهة لصالحهم , حين يمتلكون قدرات معرفية اعلى من الآلهة المقصودة , لذلك رأوْا انّ الإله سوف يكون مسخّراً لخدمة ( الساحر ) الذي يمتلك تلك المعرفة الباطنية .
والمصريون اعتقدوا تماماً بوجود عالم آخر , غير منظور , وله وجود حقيقي , وهو فوق العالم الطبيعي في قدراته , ورأوا انّ التراتيل السحرية لها تأثير كبير في العالمين الطبيعي والماورائي . وآمنوا انّ ( الكلمة ) هي جوهر ( السحر ) , وأنها تؤثر فيما تُطلَق عليه , لذلك كانوا يختارون الأسماء بعناية , ويحذرون من نطق الكلمات التي يعتقدون بأنها تجلب اللعنة .
لكن الملفت انهم في كثير من منقوشاتهم المهمة جمعوا بين (حكا) , التي هي الشفرة السحرية , وبين (ماعت) , التي هي نواميس الكون وقوانينه , في إشارة مهمة جداً تدلّ على الترابط الوثيق بينهما , وهذا يعني أنّ السِحر كان في نظر المصريين تصرّفاً بفيزياء الكون , لولوج العوالم الأخرى , والتأثير في مجريات الحوادث , وليس هوىً ميتافيزيقياً أسطورياً .
ورغم انّ السِحر تحوّل الى طقس من طقوس العبادة في الديانة المصرية , إِلَّا انّ ممارسته ومستويات تلك الممارسة تتفاوت , فالسِحر لدى الملك في مستوى ارفع من السِحر لدى العامة . وفي المعابد كانت التراتيل السِحرية والتعامل مع الأرواح في العوالم الأخرى ترتبط بالكاهن المرتّل (xry hpt) , وهو كذلك يقوم بمعالجة الكثير من الحالات المرضية , حيث ارتبط السِحر في مصر القديمة بالطب , وكان العامة يحملون التمائم الشافية او الواقية .
وقد حمل السَحَرة في الدولة المصرية لقب (حري تب) , بمعنى ( مَن يقوم بالشعائر ) او ( الكاهن المرتِّل ) , فيما حملوا في الفترة المتأخرة لقب ( كتبة نصوص الآلهة ) , مما يعني توّغل العقيدة السِحرية في المجتمع الى الدرجة التي اُعتبرت فيها نصوصاً إلهية .
وقد وردت اسماء العديد من السَحَرة الذين كانوا يلمّون بثقافة عامة ومعرفة كبيرة , مثل (ديدي) و (چاچا ام عنخ) و (مري رع) , فيما نقلت احدى البرديات شغف (واس ام عنخ) ابن (رعمسيس الثاني) بالسِحر وبالآثار القديمة .
وكان الى جانب الكاهن المرتّل كاهن آخر بعنوان (وعب wab) , والذي يقوم بمهام خاصة في بيت الحياة (pr-anx) , الى جانب كاتب نصوص الآلهة . وكان السِحر بجزئين , احدهما شفهي , والآخر عملي . ويأخذ الاسم مركزاً محورياً في الممارسة السِحرية , حيث يتمّ تدمير صاحبه من خلال تركيز الطقس على المعرفة بالاسم .
ومن الطبيعي ان تحفل أساطير حضارة تقوم على الشفرة الباطنية بالعديد من قصص السِحر , وتسرد تلك الأفعال السِحرية الخارقة للآلهة . ومن هذه الأساطير (إيزيس – رع) و ( عقارب إيزيس ) و ( قصة الأخوين ) .
ومن هذه القصص ما جاء في بردية (وستكار) , التي تتحدث عن مجموعة من الروايات تمّ القائها بين يدي الملك (خوفو) باني الهرم الأكبر , والتي تدور حول قدرات ( الكاهن المرتِّل ) . حيث في احدى تلك الروايات تحدّث الراوي عن الساحر الكبير (چاچا ام عنخ) , الذي شقّ البحيرة الى نصفين , بارتفاع يصل الى عشرين ذراعاً , لاستنقاذ احدى مجوهرات مرافقة الملك (سنفرو) احد ملوك الدولة القديمة . وهذه القصة تكشف حقيقة ما قام به النبي (موسى) من معجزة , كانت جذورها ترتكز في العقل المصري للدلالة على الاعمال الإعجازية الكبيرة , (( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ ))[21], (( فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ))[22], (( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ))[23], وهذه النصوص القرآنية كاشفة عن ظاهرة خاصة في ذلك المجتمع الغريب عن الواقع الحالي .
اما أسطورة (إيزيس – رع) فتكشف عن أهمية معرفة الاسم الحقيقي للآلهة المفترضة , ومن ثمّ نطْقه للتمتع بمزايا خاصة يملكها ذلك الإله وحده , وقد استخدمت (إيزيس) ذكائها -حسب القصة- لخداع الإله (رع) والاستحواذ على قدرات مشابهة لقدراته .
وفي أسطورة ( عقارب إيزيس ) يبدو التركيز على القدرات الشفائية للآلهة , وهي تلامس الوجدان الشعبي , وتحاول ربط الناس بالآلهة , عبر افهامهم ضرورة الاستجابة لها والاحسان اليها , ومن ثمّ الاستفادة من قدراتها وتمائمها الخاصة .
وقد ارتبطت الرسومات السِحرية بديانة ( عبادة الشمس ) كثيراً , كما في الآثار المكتشفة , وبالتأكيد لم تكن هذه الديانة ترى في الشمس -بذاتها- إلهاً , لكنّ رمزية الشمس ربما كان لها دلالة أخرى تحتاج الى بحث , لأن المعتقدات المصرية كانت معقدة ولم تكن بدائية . حيث انّ ربط الأدوات والوسائل السِحرية كان ب( ربّ الشمس ) , لا بالشمس ذاتها كما يبدو , اذ انّه في رحلته يتعرّض لمخاطر متجددة يوميا .
الأمر الذي يثير التساؤل أيضاً هو ربط السِحر في مصر القديمة ب( الربّات الإناث ) او ( الآلهة الانثوية ) , بصورة اكبر من الأرباب الذكور , كما هي الإلهات (إيزيس , نفتيس) والإلهات (سخمت , حقات , سرقت , نيت) . ومع ذلك يمكن انّ تكون الترجمة التي اعتمدها الباحثون الغربيون -بفهمهم الذي يعاني إشكالاً فلسفيا- هي السبب في هذا التصوير , ففي حين كانت (إيزيس) و(نفتيس) آلهة بالمعنى الفلسفي المصري , لم تكن الإلهات (سخمت , حقات , سرقت , نيت) سوى قوى ووسائل او ظواهر فيزيائية حملت اللفظ المؤنث , وربما كانت (نيت) أيضاً لها أصل فلسفي ك(إيزيس) .
قد يعتقد البعض –تساهلاً– ان السِحر لا يعدو الممارسات والصور الخادعة لأعين واذهان الناس , لكنّ هذا ليس هو الواقع بكل تأكيد . ان الوقائع والحوادث التي تسبب بها الممارسون للسِحر على الارض تدحض كل الدعاوى الفقيرة ممن يعيشون ما تبثه عليهم دعوى التحضر والعصرنة من فرضية عدم وجوده . اما الأديان فقد اثبتت وجوده بكل تأكيد , دون استثناء , في اطار انتقاده وإظهار مساوئ اللجوء اليه , وكذلك شرحت الشرائع سبل مقاومة آثاره .
(( قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ))[24], والملاحظ في الآية أنها قسّمت السِحر الى انواع ومراتب ثلاث , وهي ذات المراتب التي اشار اليها الشهيد الفقيه (محمد محمد صادق الصدر) في كتابه ( ما وراء الفقه ) بتقسيمها الى ( سِحْر الأعين , الاسترهاب , السِحر العظيم ) .
وتتدرج المراتب تصاعديا , كما تتدرج معها تأثيراتها . فالأول ربما يكتفي بالخداع البصري , والثاني ينشأ في داخل الانسان المستهدف شيئاً من الخوف . اما الثالث فهو تحكّم فيزيائي بالكون , عن طريق مجموعة قواعد , كان القدماء من البشر يجهلون علّتها , رغم انهم يعلمون استخدامها , لذلك ادخلوها ضمن العلوم الغريبة وسموها ( السِحر الأسود ) , بينما اتخذتها أقوام أخرى كشرائع , فيما هي فيزياء وفق التوصيف المعاصر , لكنّ الإنسان كأنه طفل في الطبيعة لازال في بداية معارفه . ولكن تم زق هذه القواعد الفيزيائية من قبل مخلوقات سبقت بحضارتها حضارة الإنسان بآلاف السنين , وهي الجنّ , أو هي من بقايا علوم الأنبياء بنحو غير ضارّ تم تحريف استخدامه وتطويره , أو بقايا حضارة غير معلومة .
اذ لو عثر شخص ما في الالف الثالثة قبل الميلاد مثلاً على جهاز هاتف , يعمل بنظام الاندرويد , ماذا ستكون ردة فعله ؟ , او انه حصل على كاميرا (سوني) ؟ , فهو سيدخل كل ما وجده من أشياء ضمن منظومة السِحر , فيما يدخلها الإنسان المعاصر ضمن نطاق التقنية القائمة على الفيزياء , كذلك قواعد السِحر التي يجهل الانسان علّتها اليوم , فربما تكون علماً وتقنية مفهومة في المستقبل .
ويمكن الإحاطة ببعض أشكال وطقوس السِحر إجمالاً , وهو في كثير من الأحيان اتفاق بين الساحر وشيطان , في معظم الحالات يتم تعيين ما يصل الى اتفاق بين الساحر والشيطان , والتي تتطلب من الأول ارتكاب بعض الطقوس الوثنية , سواءً سراً أو علانية , والثاني يقوم بتوفير الخدمات التي يحتاجها الساحر , أو إرسال شخص ما للقيام بهذه المهمة عادة . يتم تعيين اتفاق يصل بين الساحر وواحد من رؤساء قبائل من الجنّ والشياطين .
ظلمات الكفر تغطي وجه الساحر مثل سحابة سوداء , وعند الاتصال بالمقربين منه يمكن اكتشاف أنه يعيش في البؤس النفسي مع زوجته وأولاده , وحتى مع نفسه , وأنه غير قادر على النوم بسلام في الليل بضمير مرتاح , وقد يستيقظ في كثير من الأحيان في حالة الهلع عدة مرات في الليل , وقد تقوم الشياطين بإيذائه شخصياً او إيذاء عائلته .
لكنّ الملاحظ أن على الساحر القيام بطقوس وثنية , او لا اخلاقية , او مخالفة للشرائع السماوية دائما , مما يؤكد ان الهدف منها -والذي ترتضيه الشياطين كثمن- هو انحراف الانسان وتلبّسه بثوب المعصية , فكثيراً ما يقوم ساحر ما بكتابة بعض الآيات القرآنية مع القذارة , وبعض الكتابة عليها باستخدام دم الحيض , او أداء كتابتها تحت أقدامهم .
ويؤكد بعض الخبراء المختصون بالممارسات السِحرية ان من أقواها السِحر الفرعوني , والسِحر الهندي . وهناك انواع تتعلق بالسيطرة على ارواح معينة , لأهداف خاصة , لا سيما ما يتعلق بالأرواح القوية . او يقوم السَحَرة احياناً بالتعاون مع الشياطين بالهجوم على بلدان محددة لأسباب دينية , كما اكّد حدوث مثل ذلك ضد العراق اليوم بعض العارفين والعلماء الدينيين .
كما ان هناك انواعاً سحرية تستخدم الشياطين من ( الجنّ ) لخلق الخمول في اشخاص معينين , ومن شأن الساحر ارسال ( الجنّ ) الى الشخص المستهدف , والايعاز له ليستقر في دماغه وجعله منطوياً على ذاته ووحداني . و( الجنّ ) يبذل قصارى جهده لتنفيذ المهمة , وأعراض هذا السِحر سوف تظهر , وفقا لنقاط القوة والضعف في الانسان .
فيما أن هناك من السِحر ما يستخدم ( الجنّ ) لغزو احلام الاشخاص , حيث أن الساحر يطلب من ( الجنّ ) أن يظهر لشخص ما في كل من الحلم والواقع , على شكل حيوانات وحشية والهجوم عليه , او يسمعه اصواتاً لا يسمعها القريبون منه . وتكون الأعراض من القوة والضعف وفقاً للغاية من السِحر . فإنها قد تزيد إلى حد الوصول إلى الجنون , وربما تقل إلى حدّ الوسوسة فقط . وفي بعض أعراض هذا السِحر يعاني الضحية من كوابيس , والمريض يسمع أصواتاً تتحدث اليه عندما يستيقظ , ولكنه غير قادر على رؤية مصدر هذه الأصوات , وقد يسمع المريض همساً كثيرا . فيما هناك سحر (الفودو) , الذي يأتي من القارة الافريقية , وهو قاتل للغاية حسب المنشورات , يتم باستخدام الدمى والإبر .
ان للسحر شرائعه وقواعده , وهي ترتبط بمنظومات الشياطين ومراتبها ومحافلها , وكل ذلك يستند ويعتمد على المسافة الحضارية الطويلة للجنّ وتقنياتهم العالية , والتي سبقت وجود الانسان بآلاف السنين , والنتيجة ان السِحر عِلم , لكنه لازال مجهولاً في الكثير من طرق الوصول اليه , ويحتاج الى عمر حضاري كعمر أقوام ( الجنّ ) في دراسته .
والملفت في عالم السِحر والحضارات التي تستخدمه ارتباطه بصورة الآلهة الحيوانية والرموز الهجينة , كما في حضارة مصر الفرعونية وحضارات الهند الباطنية . فيما يُلاحظ انّ سحر (الفودو) الأفريقي , الذي يستخدم الدمى والإبر والسكاكين للطعن , هو ذاته الموجود في الرسومات المنقوشة على الآثار الفرعونية المصرية .
وقد اقرّ القرآن الكريم بصورة واضحة انّ القدرات الخاصة لكهنة الفراعنة كانت سحراً (( فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِحر إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ))[25].
والمعتقدات الوثنية نابعة عن اصل واحد , ومتجهة نحو هدف مشترك . فالاعتقاد بآنيّة وارتجال وسوسة الشيطان امر خاطئ , فليس هكذا هو المنهج الشيطاني حسب الاستقراء , بل ان للشيطان وجنده خططاً وإستراتيجيات مدروسة وبعيدة المدى , تطبّق بشكل تدريجي , بالاعتماد على التطور الذي يمتلكونه . وهذا ما أشار اليه القرآن الكريم في عدة آيات تكشف كيف أن الشيطان أضل أقوام (عاد , ثمود) وغيرهم بعد أن كان كثير منهم على الهدى , واستخدم لذلك أساليب التزيين التدريجية المخادعة[26].
ومن المعتقدات الدينية للجن , أن ( عبادة الشيطان ) لم تكن مقتصرة على الفراعنة وحدهم , او بني الانسان فقط , بل هي خدعة كبرى خدع بها (ابليس) حتى بني قومه من ( الجنّ ) . فإنّ فكرة ابن الله وزوجته سبقت في عالم ( الجنّ ) قبل الانس , ثم سربها ( الجنّ ) الى بني البشر مقابل اغراءات مادية . فيُلاحظ في ( سورة الجنّ ) القرآنية ان قوم ( الجنّ ) -الذين استمعوا الى القرآن الكريم- انكروا مباشرة فكرة الصاحبة والولد , وهذه الفكرة هي اساس كل العقائد الوثنية في الارض , رغم اختلاف تفاصيلها , لكنها جميعا تشترك في هذه الجزئية , والتي تسربت لاحقاً الى المسيحية المحرفة[27].
وفي الاستشراف القيادي النبوي , والتمهيد الإلهي , حكَمَ الهكسوس -العموريين الموحِّدين و الكنعانيون- مصر عدة قرون , وأزالوا السلطة الفرعونية الشيطانية , وصادف في تلك الفترة نشوب الصراع بين ( الإيليين ) , الذين يعبدون (ايل) او ( الله ) , وبين عباد (سين) أو ( إله القمر ) في المملكة الرافدينية , هاجر على اثرها النبي (إبراهيم) باتجاه (حرّان) في تركيا الحالية , ثم الى ارض كنعان . والنبي (إبراهيم) كان حامل راية التوحيد , المتوجهة لضرب اوكار الابالسة واستباق ضرباتهم , فسكن ارض كنعان , ولأنهم -رغم وثنيتهم- كانوا متأثرين ب( الايليين ) , فقد رحّبوا بالنبي (إبراهيم) . ولما رأوا سموّ اخلاقه اكرموه وجعلوا له سلطة ومكانة , وكل ذلك بتخطيط الله وعنايته , رحمة بالخلق الغافلين . ثم ذهب النبي (إبراهيم) الى مصر , فاستقبله ملكها وزوجته , وأهدوا له المرأة العمورية الموحِّدة (هاجر) , وليست المصرية الفرعونية , بعد ان آمنوا بنبوّته وكرامته , وحصل التواصل بين الجهتين .
الخطوة الاهم في حياة النبي (إبراهيم) انه زرع نواة مجتمع يمكن تسميته ( المجتمع الايماني البديل ) , من خلال زوجته (هاجر) وولده (اسماعيل) , الذين اسكنهم بعيداً عن أرض كنعان , قرب مجتمع آخر سيكون له دور مهم في المستقبل , هو مجتمع (بني قحطان) أو (سبأ) , عبر قبيلة (جرهم) , التي ترجع ويرجعون الى نبي الله (هود) .
خلف النبي (إبراهيم) ابنه النبي (إسحاق) , ثم حفيده النبي (يعقوب) , ثم حدث ما كان ينتظره الابالسة , بعد ان خنق النبي (إبراهيم) والايليون صوتهم سابقا , حين دبّت الأنانية في ابناء النبي (يعقوب) , فعرف الشيطان كيف يمكن له الدخول لاختراق هذا المجتمع الايماني الجلي الوحيد تقريباً على الارض , فجرى ما جرى بين النبي (يوسف) واخوته , حتى انتقل النبي (يعقوب) وابناؤه الى ارض مصر , فمنحهم ملك العموريين افضل أراضيها , فتكاثروا , حتى ذهب النبي (يوسف) الى ربه , وجاء ملوك ضعفاء من الهكسوس , وعادت الحرب مع الفراعنة , لينتصر الفراعنة ويحكموا مصر مجددا .
كان الأنبياء (إبراهيم) و(يعقوب) يستشرفون المستقبل ويدركون القادم , ويعلمون مقدار تأثير سِحر المعتقدات الفرعونية في حال انهار الهكسوس وعاد الفراعنة الى الحكم , لذلك جمعوا أبناءهم , وأوصوهم , وبيّنوا لهم حقيقة الرب الخالق , في خطوة قلّما فعلها احد من الأنبياء قبلهم , ذلك انهم ادركوا مقدار الشبهة التي سيوجدها مفهوم ( الربّ الفرعوني ) على ( العقل الإسرائيلي )[28].
ان الدول الاساسية التي رافقت حركة النبي (إبراهيم) في المنطقة كانت أربعة , البابلية , وبدايات الدولة الآشورية , والدولة الفرعونية المنهارة , ودولة الهكسوس . وكانت هناك حضارات وأقوام قريبة وبعيدة موزعة على خارطة العالم حينذاك .
والدولتان البابلية والآشورية كانتا وليدتي الحضارة السومرية ووريثتيها , وبدرجة ما كانت كذلك حضارة دولة الهكسوس , ومن هنا كانت هذه الدول تحمل بعض الخصائص الباقية من رسالة النبي (نوح) .
اما الحضارة الفرعونية فكانت اقل تأثراً ببقايا ارث النبي (نوح) . فيما باقي الحضارات كانت بصورة عامة ذات وثنية جلية , الا ان تأثير الاتصال بالسومريين , الذي وصل الى حدود الصين وشرق افريقيا , انتج حلقات اولى لتغلغل العقائد الإبراهيمية لاحقا .
وقد اثبت التأريخ –في مفارقة كبيرة– ان ارض العراق لم تتأثر بعقائد المحتلين مهما كانوا , لكنّ المحتلين هم من تأثروا بعقائد العراقيين , وهذا ما يؤيد أنّ جوهر الديانة العراقية التوحيدي قائم على الحجة التي خلّفها تأثير النبي (نوح) , ثم النبي (إبراهيم) .
انّ الهكسوس -الذين اطلق عليهم العرب اسم (العماليق)[29] – كانوا خليطاً من العموريين (الأموريين) والكنعانيين[30], وكانوا على الأرجح تحالفاً عسكرياً , تربط بين شعبيه الأواصر العراقية الأصل , لكنهما كانا ربما يختلفان في العقيدة , ففي حين كان العموريون موحدين , كان الكنعانيون -حسب بعض المصادر- يتخذون آلهة .
وكما هو واضح من آثارهم كان العموريون يعبدون (ايل) , الذي فهمه الباحثون الغربيون -كعادة فهمهم القائم على فكرة مسبقة- على انه إله صنمي , فيما هو لم يكن سوى لفظ قديم للإله الواحد (الله) . ولا يحتاج إثبات ذلك الى جهد وعناء كثير , حيث لازالت الأسماء الواردة في النصوص الإبراهيمية تحمل -الحاقاً- هذه المفردة , في اسماء مثل (اسرائيل) و(ميكائيل) و(عزرائيل) و (إسرافيل) و (جبرائيل) , الذين هم من خلق الله الصالحين من بشر وملائكة , والمقدّسين في العقيدة الإبراهيمية التوحيدية . وقد ورد في اسماء ملوك الهكسوس العموريين الملك (يعقوب ايل) , وكما هو واضح فقد جمع بين نتيجتين يفيدان كدلائل لما تم ذكره , حيث الاسم (يعقوب) , الذي هو من اسماء العراقيين القدماء في الفترة الإبراهيمية , وكذلك لفظ (ايل) الدالّ على الإله الواحد[31]. وقد ورد أيضاً في كتاب ( مفاتيح الجنان ) -الذي ينقل الادعية الواردة عن أهل بيت النبي محمد- في دعاء (السمات) ما نصّه ( وبمجدك الذي تجلّيتَ به لموسى كليمك في طور سيناء , ولإبراهيم خليلك من قبل في مسجد الخيف , ول(إسحاق) صفيّك في بئر شيع , وليعقوب نبيّك في بيت ايل ) . وقد ورد أيضاً في حضارة مدينة (سمأل) كإله للآراميين أيضاً[32], مما يدلّ على انتشار هذه العقيدة الإبراهيمية بين العراقيين بقوة , وهو ما سيكون الطرف الآخر في صراع الحضارتين , ومنه يمكن معرفة سبب الهستيريا التي اصابت الجيش الفرعوني وجعلته يلاحق الهكسوس حتى حدود العراق , رغم انّ هذا الجيش لم يسبق له فعل ذلك[33].
وقد رأى بعض الباحثين انّ هجرة النبي التوحيدي الكبير (إبراهيم) الى مصر كانت خلال حكم الأسرة الفرعونية الثانية عشر , لتقاربها مع زمن حكم الهكسوس لمصر , حيث اعتقد الباحثون انها حكمت في حدود ١٨٩٧ الى ١٨٤٠ ق م , فيما حكم الهكسوس منذ ١٧٨٥ الى ١٥٨٠ ق م . لكن يمكن رفض ذلك مطلقاً , حيث هو مخالف للمنطق التاريخي للحدث , كما انه لا يقوم على أسس اثرية دقيقة . من هنا يمكن القول انّ هجرة النبي (إبراهيم) كانت متزامنة مع حكم اول ملوك الهكسوس , وهي فترة متقاربة جداً مع التاريخ الذي يراه معظم الباحثين . كما انّ ظهور أبناء النبي (يعقوب) في مصر , والمكانة التي حازوها , ومن ثمّ استعبادهم بعد انهيار الهكسوس من قبل الأسرة الفرعونية الثامنة عشر , يكشف عن منطقية هذا الرأي . ويمكن ملاحظة انّ مؤرخين آخرين لهم تواريخ غير التي رآها غيرهم , فمثلاً المؤرخ (ماسبيرو) في كتابه ( تاريخ المشرق ) يرى انّ احتلال الهكسوس لمصر كان في حدود ٢٣٠٠ ق م , فيما خروجهم كان بين ١٧٠٠ الى ١٦٥٠ ق م , ويرى انهم حكموا اكثر من خمسة قرون .
ومن لطيف التعبير القرآني , لتمييز هذه الفترة من تاريخ مصر عن الفترة الفرعونية السابقة والفترة الفرعونية اللاحقة , انه لم يذكر لفظ (فرعون) كلقب للحكّام في فترة الهكسوس , بل استخدم لفظة ( الملك ) , بما يتناسب والطريقة العراقية في الحكم . حيث اراد ان يثبت حقيقة الاختلاف بين الحضارتين[34].
فيما كان المجتمع الفرعوني السابق على الهكسوس –أي من المصريين– يؤمن بزواج المحارم , لذلك هو لم يكن ليتأثر بعفة النبي (يوسف) , وكذلك كان المجتمع المصري الفرعوني يعتمد كلياً على نبوءات السَحَرة عبر شريعة (كبّالاه) , فهو لن يقتنع بتأويلات النبي (يوسف) , وهو ايضا مجتمع هرمي عائلي لا يسمح بدخول عناصر غريبة الى السلطة , ولم يكن النبي (يوسف) حينها سيستطيع ان يكون ( عزيز مصر ) او وزيرها . لكنّ الله مهّد لبني اسرائيل دخول مصر عبر غزو الهكسوس لها , فقد آمن احد ملوكهم السابقين بالنبي (إبراهيم) , وأهداه المرأة الصالحة (هاجر) , لتكون امّاً لابنه النبي ((اسماعيل)) , ومن ثم آمن احد آخر ملوكهم بالنبي (يوسف) والنبي (يعقوب) . وقد كان ملوك الهكسوس -بين الملكينِ- في صراع طويل مع كهنة الديانة الفرعونية المصرية (كبّالاه) , ومع معتنقيها من عامة الشعب المصري , وكذلك كانوا في حرب دائمة مع السلالات الفرعونية في ( الجنّ )وب . وقد تحالف الهكسوس مع ملوك (النوبة) ضد الفراعنة .
ثمّ بعد ذلك انهار الهكسوس أمام الفرعون المصري (احمس) مؤسس السلالة الثامنة عشر , والذي طاردهم حتى بلاد الشام , حيث قضى عليهم في معركة (مجدّو) الفاصلة في حدود عام ١٤٧٩ ق م [35].
وبدأ الفراعنة حينها مرحلة استبداد واستعباد لعنصر الساميّين , الذي كان ممثّلاً ببني اسرائيل في الغالب , حيث هم من ذرية الأنبياء ومن ذراري أصحابهم , والتي تكون مناسبة جداً للمرحلة الاولى في إبادة الأديان التوحيدية الإبراهيمية المخالفة للديانة المشفّرة الباطنية الفرعونية , فصاروا يذبّحون ابناءهم ويستحيون نساءهم , واستخدموهم في الاعمال الشاقّة , واتخذوا منهم لأعمال السخرة ونظام العبودية , في مرحلة ثانية لكسر النفس التوحيدية الساميّة , ومن ثمّ إبهارها بالمادية الفرعونية . لذلك استخدم القرآن الكريم في هذه المرحلة – التي ترافق قصة النبي (موسى) – لفظ (فرعون) للتعبير عن حكّام مصر[36].
ورغم انّ الأسرة (الطيبية) الفرعونية التي قاتلت الهكسوس هي السابعة عشر , الا انّ الأسرة التي تولت الحكم تماماً بعد خروج الهكسوس هي الثامنة عشر , التي أسسها (تحوتمس) . والمثير ان يختفي البناء الهرمي في هذه المرحلة , وهو عصر الأسرة الثامنة عشر[37], كما انّ احد ملوك هذه الأسرة ترك عبادة الفراعنة وتوَّجه لدِين توحيدي هجين , والالتزام بإله واحد , هو إله الشمس (اتون) , وأطلق على نفسه لقب (اخناتون)[38]. وهذا يكشف عن مدى الأثر العقائدي والفكري الذي تركه الهكسوس الساميّون ومَن رافقهم من الأنبياء والمفكرين , رغم خروجهم مهزومين عسكريا .
لكن عاد كهنة الديانة المصرية القديمة للثورة على ديانة (اخناتون) , وحرّكوا الجمهور والقادة , لتعود عبادة (امون) المصرية القديمة رغماً على خلفاء (اخناتون) . الا انّ مصر لم تستقر فكرياً او عقائدياً بعد ذلك , رغم قيام اول امبراطورية في تاريخ مصر[39].
لكنّ المصريين من الفراعنة في الأسرة الثامنة عشر , الذين أبادوا كل اثر للهكسوس , أبقوا على المعابد الوثنية لبعض الساميّين في (منف) وفي حيّ الحيثيين , بل انهم اعتبروا الآلهة الوثنية الكنعانية (عشتارت) ابنة للإله (بتاح) , فيما قرروا انّ (عنات) من بنات الإله الكبير لديهم (رع) . وذلك يكشف بوضوح عن حقيقة الصراع الذي دار بين الفراعنة وبين الهكسوس , حيث هو صراع ديني , بين عقيدة التوحيد والعقيدة الوثنية الشيطانية , الى جانب كونه صراعاً حضاريا , خصوصاً انّ المصريين أبقوا على كل المعابد الوثنية في سوريا بعد احتلالها حين طاردوا الهكسوس , بل انهم قد احترموا تلك الآلهة وقدّسوها كجزء من منظومة الآلهة المصرية ! . ومن الغريب ان رؤية ملك منتصر يعمل بانتقام هو (رمسيس الثاني) يسمّي ابنته باسم آلهة العدو ! , حيث اطلق عليها ابنة (عنات)[40].
ويبدو واضحاً من الشغف الذي عاشه الامير (خع ام وا ست) – ابن الفرعون الشهير (رعمسيس الثاني) , اهم ملوك الأسرة الثامنة عشر التي طاردت الهكسوس وأرادت ابادتهم – انّ البعد الديني لدى هذه الأسرة الفرعونية المنتصرة كان مركزياً وحاكماً على ما سواه . فهذا الامير – الذي اشتهر بعلمه الغزير بالديانة المصرية القديمة – قد أعاد ترميم اغلب آثار الاجداد من الفراعنة القدماء . فيما كان الأخ الذي خلف (خع ام وا ست) في ولاية العهد وهو الامير (ومرنبتاح) قد وصل الى مرتبة الكاهن الأعظم للإله (بتاح) , وكان يقوم على طقوس الإله ( العجل ) (أبيس) .
ومساهمة الهكسوس في تغيير مصر الفرعونية , وخلق هالة ايمانية , كانت كبيرة . اذ نقل الهكسوس , العموريون وحلفائهم الكنعانيون , مجاميع سومرية عديدة الى ارض مصر , مما سمح لاحقاً بتغيير فكري واعتقادي كبير , تكفّل به الزمن . ومما يؤيد ذلك ان سكان مصر الفرعونية كانوا من النوبيين والزنوج , لكن بعد عصر الهكسوس بدا واضحاً تواجد العنصر الساميّ الرافديني في مصر . والواقع انه تم القضاء على حكم الهكسوس في مصر , على يد الملك (احمس الأول) , ولم يتم القضاء على نفوذهم الثقافي فيها[41].
غير أن العقبة الوثنية لعبت دورها في عرقلة جهود العموريين . حيث ان المجتمع الفرعوني المصري كان يشكّل اخطر العقبات التي تواجه نشر العقيدة الايمانية الإبراهيمية , لأن ذلك المجتمع كان في الواقع يعبد (الشيطان) , وكان يعتمد شريعة (كبّالاه) السِحرية , ويمارس طقوس السِحر الاسود[42].
ان المجتمع الفرعوني كان بحاجة الى الهجرة الايمانية , التي تزيل عنه الدنس وغبار الاوثان , وتوقظه من غفلة الجهل بالربّ الحقيقي . لذلك كان على بني اسرائيل ان يهاجروا , وسُنّة الهجرة البلاء , فحدث القحط في أرض كنعان , وتوجه اخوة النبي (يوسف) الى ارض مصر , كباقي الأقوام المحيطة , فعرفهم النبي (يوسف) , وخطط لتنفيذ مهمة الرب , ونجح – عبر استغلال دِين ملك الهكسوس – ان يثبت حقوقه , التي صادرها القريب قبل البعيد , وتاب اخوته , فطلب من ملك الهكسوس ان يستقدم بني اسرائيل الى مصر , فرحّب الملك بأولياء الله من آل النبي (يعقوب) , وأسكنهم احسن ارضه , وأكرم مثواهم .
وبدأ انهيار مجتمع بني إسرائيل بعد سقوط دولة الهكسوس العراقيين , حين كان الفراعنة حينها اقوى لسببين , أنهم عرفوا العربة الحربية عن طريق الهكسوس , وأنهم اسقطوا اهم القوى المنافسة في المنطقة[43], فكان على بني اسرائيل (يعقوب) ان يدفعوا ثمن علاقتهم بالهكسوس , فاستعبدهم الفراعنة وأذلّوهم . خصوصاً حين توفرت في بني اسرائيل صفتان مهمتان يحبهما الشيطان ,الأنانية , وأمراض الاستعباد النفسية , فتأثروا كثيراً بشريعة (كبّالاه) المصرية , ووجدوا فيها ضالّتهم , وكذلك وجد الشيطان جنوداً ورجالاً كان يبحث عن مثلهم .
وكان للفترة التي اعقبت انكسار الهكسوس في مصر اثرها على المجتمع الاسرائيلي , الذي فيما يبدو لم يكن قد شارك في مساعدة الهكسوس , لذلك هو لم يهاجر معهم خارج مصر بعد الانكسار , لذلك يمكن القول انّ هذا المجتمع فقد الهوية منذ وقت مبكّر .
نعم , لقد خضع المجتمع الاسرائيلي للاستعباد من قبل الفراعنة , كضريبة لاشتراكهما في الأصل (السامي) والعقائدي التوحيدي . وبالتالي اسهم الاسرائيليون في خدمة المشاريع الفرعونية بصورة كبيرة .
وفي مصر انقسم بنو اسرائيل الى طائفتين , يتبع كلّ واحدة منهما طائفة أخرى , الاولى من الباقين على إيمانهم الإبراهيمي , تتبعها فئة تعتقد بما عليه الاولى , لكنّها علمانية دنيوية , والثانية مفتونة بالسِحر والشريعة الفرعونية , تتبعها فئة صارت تبحث عن الله بوسائل فرعون .
ورغم احتدام الصراع بين الطائفتين الاولى والثانية , لكنّه لم ينتهِ بوضوح , بل استمرّ , حيث يقود الطائفة الاولى الأنبياء والصالحون , فيما يقود الطائفة الثانية أيضاً من صوّروا أنفسهم كقادة دينيين , يعرفون اسرار ما جاء به الأنبياء , او ما جاء به النبي (موسى)[44].
حتى انتهى الصراع الى سيطرة الطائفة الثانية , من السَحَرة , لكن بعنوان الطائفة الاولى , بمعنى أوضح أنه تمت سرقة الديانة التوحيدية من قبل كهنة الإسرائيلية الفرعونية الجديدة , وهذا ما أغضب الرب منهم كثيراً كما هو واضح في معظم أسفار الكتاب المقدس .
لذلك لم يكن الشعب اليهودي -حتى اليوم- قادراً على معرفة مَن يكون , او الى أين يتِّجه , ولماذا هو معادٍ لهذا الكم من الامم , انهم فقط كهنته الذين يدركون بعض ما يجري .
فبرز فرعون و(هامان) و(قارون) , كثلاثية العالم الجديد . فالشيطان ادرك اللعبة , وتنبّه الى اخطر تحالف من الممكن ان يغيّر مسار البشرية لصالح ارادته , فقرر بناء العالم الشيطاني الجديد . والعالم الجديد الذي يخدم رغبات الشياطين هو القائم على تحالف الفرعون و(هامان) و(قارون) , وهو ثلاثي كان فيه فرعون يمثّل السلطة المتواصلة مع العالم الآخر , و(هامان) يمثّل الاداة التنفيذية والعلمية , و(قارون) يمثّل الكيان المادي الشره للمال والثروة واللذات . وتم اختيار (قارون) لهذه المهمة لأسباب ذاتية وموضوعية , فهو يحمل خصائص الأنانية التي انحدرت بالمجتمع الاسرائيلي , كما انه عنصر داخل المجتمع الايماني الإسرائيلي المعادي للمجتمع الفرعوني , وهو ايضاً قريب من العائلة الابرز والاهم في مجتمع بني اسرائيل الموحِّد , فهو اذاً ابن المجتمع الديني والمرجعية الدينية لمجتمع بني اسرائيل[45]. فكان (قارون) احد اهم الاسباب لاختراق المجتمع الايماني الاسرائيلي , وقد كان تملّكه من قبل الشيطان يمثّل الباب الذي خرج منه المئات , بل الآلاف , من الذين يحملون صفة (قارون) في المجتمع اليهودي المعاصر , والذين يؤدون ذات الدور , حيث يمهدون لقدوم ( الدجّال ) . ومن لطيف الروايات التي تربط اساليب القارونيين قديماً بأساليبهم حديثاً أن (قارون) أثار بني إسرائيل ضد (موسى) , حتى لا يدفعوا له الزكاة , واتفق معهم أن يتهموا (موسى) في شرفه , اذا أصر على أخذ الزكاة منهم , وذلك عبر ارسال إحدى بائعات الهوى اليه لتتهمه أنه اعتدى على شرفها , لكنّ (موسى) دعا عليهم فأخذهم العذاب[46]. والقارونيون اليهود اليوم لا يمثّلون اعلى سلطة على الارض , فالسلطة لازالت تحت ايدي الفراعنة المعاصرين , مدعومين بمؤسسات (هامان) الضخمة , وهي مؤسسات علمية وصناعية وعسكرية[47].
فكانت بعثة (موسى) ضرورية لعلاج ذلك المجتمع , وكانت الفترة بين نزول النبي (إبراهيم) الى مصر وبين ظهور (موسى) بحدود الثلاثة قرون , تغيّر خلالها المجتمع الاسرائيلي بصورة كبيرة . حيث انحرف المجتمع الاسرائيلي , الا انهم لا زال فيهم الكثير من المؤمنين , ولا زالوا المجتمع الايماني الاكبر في العالم , فكان من الضروري ان يستنقذهم الله من براثن فرعون و(هامان) وجنودهما , ويريهما ويُري بني اسرائيل من آياته , فبعث فيهم (موسى) ,الا ان مهمة (موسى) كانت صعبة ومضاعفة , لأنه سيواجه فرعون ومِنْ خلفه الشياطين , وكذلك عليه ان يبيّن لبني اسرائيل حقيقة ما يجري .
لكن لماذا يتأثر مجتمع مؤمن بعقيدة وثنية ؟ او لماذا تأثر مجتمع مؤمن بشريعة شيطانية ؟ وماذا كان على (موسى) ان يبين ؟ , المسألة معقدة فلسفياً , فالشريعة الفرعونية تدّعي ان الانسان كان متوحداً مع الإله في البدء , ثم انفصل عنه في مرحلة لاحقة , ولو اراد الانسان ان يعود ليندمج مع الإله فعليه ان يمارس طقوس (كبّالاه)[48].
والشياطين قد وضعوا للسالك في هذا الطريق المزيف مجموعة من الهدايا , القائمة على اساس لعب فيزيائية , يمكن تسميتها باختصار ( السِحر ) , لكنه ليس سِحراً بالمعنى العرفي , بل هو خليط من الفيزياء ودمج العوالم . وقد وردت الإشارة الى ذلك في القرآن الكريم (( سحروا اعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ))[49].
كما يمكن لنظرية ( الاوتار الفائقة ) في الفيزياء ونظرية ( الاكوان المتوازية ) تفسير الفكرة الاساسية للكلمات المقتضبة أعلاه , حول الاسس العلمية للاعتقادات (الكبّالية)[50].
والعقيدة الفرعونية[51]والنظريات العلمية في الفيزياء النظرية المعاصرة جميعاً تفترض وجود عدة عوالم في الكون , غير هذا العالم , وبقوانين غير قوانينه , والمسلمون يقرّون بوجودها منذ البداية , ومنها عالم ( الجنّ ) بقوانينه .
وفي الفكر الشيعي الإمامي هناك تصوير لعوالم الطاقة في الخلق بشكل هرمي , فالله قد اوجد عدة مستويات للطاقة , يساوي عدد العوالم التكاملية التي اوجدها , بمعنى ان هناك مجموعة عوالم , الاعلى منها يكون حاكماً على الادنى , وهكذا , فهناك ( عالم الجبروت ) , وهو اعلاها , وهناك ( العالم الأوسط ) , وفيه مستوى ( الجنّ ) للطاقة , وتحكمه علوم السيمياء والهيمياء وما شابهها , وهناك ( عالم الدنيا ) , وهو عالم الانس , وتحكمه قوانين الفيزياء والكيمياء وما شابهها , ويقال ان هناك عالم ادنى من الدنيا يسمى ( عالم الظلام ) , له فلسفته الخاصة , ويسكنه مستوى متدني من ( الجنّ ) او المخلوقات المتشابهة معهم .
والذي يهم من ذلك هي فلسفة الطاقة كيف تكون ؟ . حيث ان ( عالم الجبروت ) فيه اعلى مستوى للطاقة , لكنّ الوصول اليه يتطلب اخلاصاً عالياً ايضاً ودرجة كبيرة من الرياضات الروحية , لذلك يجده البعيدون عن الله طريقاً صعبا , فيحاولون التواصل مع العالمين الآخرين , الاوسط والظلام[52], لكي يحصلوا على مستوى اعلى من الطاقة , يمكّنهم من التسلط على البشر , ولكي يحققوا مآرب دنيوية واضحة للجميع , ومن هؤلاء البشر ( الكبّاليون ) , اصحاب شريعة (كبّالاه) امثال الفراعنة .
بينما يحاول المؤمنون المخلصون ان يصلوا الى اعلى مستوى من الطاقة النقية في ( عالم الجبروت ) , والذي هو عالم الملائكة , وهنا يكمن الاختلاف بين اصحاب الكرامات من العارفين والعابدين , وبين اهل السِحر , لكن يختلط الامر غالباً على البسطاء والحشوية , كما اختلط على بني اسرائيل[53].
كذلك يمكن استشفاف دليل قرآني على هذه المدعيات التاريخية , فعندما ارى (موسى) سحرةَ فرعون حقيقة القدرات الشيطانية للفرعون وجنوده , ادرك السَحَرة انفصال عالم الآخرة عن مجريات الاحداث الدنيوية , وهذا الامر يعني ان مفاهيمهم السابقة كانت تتصور عالم الآخرة بأنه ذلك العالم الذي تنقلهم اليه قدرات الشياطين , وهو عالم دنيوي , لكنه ليس ارضياً , لكنّ (موسى) جعلهم يدركون وجود عالمين منفصلين من ناحية القوانين والعمل , فتبيّن لهم حقيقة الخديعة الشيطانية , والتي صوّرت لهم الآخرة من خلال صور عوالمية موهومة . (( قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِحر فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى . قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ))[54].
وبصورة عامة يمكن موافقة ما كتبه الباحث (محمد حسن المبارك) من أن بني إسرائيل -بعد اقامتهم لعدة قرون في مصر- تأثروا بالثقافة المحلية الفرعونية المصرية , وحين خروجهم من مصر نقلوا الكثير من تلك الثقافة وخلطوها بمعتقداتهم اليهودية , لا سيما التعاليم السِحرية التي نقلوها من جيل الى جيل بصورة شفوية والتي عُرفت باسم تعاليم (كبّالاه) , فتم تحريف التوراة تدريجيا , بإضافة صفات إنسانية ضعيفة الى الربّ , وجعلوه إلهاً لهم فقط , حتى تصوروه إلهاً مادياً , وطلبوا أن يروه , ثم بالغوا في تلك المادية واتخذوا ( العجل ) إلهاً كما كان يفعل الفراعنة , ثم تسربت اليهم ( عبادة الشيطان ) الفرعونية شيئاً فشيئاً , بصورة مباشرة او غير مباشرة , لاسيما ادخال الإله الشيطاني (ست) في تعاليم (كبّالاه)[55].
وكانت وظيفة النبي (موسى) مضاعفة , اذ كان عليه ان يأتي بآيات تفوق ما عليه مستوى السِحر الحاكم في ذلك الزمان , فتحويل العصا الى ثعبان امر طبيعي حينها , لكن من غير الطبيعي اختفاء ما ابتلعته الافعى الموسوية كلياً عن عالم الخلق , وهذا ما ادهش السَحَرة الذين جاء بهم فرعون , فقد كانوا يظنون –عقائدياً- انهم في الطريق الى الاندماج بالإله – وفق علوم (كبّالاه) – حتى ايقظهم (موسى) , ولولا شهادتهم لكان من الصعب على (موسى) اقناع بني اسرائيل , فضلاً عن المصريين وفرعون[56].
فإمكانيات النبي (موسى) غير امكانيات سحرة الفراعنة , رغم أن السِحر بلغ في مصر الفرعونية شأناً عظيما , وصار التواصل مع الشياطين فلسفة حضارتهم , لكنّ قدرتهم لم تتجاوز الحد الذي بإمكان (موسى) إبطال تأثيره . وفي حين كان للفراعنة القدرة على ايهام الناظر بخلاف واقع الاشياء , اعطى الله لنبيّه (موسى) سر الحياة في عصاه , رغم ان (موسى) ربما خلط بين الظاهرينِ , فأوجس خيفة في كثير من الاحيان , والله العالم . فقد أشار القرآن الكريم الى تحوّل العصا بكل كيانها وكينونتها الى حية تسعى , فلم تعد عصا , بل هي حية , بمعنى ان حقيقتها الجديدة اصبحت كذلك[57]. وفي آيات قرآنية أخرى تحولت حقيقة العصا الى ثعبان , واقعاً لا تمويهاً . فيما كانت اليد بيضاء للناظرين , لا في الواقع . لكنّ الملأ من قوم فرعون – وهم النخبة – اصرّوا على ان ما جاء به (موسى) كان سحراً , رغم انهم ادركوا انه ناتج عن علم جديد , يفوق ما لديهم من علم[58], وأن (موسى) اوضح انه سيأتي بما هو جلي من القدرة[59].
ان ما لدى سحرة الفراعنة من علم لم يكن يستطيع ان يغيّر من الواقع , في حين كان باستطاعة (موسى) ذلك[60]. فقدرة زعماء السِحر الفرعوني , والتي كانت قوية وكبيرة لدرجة ان يتخيل نبي ان الحبال تسعى كالحية , لم تتجاوز التأثير خارج الواقع , لذلك اوحى الله الى نبيّه (موسى) ان ما لديه اسمى وأعلى , فهو علم تغيير الواقع . ولأن السَحَرة كانوا زعماء المعرفة الفرعونية وأهل الاختصاص فقد ادركوا الفرق بين العِلمين , عِلمهم وعِلم (موسى) , بخلاف القيادة الفرعونية السياسية والعسكرية[61].
وكانت المهمة المضاعفة يحتاج صاحبها الى وزير , (هارون) . والقرآن الكريم يذكر (هارون) أكثر من عشرين مرة , كوزير ل(موسى)[62], او المتحدث نيابة عنه[63] [64]. و (هارون بن عمران) نبي من انبياء الله الذين يؤمن بهم أتباع العقائد اليهودية والمسيحية والإسلامية . وقد عاش النبي (هارون) مع اخيه النبي (موسى) في مصر في عصر الفراعنة , حسب العهد القديم والقرآن الكريم .
وفي الوقت الذي تنسب بعض الكتابات اليهودية المحرفة في الكتاب المقدس صناعة صنم ( العجل ) الى (هارون)[65], يُلاحظ ان القرآن الكريم يعطي (هارون) مكانة كبيرة ودوراً مهماً في صحبة اخيه , فينفي عنه صناعة صنم ( العجل ) الذي عبده اليهود في غيبة (موسى) , وينسبه إلى شخص اسمه (السامري)[66], كما يورد اعتراض (هارون) على هذا العمل[67].
والظاهر ان (هارون) كان الاداة التنفيذية ل(موسى) , وعلى يديه جرت الآيات الكبرى , فقد اورد الكتاب المقدس عدة آيات تذكر ذلك[68].
والملاحظة المهمة ان (موسى) طلب من الله ان يكون (هارون) اخوه وزيراً له , وأن يشد عضده به , وهذا يعني ان (موسى) كان يعتقد ان المهمة الملقاة على عاتقه كبيرة جدا , تحتاج الى وجود نبيينِ , مما يدل على مستوى عالٍ من التعقيد الاعتقادي والاجتماعي والانحرافي , كما ان جهة الانحراف كانت على الارجح ضخمة جدا , ليست من الناحية الكمية فقط , لان الانبياء عادة لا ينظرون الى الكمية , ولكنها كانت ضخمة من ناحية القوة الفكرية ومتغلغلة في النفوس والاذهان , ومن هنا يُلاحظ في آيات القرآن الكريم ان (موسى) –وهو تلك الشخصية الضخمة والمفصلية– يمر بلحظات من الخوف , ليس الخوف المشتق من الجُبن , لا , وحاشاه , لكنه الخوف الناتج من التعقيد الموضوعي للمجتمع الفرعوني , وكذلك معرفة (موسى) ان ما يواجهه ليس انحرافاً للفكر الانساني , بل هو الانحراف الناتج من اول تحالف مباشر بين الانسان والشياطين , لذلك سيكون خداع المجتمع المؤمن من قبل الفراعنة ممكناً , لانهم سيظهرون من الآيات ما يشابه آيات (موسى) , لولا اللطف والمعونة الإلهية لنبيّه (موسى) .
و( الهارونيون ) , وهم ذرية النبي (هارون) , شكّلوا نخبة خاصة داخل قبيلة (لاوي) , ولذا فقد كان منهم ( كبير الكهنة ) اليهود , في حين كان يتبع صغار الكهنة قبيلة (لاوي) , وأنها هي التي نشرت الدين الجديد بسبب مكانتها , وبسبب وجود النص الإلهي والوصية بهم لهذه الوظيفة الدينية[69].
و(موسى) كان الثائر على ( عبادة الشيطان ) , بحسب الفائدة القرآنية , حيث ان من اهم الاستدلالات المستفادة من القرآن الكريم , والتي تنتج المفاهيم المهمة في هذا الموضوع , الآية (( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ على حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ))[70], اذ فيها فائدتان :
اولهما : ان هناك شيعة كانوا ل(موسى) قبل النبوة , يعني أنصاراً , لا بمعنى القوم , الأمر الذي يكشف عن توجه ثوري حمله (موسى) ودعا اليه سراً , (( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ))[71].
وثانيهما : ان (موسى) انتصر لأحد انصار فكره , بقتل عدوهما . والقتل لا يجوز الا في مواضع نادرة , وبالتالي فإنّ سبب القتل كان مهماً وخطيراً , بحيث اجاز ل(موسى) قتل ذلك الرجل الفرعوني . وقد صرّح (موسى) بالسبب , حين قال لهم (( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )) , وإلى هنا لا إشكال لدى الناس في عهد الفراعنة , لأن كل شيء كان مسخراً لعبادة الشيطان , (( فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))[72]. لكن عندما اعلن (موسى) حقيقة الشيطان , بقوله (( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ )) , هنا كانت بداية ( الثورة الموسوية ) على قرون من عبادة الشيطان من خلال الديانة الفرعونية . ويعضد هذا ما جاء في الآيات القرآنية من اتخاذ الكثير من البشر عبادة الشيطان عقيدة لهم[73].
ان قتل (موسى) للرجل الفرعوني كان رفضاً لأعمال السخرة , التي استعملها الفراعنة كآلية لإنشاء المعابد الشيطانية , اذ اراد ذلك الرجل تسخير احد المؤمنين بدعوة (موسى) الثورية , فقتله (موسى) , لكنه لم يسكت , وقد كان سكوته هو الامر العقلائي وفق الحسابات البشرية العادية , لا سيما انه قتل فرداً من حزب السلطة , وسبب هذه الناطقية ان فعلته لم تكن شخصية , بل ثورية , فبيّن للناس سبب الفعل , في اول اعلان للثورة , وهو اعلان كان لابد له ان يكون دراماتيكيا , فقال لهم ان ما تقومون به كان من اجل الشيطان , لا من اجل الخالق , حيث كانوا يظنون انهم يعبدون الخالق الحقيقي , عبر طقوس محافلهم الشيطانية الخادعة , فشرح لهم (موسى) ان هذا المعبود يتعمد اضلالهم ويمكن كشف ذلك بوضوح . من هنا يمكن الاستيقان ان عبادة الفراعنة كانت كما جاء أعلاه , وأن (موسى) كان له من العقل والمنطق ما الهمه الصواب , وعرّفه استحالة ان يكون الخالق بمواصفات الشريعة الفرعونية .
لذلك شعر (موسى) بالأسى لكونه في الجانب المظلم , وهو قد تربى في قصر فرعون , ولما لاحت له انوار الله (( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ))[74], وأخذ عهداً ثورياً (( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ))[75], لتبدأ رحلته النورانية الى الجانب الآخر .
وقد وردت عدة تفاسير لهذه الآية , اراد كتّابها تبرئة ساحة النبي (موسى) , جزاهم الله خيرا , الا انهم لم يدركوا حقيقة ما جرى , ولكن مع ذلك وردت روايات وتفاسير قريبة من المعنى الاقرب للاحتمال الذي ذُكر , لكنها ليست هو , كما في تفسير (الميزان)[76].
وبعد اعلان الثورة تغيّر حال (موسى) كثيراً (( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ))[77]. ثم ان (موسى) توقّع من انصاره الا يعودوا الى موارد الهلكة المادية والمعنوية , لكنه وجد صاحبه السابق (( فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ))[78] , فأعاد (موسى) الكَرّة على عدوهما , وهذا دليل انه يعلم بمآل العدو , وأنه يجوّز قتله , لاعتقاده بضرره على المجتمع , ولأنّ صاحبه كان يتأمل منه النفع في تلك الظروف والمرحلة الخطيرة , لكن تفاجأ (موسى) بروح جديدة تدخل اعماق النفس الفرعونية (( فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا موسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ))[79], هنا ادرك (موسى) انه زرع المصل المضاد لكل ما يجري من الظلم , وأن هؤلاء باتوا في ثنائية اعتقادية , تجمع بين ما ورثوه وبين ما جاء به (موسى) , ليبدأ مفهوم الشك يسري في المجتمع الفرعوني .
فكان الخروج الموسوي من ظلام المجتمع الفرعوني الى عالم النور , اذ خرج (موسى) من ذلك العالم الفرعوني المظلم بعد ان (( جَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا موسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَآخرجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ))[80]. لكنه لم يجد جوهر ما كان يبحث عنه عقله بعد , (( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ))[81]. فأخلص وجهه للخالق الحق والرب الحقيقي , (( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مدين قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ))[82]. فكان عند هذه المرحلة بحاجة الى موجّه ناصح , من الارض التي لازالت تحت تأثير التوحيد الإبراهيمي , فكان في انتظاره في (مدين) شيخ من الأنبياء العرب , بقي (موسى) في داره عدة سنين[83]. وبعد هذه المرحلة الاجتماعية الإبراهيمية اصبح (موسى) جاهزاً لدخول عالم النور (( فَلَمَّا قَضَى موسى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ))[84], فنودي (( مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا موسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ ))[85], لكنّ (موسى) كان بحاجة ليميز مفهوم (الله) , لما رآه من تلاعب فرعوني في الآيات التكوينية , فجاءه النداء المعرّف (( رَبُّ الْعَالَمِينَ ))[86].
لكنّ مشهد (( وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ))[87]كان مألوفاً عند (موسى) , حيث يظهر ( الجنّ ) للفراعنة , من خلال طقوسهم .
والتعبير القرآني (( رآها تهتز كأنها جآنٌّ )) كان دقيقاً جدا , ومتعمداً لتوصيف حقيقة ( الجنّ ) المعتمدة على ظاهرة الموجات وتردداتها الاهتزازية , فهي رسالة الى الإنسان , اي للمستقبل , وهنا جوهر لعبة الطاقة الشيطانية القائمة اليوم , وهي اساس وجود مستقبلات الطاقة كالأهرامات والمسلّات وغيرها في عدة حضارات وثنية .
وربما خشي (موسى) في نفسه ان يكون داخل العالم الفرعوني حتى تلك اللحظة , فكان بحاجة الى الطمأنينة الربانية (( يَا موسى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ))[88], و (( يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدّل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم ))[89].
وفي مرحلة لاحقة في طريق الهجرة سأل (موسى) آخر اسئلته التنويرية الكبرى , فأتاه الجواب (( وَلَمَّا جَاء موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ))[90], فأصبح جاهزاً لتلقّي شريعة الرب , وأن يعلّمها قومه في مرحلة لاحقة[91].
والشك كان يراود نفس فرعون حينئذ , بسبب ما جاء به (موسى) , لكنّ طريق البحث كان خاطئاً . اذ ان فرعون مثل أولئك السَحَرة بدأ يشك بالربّ الخاص به , وصار يتأثر بصورة (الله) التي طرحها (موسى) , لكنه اختار الطريق الخاطئ للتأكد من (الله) الحقيقي , حيث قال (( فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلّي اطّلع الى اله موسى ))[92], (( يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي ابلغ الأسباب ))[93], اذ سلك نفس طرق (كبّالاه) الفيزيائية والكونية للوصول الى الخالق , والتي خدع الشيطان بها آباءه .
وفرعون لم يكن ذلك الساذج , كما تصوره بعض الكتابات , بل كان يريد المعرفة , لكنه استكبر ان ينزل الى طريق (موسى) الذي جاء من وسط العبيد , فأصرّ على سلوك طريق آبائه في المعرفة , وهو رغم كونه طريقاً علمياً ضخماً جدا , الا انه ببساطة هالة ضخمة من الخداع .
ومقدار المعرفة الذي كان يمتلكه فرعون كان كبيراً جداً بكل المقاييس البشرية حينذاك , فالله تعالى يقول (( وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ))[94], ومن رأى الآيات كلها –وهي خارقة للطبيعة المنظورة– كان بالتأكيد يعرف الكثير , لكنّ العقلية التي نشأ عليها فرعون جعلته يظن ان ما يراه هو ذاته ما يمكن ان تحققه له الشياطين , والتي أرته سابقاً الكثير من الآيات الكونية , وراح يعتقد ان ما جاء به (موسى) هو جزء من ذات العالم الذي يتواصل معه الفرعون , فتوجه الى (موسى) و (( قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا موسى . فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ))[95].
وآيات (موسى) الكبرى , التي يجريها الله على يد اوليائه , تكون بداعي الاحتجاج , او اثبات الحق , فمنح الله تعالى نبيّه (موسى) تلك القدرة على التحكم بالآيات الكونية . وكانت تلك الآيات على قسمين : آيات لفرعون وملأه , وآيات لبني إسرائيل . والقسم الاول كان للاحتجاج على فرعون وقومه , ولإثبات فساد معتقداته , واظهار قدرة الخالق الحقيقي , ولفرز الاوراق بين العوالم المخلوقة , وكذلك اهلاك من يصر ويعاند تحت راية الباطل .
اما القسم الثاني فكان لغسل الذهنية الاسرائيلية , وتنظيفها من رين ودنس الظلمات التي خلّفها تأثير تعاليم (كبّالاه) في عقولهم وثقافتهم .
وآيات (موسى) لفرعون وملأه , هي الآيات الربانية التسعة[96]التي جرت على يد النبي (موسى) في مجتمع كالمجتمع الفرعوني السِحري , القائم على عبادة الشيطان , وكان لابد لها ان تكون مناسبة لما يجيده اهل ذلك المجتمع , وهذه سُنة الله في الآيات الدالة على نبوة المرسلين . والآيات الموسوية كانت كلها تتعلق بالمعاجز التكوينية , لذلك يمكن استنتاج ان الفراعنة كانت لهم معرفة واسعة بأسرار الكون والحياة[97], من هنا كان يجب ان تكون تلك الآيات كبرى , تخترق المعرفة الفرعونية المصرية لتكون حجة . ولقد جاء في الكتاب المقدس عن (موسى) أنه ( فتهذّب موسى بكل حكمة المصريين )[98].
ومع ان آيات (موسى) كانت كبرى , الا ان فرعون ظن انها نشاطات سحرية , من ذات العالم البُعدي الذي يتواصل معه , لكنه لم يعرفها , فرجّح ظنه , ولم يجزم , ففرعون كان مغيّباً في عالم الظلمات . وفرعون رأى -هو وملأه- الكثير من العجائب الكونية والتكوينية سابقا بمعونة التعاليم السِحرية , فقال فرعون (( إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا موسى مَسْحُورًا ))[99].
ولاختراق هذا العالم المعقّد كان لابد ان يصاحب هذه الآيات سلطان مبين , او حجة إلهية واضحة[100]. وكان على (موسى) ان يوضح لهم الفرق وأن يزيل اللبس , فقال انه رسول رب العالمين الى الثَقَلينِ من ( الجنّ ) والانس , وهنا ازال (موسى) الغطاء عن اقدم العقائد في الديانة الفرعونية , فعالم ( الجنّ ) كما ادعى (موسى) الآن ليس الا جزءاً من عدة عوالم , اوجدها الرب الخالق[101]. الا ان الاستكبار والنظر الدونية -التي اعتمدها الفراعنة للمصلح- جعلتهم لا يتأملون تلك الآيات الكبرى بما تستحق لينقذوا انفسهم وعالمهم[102].
وأول هذه الآيات كانت عند ساحة القدس الإلهية , حينما خاطب اللهُ النبي (موسى) وكلّمه تكليما , فمنحه ( العصا ) , التي باستطاعتها ان تصل بتردداتها الاهتزازية الى مستوى اختراق عالم ( الجنّ )[103], وبذلك امتلك (موسى) اولى مفاتيح حل الالغاز الفرعونية الشيطانية . ولكنّ دخول هذا العالم ليس سهلا , والحقيقة ان الانهزام فيه مبني على معادلات الخوف , نعم ففي هذا العالم يشكّل الخوف -بتردداته- مصدراً للطاقة عند العدو , فأخبر اللهُ رسولَه (موسى) بحقيقة هذه المعادلة الفيزيائية الكونية[104].
وكيف لا يخاف (موسى) في بحر العجائب هذا وعالم اختلاط الاوراق , فأخبره الله ألّا يخاف , لكي يكون من الآمنين[105]. وكانت هذه العصا الربانية تقنية كافية للقضاء على الكم السِحري الضخم من العجائب الكونية والتكوينية التي امتلكها الفراعنة وسَحَرتهم قبله[106].
ثم تلتها آية ( اليد البيضاء )[107]. ومن بعدها اتت آيات الإهلاك , كطمس الأموال , والطوفان , والجراد , والقمّل , والضفادع والدم , ونقص الثمرات لسنين طويلة نسبيا[108], لا سيما ان شعار المجتمع الفرعوني كان يشيع انهم المجتمع الاغنى بفضل الآلهة التي عبدوها . وأراد النبي (موسى) نصحهم وأعادتهم الى الله كثيراً ببيان أن هذه الآيات لفتح بصيرتهم المغلقة قبل أن تهلك الحزب الفرعوني[109], لكن (( فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ))[110].
ومن أجل الاستنقاذ والهجرة مرة أخرى , يأتي دور القسم الثاني من الآيات الربانية , والتي تختص ببني اسرائيل , وهي كانت لازمة لإخراجهم من عالم الظلمات الى عالم النور[111].
ان اخراج بني اسرائيل كان يحتاج الى آيات القدرة الربانية , لأنه لم يكن اخراجاً عسكرياً ديموغرافياً فقط , بل كان اخراجاً من عالم الظلمات الشيطانية الى عالم النور الإلهي , فكانوا يرون المعجزات الإلهية على يد الأنبياء , بأعينهم التي أضعفت بصيرتها تعاليم الفراعنة , وهي آيات عظيمة , كانشقاق البحر , ونجاتهم من الجيش العظيم لفرعون , وغرق ذلك الجيش , واتضاح ضلال فرعون , ونزول المن والسلوى والطيبات , ثم توبة الله عليهم , الا انها التوبة التي تسبق اللعنة لو أصرّ بنو إسرائيل على الضلال بعد كل ذلك[112]. وأورث الله الأرض لمؤمني بني إسرائيل[113], وصارت لهم بداية دولة .
فاستنقذ (موسى) بني اسرائيل , وعددهم حينئذ اكثر من 600 الف انساناً[114], وعبر بهم البحر بآية كبرى , شقّ بها البحر . ويُلاحظ ان كل آيات (موسى) كونية كبرى , تدل على تصرّف تكويني , لكن رغم كل ذلك , ف(موسى) كان قد استنقذ مجتمعاً تغلغلت ال(كبّالاه) في اوصال الكثير من افراده , لكنه ظل يحوي رجالاً مخلصين افذاذ , مثل (يوشع بن نون) وصي (موسى) وخليفته .
( متى دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك , لا تتعلّم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم. لا يوجد فيك من يُجيز ابنه أو ابنته في النار, ولا من يعرف عِرافة, ولا عائف, ولا متفائل, ولا ساحر, ولا من يرقي رقية, ولا من يسأل جانًا, أو تابعة, ولا من يستشير الموتى )[115].
ومنذ اللحظات الاولى لخروج قوم (موسى) من مصر الفرعونية كانوا يعانون الاضطراب والضبابية , إِلَّا مجموعة من المؤمنين , صالحة , لكنها كانت تُستضعَف في كثير من الأحيان , فاتخذوا ( العجل ) إلهاً وكانوا ظالمين[116], لكنهم بعد ذلك عرفوا ما هم فيه من ضلال وندموا بعد تجربة فاشلة قاسية[117]. كما انّ الواسطة الماورائية الفرعونية ألهبت مشاعر الإسرائيليين بماديتها ومباشرتها الطقسية , لذلك أرادوا جعل الواسطة بين الخالق والمخلوقات -كما فعل المصريون الفراعنة- صنمية متمثلة , وفي ذات الوقت متفاعلة مع الطقس الديني بصورة حسّية , لا تخضع للحكمة الغيبية التي اعتادت عليها الأديان الإبراهيمية[118].
و( العجل ) كان التجربة العملية لقياس مدى تأثير الفرعونية في مجتمع بني إسرائيل . حيث دخل بنو إسرائيل في تيه فكري قبل التيه المادي , بل ان هذا التيه الفكري هو ما نقلهم الى التيه المادي . فكانوا يحنّون الى انحرافهم السابق , وكذلك يعيشون الاهتزاز العقائدي , الذي خلّفه التأثير الفرعوني فيهم , فصاروا لا يهتمون للأوامر الإلهية , لأنهم بدأوا يشكّون بمفهوم الربّ الموسوي كلياً , فكانوا في مرحلة تقلقل , اتاحت لهم التلاعب بالكلام مع النبي (موسى) , مع ما له من الهيبة , فادّعوا انهم يريدون استبدال الطعام الذي اهداهم الله , لكنهم غفلوا انهم انما اختاروا ما هو ادنى من الناحية المادية والمعنوية , فأجابهم (موسى) –بعد ان انهار النظام الفرعوني تقريباً– اهبطوا الى مصر , وهو هنا اما يقصد بلاد مصر , أو انه يقصد بالمِصر ( المدنَ ) , كما هو مستخدم في لغة العرب , ليكونوا في كلا الحالتين خاضعين لغيرهم , فاقدين لنعمة النقاء المعرفي . مما تسبب بغضب الله عليهم . وقد صاروا ربما يبحثون في بقايا الطقوس والمعتقدات الفرعونية . وسماح النبي (موسى) لهم بالهبوط الى مصر كان ممكناً بعد ان اراهم حقيقة الطريقين , الإلهي والشيطاني , وترك لهم الاختيار , فمهمته كانت تتلخص في ذلك[119].
وكان بنو اسرائيل بحاجة الى مشاهد اعجازية ضخمة , تثبت لهم ان قدرات النبي (موسى) تتفوق على سحر الفراعنة , فيؤمن الصالح منهم بنبوّته , ويخشاه غير الصالح فيرتدع عن اتيان المنكر . وكانت من هذه المشاهد الضخمة , التي هالت المجتمع الاسرائيلي وأبهرته وجعلته مستعداً ومهيأً نفسياً , معجزة انشقاق البحر الكبير[120], وانفجار اثنتي عشر عين ماء , بعدد أسباط بني اسرائيل[121], والغمام وطعام المن والسلوى[122], ورفع الطور او الجبل فوقهم[123], والصاعقة التي أصابتهم بعد أن تسببت رواسبهم الفرعونية في أن يطلبوا رؤية الله[124], ورغم تلك الصاعقة التي أرادت تربيتهم , اتخذوا ( العجل ) إلها[125], وربما يكون هذا الإصرار على عبادة ( العجل ) هو السبب في أن يطلب منهم الله ( ذبح بقرة ) , كي يثبت لهم بدرس عملي ضَعف هذا المخلوق أمامهم وخضوعه لهم , لكنهم أثبتوا بعد أن طلب منهم النبي (موسى) ذبح البقرة أنهم في تيه منقطع النظير[126].
ان بني اسرائيل رغم ما شاهدوه من آيات كبرى , لم يكونوا على قدر المسؤولية , فعندما فارقهم النبي (موسى) ليالٍ معدودة عبدوا عجلاً مصنوعاً له خوار , بعد أن أضلهم احد المنحرفين عن الدين (السامري) , رغم وجود النبي (هارون) اخي النبي (موسى) بينهم , وهو ما يكشف مستوى الانحدار الذي أصابهم خلال فترة الاستعباد الفرعوني لهم , بحيث أن وجود نبي من العائلة الموسوية لم يكن يكفي لصدهم عن خزعبلات ضآلٍّ من أصحاب الوجاهة الاجتماعية او الدينية سابقاً , كما يكشف خطاب النبي (موسى) الرقيق له[127].
وكما هو واضح من الطلبات التي ذكرها القرآن الكريم[128]-على لسان اليهود ل(موسى) عند الخروج الكبير من مصر- انهم بدأوا حينها عصر الوثنية المركّبة المعقدة , تلك الممزوجة بعقائد توحيدية , في اضطراب فكري واضح , لذلك اتخذوا ( العجل ) -الذي هو العجل (أبيس) الفرعوني- إلهاً بمجرّد عبورهم من مصر وغياب النبي (موسى) ليالٍ معدودة , رغم رؤيتهم لمعجزة ( شقّ البحر ) .
و( العجل ) ظلّ على الدوام الرابط بين الديانات الثلاث , الفرعونية واليهودية والرومانية , حيث يوجد في المتحف البريطاني نقشٌ يعود لعام ٢٩٥م , في فترة حكم (ماكسميانوس) و(فاليريوس) , يمثّل الإمبراطور وهو يقدّم القرابين للعجل (بوخيس) . وفي حدود عام ٥١٥ ق م كان لليهود معبد في (الفنتين) , يتم فيه تقديس الآلهة (عنات) والآلهة (اشيما) , الى جانب المعبود (يهوه) .
والظاهر من هذا التسلسل في اضطراب التاريخ انّ اليهود وصلوا الى مرحلة ضبابية خطيرة , تغلغل فيه السِحر الى ساحة المعتقدات الدينية , فصار هناك خلط لدى نسبة معتد بها من الناس[129]. وراح اليهود لا يميّزون بين ميتافيزيقيا فرعون وبين ( عالم الجبروت )[130], بل انّ الفكرة انتشرت على انحرافها[131]. لكنّ بني اسرائيل لم يكونوا جميعاً كافرين , كما يظهر من السرد التاريخي , وهذا ما يكشفه الاضطراب في مواقفهم ايضا[132].
ومن هنا كان من الطبيعي رؤية بني اسرائيل وهم يتهمون الأنبياء بأنّهم سحرة , حيث صار هؤلاء اليهود يفكّرون بالعقل الفرعوني , الذي يخلط بين التلاعب الفيزيائي , الذي تُحدثه الكائنات الغير منظورة , وبين قدرة الخالق , التي تجري على يد أنبيائه , كما اعتمد فرعون ذات الآليات الباطنية المقترنة بالهندسة للبحث في امر إله النبي (موسى) , بسبب الاختلاط الفكري لديه , غافلاً عن المعنى اللاماديّ للخالق[133]. وهذه النظرة المادية للماورائيات , والتي يمكن تسميتها ( الميتافيزيقيا الجديدة ) , او ( الميتافيزيقيا الفرعونية ) , صارت هي خلاصة العقل الكهنوتي للمجتمع اليهودي , لا سيما بعد سرقة هذا الكهنوت من الباطنيين الفراعنة .
لقد كان من الضروري تحقق الإعجاز الإلهي في إيجاد المسيح (عيسى بن مريم) , كما هي ضرورة سمو نسبه الشريف في بني اسرائيل , وكذلك الآيات الكبرى على يديه , من حيث القدرة على الإحياء والمعرفة بإذن الله , بعد هذا الاضطراب الذي عاشه المجتمع الاسرائيلي[134]. انّ هذه الآيات الواضحة الإعجاز على يد (عيسى) المسيح -فضلاً عن ولادته الإعجازية ايضا- تكشف عن العمق الذي تغلغل اليه السِحر في مجتمع كهنوت بني اسرائيل , والمدى الذي اتقن معه اليهود علوم السِحر , وكيف انهم طوَّروا المنظومة الفرعونية , فقرابينهم الوثنية كانت كبيرة معنويا[135].
وهذا التخبُّط الفكري هو ما يفسّر عودة بعض بني اسرائيل الى عبادة الأصنام عند وفاة (يوشع بن نُون) وصيّ النبي (موسى)[136], وكذلك هو ما يشرح إقامة مملكة اسرائيل الأصنامَ في هياكلها وعبادتها عند وفاة النبي (سليمان) , حيث انقسمت مملكته الى قسمين [137], شمالي (اسرائيل) , فيها عشرة أسباط , بقيادة (يربعام بن ناباط) , وجنوبي (يهودا) , فيها سبطا (يهوذا) و(بنيامين) , بقيادة (رحبعام بن سليمان) . ومملكة (اسرائيل) بقيادة (يربعام) هي من أصبحت وثنية وعبدت ( العجل ) مرة أخرى[138], حتى نشب القتال بين القسمين .
ويمكن الاطلاع على عدة فوائد قرآنية من قصة (السامري) . منها ان لفظة (السامري) لم ترد الا في سورة طه[139], وهي سورة تتحدث في العلوم العرفانية والقدرات النفسية والآيات التكوينية . ومنها ان الصيغ التي تحدثت بها الآيات القرآنية عن (السامري) –وفي كل الخطابات– تشير الى انه كان شخصية معروفة , ولا يُستبعد ان تكون موثوقة . ومنها ان (السامري) بصر بما لم يبصر به القوم , وأخذ قبضة من اثر الرسول , الذي لا يشرح القرآن الكريم ماهيته , مما يشير الى أن قدرات (السامري) المعرفية والروحية كانت عالية . ومنها ان خطاب النبي (موسى) مع (السامري) – الذي اضل بني اسرائيل – كان خطاباً مرناً , وأرقّ من خطابه مع أخيه النبي (هارون)[140]. ومنها ان عقوبة (السامري) كانت مشابهة لعقوبة (ابليس) , بالإمهال وان يقول “لا مِساسَ” , كما تم تدمير إلهه ( العجل ) أمام عينه , مما يعني أن النبي (موسى) أراد إزالة اللبس عن ذهنه , بالإضافة الى أذهان بني إسرائيل[141].
كل هذه الامور تدفع للاعتقاد بأن (السامري) كان احدى الشخصيات الدينية المهمة في المجتمع الاسرائيلي , وأنه كان متعبداً فيهم , وكان له فضل من نوع ما في انتشار الدعوة الموسوية التوحيدية , لكنه ضلّ , وكانت عاقبته الخسران المبين .
وظهرت للنبي (موسى) بواسطة العبد الصالح (الخضر) يد الرحمة الإلهية . اذ اختط الله الخالق الباري للبشرية درباً صالحاً موصلاً الى بر الأمان , لكنها ركنت الى السوء , وأخلدت الى الأرض , ولم يجد لها عزما , فشرع الرب الخالق –وفق قاعدة الاختيار– منهجاً ثانياً للنجاة , من خلال دعوة الرسل والانبياء . لكن لمّا كانت البشرية في غالبها شهوانية اشترع الله لإنقاذها منهجاً باطنياً , يسير على يد افراد قادرين وكاملين , يصلحون ما تخرّبه اليد البشرية الخاطئة[142], فكان العبد الصالح (الخضر) من أولئك الافذاذ .
وحين عبر النبي (موسى) خطوط الظلام البشرية واقترب من شجرة النور , ولمّا كان واجبه مواجهة شياطين الفراعنة , ولإزالة ( الخوف ) عن صدره الطاهر , من جرّاء الكم الرهيب لشباك الظلموت حول رقاب البشر , كان لابد من لقائه برجل من اهل الباطن والمعرفة النورانية . فسافر النبي (موسى) على ظهر احدى سفن الفينيقيين , هو وفتاه او وصيه (يوشع بن نون)[143], والتقيا بالعبد الصالح (الخضر)[144], عند ( الصخرة )[145], على الساحل الاسباني عند مضيق (جبل طارق) , حيث كانت علامة الوصول رؤية الدلافين قرب الصخرة , بعد جهد ونَصَب . لكنّ الحقيقة التي سعى لها النبي (موسى) كانت تستحق ان يعود على ذات الطريق المنهك بحثاً عن ( ولي عالم الباطن ) , الذي اثبت ل(موسى) انّ الله يرى[146]. وهذا العالم المعرفي كان ضرورياً للذهن الموسوي , لأجل المواجهة والخطة النورانية القادمة في مقتبل الأيام .
يروي السيد (محمد الحسين الحسيني الطهراني) في كتابه ( الروح المجرّد ) ما نصه ( لقد سافر المرحوم آية الحقّ والعرفان آية الله الشيخ محمد جواد الأنصاري الهمداني أواخر عمره الى باكستان , بالرغم من توارد الضعف الشديد ووهن القلب , وكان ذلك أمراً شاقّاً وعسيراً , لعدم توفّر وسائل النقل آنذاك كما هي عليه اليوم . ولم يذكر المرحوم علّة سفره لأحد , فجرى الحديث عن سبب سفره في محافل الأصدقاء ومجالسهم , فكان كلٌّ يتكلم بحدسه وظنّه , حتّى سألتُ عن ذلك يوماً من سماحة السيد الحدّاد , بعد مرور سنين طويلة وبعد وفاة ذلك المرحوم , فقال : إنّ سفر أمثال هؤلاء الأجلّاء لا يخلو من احد أمرين : الأول : ان يكون هناك في تلك النواحي والديار عاشق والهٌ ومتحمس ومتحرر , فيكون علاج داء هجرانه في عالم التوحيد على يدي هذا الرجل , فيأمره الله تعالى بالذهاب الى ذلك العاشق للأخذ بيده ومساعدته ومعالجة دائه . والثاني : ان يكون الله قد قدّر , وفق المقدّرات العامة والكلية , إنزال عذاب على تلك النواحي , فيأمر الله عبده هذا بالعبور الى جميع تلك النواحي , ليرفع الله بأثر بركة ورحمة النفس الرحمانية لهذا العبد عذابَه عن أُولَئِك القوم )[147].
لكن كانت الممانعة والعصيان الاسرائيليين , ووفاة النبي (موسى) , وبدء التيه , عقبات ومراحل أخرى في تحديد العلاقة بين الفرعونيين وبين الموسويين من بني إسرائيل . وكان العقاب الإلهي لبني إسرائيل التيه أربعين عاما , حتى يتغيّر جيل التمرد والرفض إلى جيل طاعة أوامر أولي الأمر من الصالحين . وطيلة الفترة الموسوية ظل بنو اسرائيل على تقلقلهم وتزعزع مفهوم الدين الإبراهيمي في اذهانهم , نتيجة التأثر بالفترة الفرعونية الشيطانية[148], فعانى النبي (موسى) منهم كثيرا , لذلك كانوا بحاجة الى فترة زمانية لإعادة ترتيب اوراقهم الاعتقادية , وإعادة الترتيب تصاحبها الصدمات والهزات التي توقظهم[149].
إن التراث الديني لبني إسرائيل مشبع بالأدلّة التي لا تقبل الشك على أن الذين رافقوا النبي (موسى) في طريق الهجرة لم يكونوا –غالباً- أكفّاء لحمل عبء التوحيد وفلسفته التجريدية الرفيعة , ولم يجدوا فيما تقدّمه الديانة الجديدة ما يشبع احتياجاتهم إلى الاعتبارات المادية.
والله تعالى اوضح حقيقة ان هذا الجيل الاسرائيلي الفرعوني لا يمكن له ان يحمل رسالة الربّ , فهم غير واثقين بالله[150], لأنهم لا يزالون لا يعرفون الربّ الحقيقي , ولا زالوا يشكّون في إله النبي (موسى) . ولكن هناك استثناء , هو الذي ابقى رحمة الربّ واختياره لهم , انهم المؤمنون من بني إسرائيل , مثل (كالب بن يفنة) و(يوشع بن نون)[151]. وبالتالي فغضب الله لا يشمل الجيل اللاحق , الذي ستكون راية التوحيد معقودة بيده[152]. وفعلاً بعد مرور قرون تالية كان عديدون من بني إسرائيل يبغضون (هيرودس الادومي) والي الرومان على فلسطين حتى عام 4 قبل الميلاد , لأنه عمل على نشر الاصنام والوثنية الرومانية[153], رغم انخراط آخرين من بني إسرائيل في السلك الوثني الروماني ومشاركتهم في المحاكمة الظالمة للمسيح .
ومهمة النبي (موسى) الاساسية كانت تتلخص في امرين , استنقاذ المجتمع الايماني الاسرائيلي , باعتباره المجتمع الذي يحمل الراية الايمانية حتى تلك اللحظة , وكذلك تبليغ الشريعة الإلهية المفصلة , التي تتناسب مع التطور البشري المعاصر لها , على خلاف شريعة النبي (إبراهيم) التي ناسبت عصرها , ( وَابْتَدَأَ موسى فِي أَرْضِ مُوآبَ شَرْقِيَّ نَهْرِ الأُرْدُنِّ يَشْرَحُ الشَّرِيعَةَ )[154]. ( وَمَاتَ موسى عَبْدُ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوآبَ بِمُوْجِبِ قَوْلِ الرَّبِّ. وَدَفَنَهُ فِي الْوَادِي فِي أَرْضِ مُوآبَ, مُقَابِلَ بَيْتِ فَغُورَ. وَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ قَبْرَهُ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. وَكَانَ موسى قَدْ بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَاتَ, لَمْ يَكِلَّ بَصَرُهُ وَلاَ غَاضَتْ نَضَارَتُهُ. وَنَاحَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى موسى فِي سُهُولِ مُوآبَ طَوَالَ ثَلاَثِينَ يَوْماً )[155].
وقد قضى النبي (موسى) فترة طويلة جداً من السنين يبيّن لبني إسرائيل مَن هو الربّ , وربما كانت هذه الفترة وهذا الحال الموسوي في البيان هما محور ( سِفر التثنية ) كله من الكتاب المقدس . وكانت وفاة النبي (هارون)[156]والنبي (موسى)[157]قبل دخول الارض المقدسة , في طريق الهجرة .
وتأثير النبي (موسى) في عالم ( الجنّ ) كان متوقعاً , كوظيفة نبوية له في خضم المواجهة مع العقيدة الفرعونية الشيطانية . حيث ان الآيات القرآنية[158]اعلاه تضمنت جملة اشارات حول عالم ( الجنّ ) , اذ ان لدى هذا النفر من ( الجنّ ) ذاكرة معينة , جعلتهم مستثارين عند سماعهم القرآن الكريم , الى درجة الانصات , وأن هؤلاء النفر تأثروا كثيرا بما استمعوا اليه من القرآن , بحيث اصبحوا دعاة لدين الاسلام المحمدي في قومهم عندما رجعوا اليهم , وقالوا لهم انهم سمعوا كتاباً اُنزل من بعد (موسى) , فيما كان بين النبي (موسى) ورسالة (محمد) نبوة ورسالة (عيسى) , ما يشير ربما الى ان آخر تواصل مباشر لهم مع الارض كان في زمان النبي (موسى) , او أن للأنبياء (محمد) والنبي (موسى) قدرة تواصل خاصة مع العوالم الأخرى , لم تكن معطاة للنبي (عيسى) , لا لنقص فيه , وحاشاه , بل لاختلاف وظيفته عن النبيين (موسى) و(محمد) . وأن هؤلاء النفر ادركوا ان ما جاء في القرآن الكريم يوافق الطريق المستقيم , ويهدي الى الحق , مما يشير الى كونهم من العلماء في قومهم , وممن له معرفة بالأديان ورسالات السماء , او انهم من اصحاب العقول السامية في قومهم . وأنهم حددوا مفهوم (الله) لقومهم بنحو مباشر من الربوبية والخالقية والحاكمية .
من هذه النقاط الخمس , وبعد جمعها مع الآيات القرآنية الدالة على المعتقدات الدينية لعالم ( الجنّ )[159], يظهر جلياً ان النبي (موسى) هو من نقل ( الجنّ ) من الديانة التي خدعهم وأغراهم بها ( سفيههم ) , حينما كان يقول على الله ( شططاً ) , بزعمه انّ لله ( صاحبة ) و( ولداً ) , الى معرفة الله وعبادته , وبالتالي ارسى المعرفة الاولية اللازمة لقبول الديانة المحمدية الاسلامية , ضمن عالم ( الجنّ ) .
وكان للنبي (موسى) وصيٌّ هو (يوشع بن نون) . حيث أورد (ابن العبري) أن (يوشع بن نون) كان وصي النبي (موسى) في بني إسرائيل بأمر إلهي واضح , لأن الله علم منهم الضلال والانحراف بعد وفاة النبي (موسى) , بعد أن امتلأ (يوشع) بالحكمة حين حظي برعاية خاصة من النبي (موسى)[160]. وهو ما يحتج به المسلمون الشيعة في إثبات وجوب الوصية ل(علي بن ابي طالب) عن طريق الوحي الإلهي الى النبي (محمد) , او على الأقل رجحانها في سيرة الأنبياء .
وقد ترك النبي (موسى) وصيه (يوشع بن نون) في بني اسرائيل[161], (يَشُوعُ بْنُ نُونٍ) عند المسيحيين , أو (يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) عند المسلمين , وهو الذي قادهم الى الارض المقدسة .
اذ بعد وفاة النبي (موسى) تسلّم (يشوع) زمام قيادة الأُمة , وأصبح قائداً لبني إسرائيل طوال الحقبة التي تم فيها الاستيلاء على معظم أرض كنعان . واستطاع (يشوع) , وهو ما زال في سهل (موآب) , أَن يجند قواته ويجهزها وينظمها لخوض المعارك التي اشتدت بعد أن اجتاز نهر الأُردن .
ونشبت عدة معارك بقيادة (يوشع) , في الشمال والوسط والجنوب , أسفرت كلها عن انتصاره[162]. وقد ورد وصف هذه المعارك بصورة إجمالية . وما لبث بعد هذه المعارك الأولية أن قسم الأرض بين مختلف اَسباط إِسرائيل[163], و ألقى كلمة فيهم حثهم فيها على المثابرة على طاعة الله[164]. ولأن بني اسرائيل كانوا يقضون فترة العقوبة الإلهية , لعصيانهم أوامر الرب ايام النبي (موسى) , فهو الذي خرج ببني إسرائيل من التيه ودخل بهم بيت المقدس .
ان مقتضى مفهوم ( الوصاية ) عند الله هو ذاته الذي يطرحه المسلمون الشيعة الإمامية اليوم , فالوصيُّ عن احد الانبياء يجب ان يكون بالمستوى الديني والنفسي والجسدي اللائق , من هنا كان اختيار النبي (موسى) ل(يوشع) وصياً , تنفيذاً لإرادة ربانية , لا رغبة شخصية ل(موسى) , ولم يترك الله هذا الامر الى الجمهور من بني اسرائيل , الذين اثبتوا انهم يحتاجون الى قيّم دائم على سلوكهم . لذلك خاطب الربُّ (يوشع) بأنه معه كما كان مع النبي (موسى) , وترك اليه قسمة الأرض , وتنفيذ الشريعة بشجاعة[165].
و(يوشع) كان ل(موسى) كالظل , يخدمه ويتعلم منه , فأخذ عنه علوم الشريعة وخبرة القيادة في ذلك المعترك الصعب من تاريخ التوحيد . وربما هو من اشار اليه القرآن الكريم في قصة النبي (موسى) مع الحوت[166], وكذلك ذكره الكتاب المقدس مرات عديدة , ومنها : ( فقال الرب لموسى اكتب هذا تذكارا في الكتاب وضعه في مسامع يشوع )[167], ( فقال الرب لموسى خذ يشوع بن نون رجلاً فيه روح وضع يدك عليه )[168], ( ففعل موسى كما امره الرب . اخذ يشوع وأوقفه قدام العازار الكاهن وقدام كل الجماعة )[169], الخ من آيات عديدة ذكرت (يوشع) . والنص الأخير هو ذاته ما فعله رسول الله (محمد) مع (علي بن ابي طالب) يوم غدير (خم) .
وكان ل(يوشع بن نون) الاثر الكبير في انتقال بني اسرائيل من عصر التيه الى عصر معرفة الربّ , ويبدو جلياً ان النبي (موسى) كان يدرك ان وظيفته تقتصر على نقل بني اسرائيل من عصر الاستعباد والانخداع الى عصر التيه , والتيه كان ضرورياً كفترة زمنية يتم خلالها سحق الصور المنحرفة التي جاء بها العقل الاسرائيلي من الممارسات الفرعونية . لذلك قام النبي (موسى) بأمر الله على تهيئة وصيه (يوشع بن نون) , الذي تمتع بالصفات المناسبة للقيادة , والتي تم صقلها , فأدّى (يوشع) مهمته الربانية احسن الاداء , وهزم الأقوام الوثنية من العماليق والكنعانيين , وقسم الارض بين اسباط بني اسرائيل , ونظّم مجتمعهم ووضع اسس قيام الدولة التوحيدية الاولى[170].
وهناك رأي آخر يقول بأن دخول الاسرائيليين الى ارض كنعان كان على فترات زمنية متباعدة نسبيا , وأن دور (يوشع) كان يقوم على اعادة هيكلة المجتمع الاسرائيلي فقط , وبالتالي كان سبب استيطان ارض كنعان هي الهجرة القبلية والازاحة السكانية[171].
وكان لابد لمخلوقات العالم الآخر بعد ذلك من التهيئة ل( المشروع الشيطاني البديل ) , بعد كل تلك الأحداث والمواجهة . فقضية النبي (موسى) وآياته وقصة بني اسرائيل تركت المجتمع الفرعوني منهاراً ومتزعزعا , لاسيما بعد غرق الفرعون , فكان على الشيطان ان يجد في بني اسرائيل من يفتح مشروعاً جديدا , لترميم المجتمع الشيطاني الفرعوني , ويضرب عصفورين بحجر واحد , يهدم المجتمع الايماني الاسرائيلي , باستغلال الدِين لضرب الدِين , ويرمم المشروع الشيطاني . فكانت فرصة ذهبية للشياطين , وكذلك هي فرصة ذهبية للطامحين من منحرفي بني اسرائيل , بمعنى المنفعة المتبادلة بين عالمينِ ظلاميينِ , ساعد على ذلك رحيل الشخصيات القوية والمركزية مثل النبي (موسى) والنبي (هارون) والوصي (يوشع) .
فانتقلت قيادة بني اسرائيل بعد النبي (موسى) ووصيّه الى عصور القضاة والملوك . اذ بعد وفاة (يوشع بن نون) انقسم بنو إسرائيل إلى قبائل عدة , وكان حكّامهم يُسمَّون ( القضاة ) . وقد انتشرت بينهم الحروب والنزاعات , كما حدثت هزائم كبيرة لليهود , وسُلب منهم التابوت[172], وفيه عصا النبي (موسى) والألواح الأصلية للتوراة[173], وملابس النبي (موسى) وآثار من (هارون) .
وينتهي هذا العصر بآخر القضاة وهو النبي (صموئيل) , الذي طلب منه بنو إسرائيل أن يختار لهم ملكاً يوحد صفوفهم ويقاتلون خلفه[174], فبعث الله لهم الملك (شاؤول)[175], وهو أول ملوك القبائل العبرانية.
ويستخدم اليهود مصطلح (شوفيط) او ( القاضي ) للإشارة الى معنيين[176], معنى عام , وهو الذي يحكم في قضايا الناس , كحال الأنبياء وأوصيائهم , ومعنى خاص , وهو الذي يشير الى زعماء العشائر اليهودية الذين بلغوا مرتبة عالية من السلطتين الدينية والدنيوية . وهذا ما نقلته بعض المصادر .
لكنّ هناك معنى آخر اسمى لمصطلح “القضاة” في المجتمع الاسرائيلي , ملخصه الجمع بين النبوة والحكم والقضاء بين الناس , أي الفصل . وهي الحالة التي كانت ضرورية لإدارة مجتمع بهذا التعقيد الفكري والاجتماعي . كما انها كانت مهمة ايضاً لاستنقاذ الاسرائيليين من سطوة الاحداث والمآسي والغزوات المحيطة بهم .
اما المملكة فأسسها (شاؤول) او (طالوت) , وسُمِّيت مملكة إسرائيل . لكنّ الفضل الحقيقي في تأسيس المملكة يعود إلى (داوود) [177]. و (طالوت) هو الذي اوصى اليه بالمُلك القاضي النبي (صموئيل)[178]. لكنّ بني اسرائيل -كعادتهم المادية وتذمرهم- رفضوا ان يكون (طالوت) ملكاً عليهم[179], فأوضح لهم النبي ان المُلك ليس بالعشيرة ولا بالمال , ووضع لهم القاعدة الكلية للحاكم الصحيح , بأن يتمتع بصفات وخصائص الاصطفاء الإلهي والعِلم والصحة النفسية والجسمية[180].
كما ان مُلك (طالوت) كان مصحوباً بآية ربانية , كانت ضرورية لمثل الثقافة الاسرائيلية في فترة ما بعد الخروج من مصر , وكانت تلك الآية عودة التابوت والسكينة ومواريث ( آل موسى ) و( آل هارون ) , من خلال آلية كونية تنسجم مع قوانين الكون[181].
وضمن جيش (طالوت) المؤمن , استطاع الشاب (داوود) قتل الزعيم الوثني (جالوت) او (جليات)[182], وصار ملكاً عليهم , وحكم فيهم بشرع الله في توراة (موسى) , وظهرت على يديه المعجزات المتتالية , منها تسبيح الجبال والطيور معه عندما كان يقرأ كتب المزامير التي أنزلت عليه[183]. ودعم (داوود) اتحاد القبائل , وحوّلها إلى مملكة متحدة , ووسِّع حدود مملكته , وهزم المؤابيين والعمونيين والأدوميين. وقد خلفه ابنه (سليمان) في حكمها[184].
وبسبب ( الموروث الفرعوني ) تم سلب الراية الايمانية من المجتمع الاسرائيلي المنحرف , والعمل على انطلاق المجتمع الإيماني البديل . فزاد الانحراف في بني اسرائيل , وعانى بينهم الانبياء , وصاروا باباً للفساد , بعد ان كانوا باباً للإيمان . ولعل الاعتقادات التي نشأت في مجتمعهم بشكل مغلوط ناتجة عن الترسبات الفرعونية في العقلية الاسرائيلية , كما في ادعائهم أن ( يد الله مغلولة )[185], أي أنه لم يعد قادراً على التدخل في الكون بعد خلقه , ولا يمكن تصوّر ان تعاليم النبي (إبراهيم) أو النبي (موسى) تضمنت هذه المغالطة في عزل القدرة الإلهية عن التصرف في الخلق . لكن عند تأمّل المعتقدات الفرعونية وتعاليم (كبّالاه) يمكن ايجاد الأصل لمثل هذه المعتقدات , والتي تتجلى اليوم في الأفكار ( الماسونية ) , التي تشبه ما كان يجريه المصريون , وهي عين ما يعلّمه العبرانيون وما يجرونه[186].
فكان من الضروري ان يبعث الله فيهم نبياً قوياً , يقوم بسلب الراية الايمانية من ايديهم , قبل أن يمزقوها , ويسلّمها الى مجتمع نقي , قادر على حملها , ولأن الله الرحيم الحكيم والرؤوف بخلقه فقد اعد مجتمعاً آخر في شبه الجزيرة العربية , بعيداً عن تأثير سموم بني اسرائيل الشيطانية المخلوطة والمغطاة بالدين , هو المجتمع ( السبئي ) , أو مملكة (سبأ) , ومنهم قبيلة (جرهم) احفاد نبي الله (هود) , وهو مجتمع يتضمن خصلة فريدة واساسية هي الاخلاق الرفيعة السامية والانسانية , والتي يأتي الدِين ليتممها , كما عبّر الرسول (محمد) .
ولأداء هذه الوظيفة كان لابد ان يكون هذا النبي حاكماً ملكيا , لأن بني اسرائيل لم يعودوا روحانيين , بل ماديين , معظم ما يبهرهم هو النفوذ والقوة .
كما ان مهمة هذا النبي لن تكون سهلة , لان بني اسرائيل فتحو طرق الارض أمام عبور الشياطين , ( وَأَقْتَرِبُ إِلَيْكُمْ لِلْحُكْمِ, وَأَكُونُ شَاهِدًا سَرِيعًا عَلَى السَحَرة وَعَلَى الْفَاسِقِينَ وَعَلَى الْحَالِفِينَ زُورًا وَعَلَى السَّالِبِينَ أُجْرَةَ الأَجِيرِ : الأَرْمَلَةِ وَالْيَتِيمِ, وَمَنْ يَصُدُّ الْغَرِيبَ وَلاَ يَخْشَانِي, قَالَ رَبُّ الجنود )[187], حتى صار ظهورها امراً مألوفا , بعد ان كانت حكراً على طقوس مغلقة لدى الفراعنة .
من هنا لابد لهذا النبي الجديد من مُلك وسلطة , لا تنبغي لأحد غيره , يغلق بها منافذ اختراق الارض , فكان النبي (سليمان) ضرورة المرحلة الإسرائيلية والتوحيدية تلك . وقد مهّد الله له الأمر , وذلك عندما ابهر ابوه (داوود) بني إسرائيل بقتل (جالوت) عملاق الجيش المعادي لهم , والذي جبنوا عن مواجهته , فقتل (داوود) القائدَ (جالوتَ) , واختاره بنو اسرائيل ملكا , (( وورث سليمانُ داوودَ ))[188].
وفي تلك الفترة من تاريخ بني اسرائيل , ورغم ما أنعم الله عليهم من القيادات الصالحة ورغم الرعاية الخاصة لهم , الا ان اغلبهم اظهروا من المفاسد والمنكرات ما تناقلته الكتب المقدسة المختلفة , بما ورثوه من الفترة الفرعونية , حتى اصبحوا مصدراً كبيراً للشرور على الارض , فكان من الضروري ان تتم تصفية هذا المجتمع المنحرف , مع ابقاء امكانية توبته , فكانت مهمة النبي (سليمان) المزدوجة هي ابقاء باب التوبة والاصلاح , وكذلك سلب الراية الايمانية التوحيدية من ايديهم وتحويلها الى المجتمع البديل الذي خطط النبي (إبراهيم) له من قبل .
ولا يبعد ان يكون النبي (سليمان) و(بلقيس) قد لعبا دوراً مهماً في زرع عقيدة التوحيد في ارض الحبشة , اذ في اسطورة ( ملكة الجنوب ) لقبائل (تيجري) كان هناك وفد من مملكة (سليمان) و(بلقيس) قد وصل اليهم , ( حين كان الشيطان يبني بيتاً لمحاربة الله , وحين وصل الركب كان الشيطان يرفع حجراً ضخماً , لكنه حين سمع بقدوم الوفد هرب وترك الحجر , ليتم بناء كنيسة من تلك الحجارة ) , و( الحجر الشيطاني ) المقصود هي احدى مسلّات (اكسوم) المشهورة كما وصفها (بروس وليتمان)[189]. الامر الذي يعيد الذهن الى الحرب الكونية بين (سليمان) وجيوش العوالم الخفية , التي استخدمت تلك المسلّات بكثرة , لا سيما في العقيدة الفرعونية وطقوسها , كما تم بيان ذلك في كتاب ( صراع الحضارتين[190]) , وهي المسلّة ذاتها التي جعل الإسلام رجمها من طقوس الحج .
واستمر النظام القبلي هو السائد في مجتمع بني إسرائيل طيلة فترة حكم القضاة , ثم توحدت تلك القبائل في ظل نظام اكثر مدنية وتقارباً على يد الأنبياء (داوود) و(سليمان) , ثم انقسمت مملكتهم بعد رحيلهم , شمالية باسم (إسرائيل) , تضم القبائل العشر , وجنوبية باسم مملكة (يهودا) , تضم قبيلتي (يهودا , بنيامين) , وكان النزاع والتصارع وعدم التكاتف موجوداً بين جميع تلك القبائل , بل كانت حتى لهجاتهم مختلفة , وأغلب حروبهم الداخلية كانت على النفوذ[191]. ويبدو ان هذه القبائل كانت تتأثر بالبيئة الخارجية المحيطة بها في طريقة الحياة[192]. بل ان اقوى تلك القبائل منفردة (افرايم) كانت تسكن الى جانب العموريين (العماليق) , وكانت باقي القبائل مشتتة في مساكنها[193].
وفي الفترة التي تلت مملكة (سليمان) اثبتت ان اليهود كانوا يخضعون لقوة (سليمان) , لا لربّ (سليمان) , وأنهم انغمسوا في الوثنية في اعماقهم , وأصبحوا ارضاً خصبة للعبة الشيطانية الكبرى . وأصبحت الظروف سانحة أمام المنحرفين من بني اسرائيل لإعادة العمل بالسِحر الفرعوني , رغم ما قام به النبي (سليمان) من القضاء عليه , لكنهم ظلوا يبحثون عن شريعة (كبّالاه) السِحرية , كما انهم عززوها بتعاليم السِحر في بابل , وهذا ما أكده القرآن الكريم[194].
و(القبَّالاه) او (كبّالاه)[195]مجموعة تعاليم باطنية , توارثها كهنة اليهود , ولها معنى لغوي يفيد التواتر والتقبّل المباشر عن الأسلاف , او التعليم الشفوي .
ثم في نهاية القرن الثاني عشر اخذت شكلاً مستقلاً لدى قسم من الحاخامات , تحت عنوان (مقوباليم) , أي العارفون بالأسرار الإلهية , وصار هناك مصطلح ( أسرار التوراة ) , حتى ظهر مصطلح أكثر تعقيداً وغنوصاً هو (يوردي مركافاه) بمعنى ( النازلين من المركبة ) , ثم مصطلح (بعلي هاسود) بمعنى ( أمناء الاسم ) , ثم مصطلح ( أبناء قصر الملك ) . وحينئذ اعتبر هؤلاء الحاخامات ان النصوص التوراتية رمزية , لا يمكن الاخذ بظاهرها ولا بتفسيرات الفلاسفة لها , فسمحوا لأنفسهم بإيجاد تأويلات خاصة بهم , كلها باطنية , وهذا ما اعطاهم فرصة كبيرة للتلاعب بالنصوص والأفكار الدينية . فجعلوا لكل حرف في التوراة رمزاً ومعنى ورقماً , وصنعوا طرقاً خاصة لقراءتها , ومن ثم لتفسيرها , وبالتالي لا يمكن لغيرهم التحكم بمعاني النص الديني . ففقد النص قيمته الروحية والتربوية , وفقد الناس فرصة الاندماج مع النص الإلهي النقي , وظهرت مجاميع من الفرق الفكرية المتطرفة والغامضة . وبهذا اتجهت (كبّالاه) الى الاندماج بتعاليم السِحر , والتنجيم , والسيمياء , وقراءة الطالع , وتحضير الأرواح , بعد أن ابتعدت عن الرؤية الموسوية للدِين .
كما صار لها رؤية خاصة عن الإله , تختلف عن رؤية المفسرين الفلسفيين اليهود , تزداد ضيقاً وتركيزاً داخل حلقة حاخامات (كبّالاه) , بعد أن كانت ضيقة أصلاً داخل الشعب اليهودي نفسه الذي يرى أنه ( شعب الله المختار ) .
ونتيجة كل ما جرى أعلاه تشكلت الثنائية الكهنوتية الإسرائيلية . فبعد خروج اليهود من فلسطين ظهر فيهم مفهوم جديد , هو الثنائية الاعتقادية والاجتماعية , فقسم منهم التزم شريعة النبي (موسى) وآبائه , وآمن بالرب الذي وصفه النبي (موسى) لهم من خلال شريعته , والقسم الآخر ظلت ترتكز في ذهنه صورة الرب المصري ( المادي الخفي ) . من هنا نشب الصراع بين الكهنة والانبياء , وكلاهما كانت له شعبيته ونفوذه . وقد استمرت هذه الثنائية في المجتمع الاسرائيلي حتى توسّع الانقسام وانفصل المجتمعان .
واليوم مصطلح ( اليهود ) يشير الى المجتمع الاسرائيلي الذي اتّبع الكهنة , والذي يعتقد بالإله المصري . اما المجتمعات اليهودية التي احتفظت ببعض العقائد النقية فقد انعزلت في تجمعات خاصة في الشرق الاوسط .
وهذه الثنائية هي التي تفسر ما عاناه الانبياء (ارميا[196]) و(اشعيا) و(دانيال) داخل المجتمع الاسرائيلي , حيث تم نبذ هذا الشعب[197], فيما كان اليهود السبب الرئيس في قضية صلب المسيح (عيسى)[198].
لكن كان يهود السبي في (آشور)[199]من اول المؤمنين بالمسيح , في القرن الاول الميلادي[200], وساهموا في قيام المسيحية النسطورية , التي تعتبر احدى انقى الفرق المسيحية تاريخياً من ناحية الاعتقاد .
ومن هذه المواجهة -وبإضافة المواقف التي تذكرها التوراة للأنبياء بوجه الكهنة- يمكن معرفة مدى خطورة هذه التعاليم الشفوية المنقولة , لمن عرفها , ولابدّ انّ الكثير منها قد تمّ إخفائه عن العوام , كما قرّر المجمع المنعقد في بولونيا سنة ١٦٣١م بالإجماع ( حذف العبارات التي تهين الأغيار , وأنّ التعاليم التي تهين المسيحيين لا يصح نشرها ) . ويبدو اقرب للذهن -من خلال قراءة هذه المعطيات- انّ تلك التعاليم المتسببة في هذه المواجهة التاريخية الضخمة -الى درجة الانقسام- ليست سوى مجموعة تعاليم (القبّالاه) او (كبّالاه) , السِحرية المأخوذة عن طقوس العقيدة الفرعونية السِحرية , بعد الخروج من مصر , حيث تمّ تدوينها في بابل . لذلك لم يكن غريباً ان تتضمن التوراة السنهدرينية أوامر لقتل الأطفال والنساء , وحرق المدن والقرى , ونسبة كل رذيلة لأنبياء الله وأوليائه , مما يعني سيطرة كهنة الحضارة ( القابيلية ) على المجتمع الاسرائيلي , الذي كان يحمل رسالة الله التوحيدية , ولذلك كان الإعلان الأخير للمسيح ببراءة الله من هؤلاء الكهنة -والذي تم ذكره في الانجيل بطريقة احتفالية- ضرورة توحيدية . ومن هذين المقدمتين أيضاً كان من الطبيعي أنْ يدافع شيخ القبّاليين (موسى بن ميمون) عن التوراة السنهدرينية , تفسيراً وفقهاً وفلسفةً , في كتبه ( السراج ) و ( تثنية التوراة ) و ( دليل الحائرين ) , وأن يعتبره ( القبّاليون ) بعد ذلك ( شيخ الحكمة ) .
لكن في ظلّ هذه الروح الفرعونية الجديدة ذات الصبغة اليهودية , كيف حدثت تلك المواجهات العنيفة بين المجتمع اليهودي بدوله وإماراته وجماعاته وبين الفراعنة وجيوشهم , او مع الفرعونية العالمية الجديدة (الرومان) ؟!
يمكن الإجابة على هذا التساؤل بزيادة البحث في عمق الباطنية المشتركة بين هذه الأطراف الثلاث , وكذلك في عمق تاريخها , لمعرفة مدى إمكانية تغيير مراكز النفوذ , او ادراك آلية التحكم والسلطة .
لكن فيما يبدو انّ هذه المجتمعات لم تكن واضحة الباطنية , حيث اختصّ ذلك العالم السِحري ب ( الملأ ) , من سياسيين وماليين وعسكريين كبار , وفي الكهنوت الديني , لذلك كان الصراع بينها نتيجة للتيّار الاجتماعي والسياسي العام الغالب . كذلك يمكن ان يكون الصراع ناشئاً بين فئات موحِّدة في طرف , وبين فئات وثنية في الطرف الآخر , وذلك لا يمنع انجذاب الشبيه الآخر الى شبيهه في المجتمع المضاد رغم الحرب والصراع .
اما في السنين الاولى للخروج من مصر فلم يكن الامر اكثر من اثر للعداء التاريخي بين الفراعنة وبين الهكسوس , الذين تمّ احتساب بني اسرائيل عليهم , والأكيد انّ (مرنبتاح بن رعمسيس الثاني) في حملته ضد المقاطعات الآسيوية لم يكن يحترم كثيراً الوجود الاسرائيلي .
لكنّ الغرابة تكمن في عودة العلاقات بين مصر الفرعونية وبين مملكتي (بيت عومري) , وهي (إسرائيل) في التوراة , و (يهودا) . حيث كان من المتوقع ان تكون لمملكة وثنية كإسرائيل خيوط ارتباط بالفرعونية المصرية , وقد شكّلت خطراً على المملكة الموحدة في أورشليم (يهودا) , لذلك قام الآشوريون – بطلب من ملك يهودا (آحاز بن يوثام) – بحملة تأديبية كبرى على (بيت عومري) , في عهد الملك الآشوري (تجلاث بلاشر الثالث) , فأسقط ملكها (فقح) , وترك لخلفه (هوشع) مدينة (السامرة) فقط . ثمّ عادت (آشور) بحملة أخرى في عهد (شيلمنصر) لمحاصرة (السامرة) , وأتمت احتلالها في عهد (سرجون الثاني) , لتسقط نهائياً وجود مملكة (بيت عومري) .
لكنّ مملكة (يهودا) هي الأخرى خالفت امر نبيّها (اشعيا) , فارتبط ملكها (حزقيا) بمصر الفرعونية , في عهد الأسرة الخامسة والعشرين النوبية , وهي الأسرة الاشدّ انتماءً للديانة الفرعونية القديمة في وثنيّتها , حيث قامت باحتلال جميع بلاد مصر تحت دعوى اعادة الديانة الفرعونية الأصيلة . وقد حذّر النبي (اشعيا) من يطلب مساعدة أولئك الفراعنة بأنه يبحث عن الدعم المادي لا الإلهي[201]. لذلك قام (سنحاريب) خليفة (سرجون) بحملة على هذه المملكة المتمردة , ورغم إرسال فراعنة مصر جيشاً لنصرة مملكة (يهودا) إِلَّا انّ (سنحاريب) انتصر عليهم , ثمّ قسّم الكثير من أراضي المملكة اليهودية على الممالك الأخرى القريبة الموالية لسلطانه . وقد ترك الآشوريون هذه المملكة منهارة , تدفع الجزية لهم . لكنّ (يهودا) عادت لتتمرد على أوامر الله مرة أخرى , فخالفت امر نبيّها (ارميا) , فتحالفت مع فراعنة مصر مرّة أخرى , وحاولت الخروج عن سلطان الكلدانيين البابليين , ورثة الدولة الآشورية , فشنّ (نبوخذ نصّر الثاني) حملة لتأديبهم , وحاصر أورشليم , حيث توفي ملكها (يهوياقيم) اثناء الحصار , فخلفه ابنه (يهوياكين) , الذي اضطر الى الاستسلام , فعيّن (نبوخذ نصّر) الملك (صدقيا) – عمّ (يهوياكين) – بدلاً عنه . إِلَّا انّ (صدقيا) عاد الى الدخول في الحلف الذي أنشأه فرعون مصر (حوفرا) , للتمرد على (نبوخذ نصّر) , وتدخّل النبي (ارميا) مرة أخرى , لثني (صدقيا) عن ارادته هذه , إِلَّا انّ التمرد النفسي قاد الى التمرد السياسي , فغضب (نبوخذ نصّر) , وَقاد حملة عسكرية بنفسه , حاصر بها أورشليم , إِلَّا انّ فرعون مصر (حوفرا) أرسل جيشاً لنصرة مملكة (يهودا) , فانسحب البابليون الكلدان عن أورشليم لملاقاة المصريين , فظنّ اليهود انّ النصر حليفهم , ولم يأخذوا بنصيحة نبيّهم (ارميا) , الذي اخبرهم بوهم هذا الاعتقاد , فسجنوه , في وثنية مبطّنة خطيرة , إِلَّا انّ الفراعنة انهزموا أمام البابليين , فعاد البابليون لمحاصرة أورشليم , وأسقطوا مملكة (يهودا) .
وكان من نتائج كل هذه الحملات الآشورية والبابلية أربعة أمور مهمة . أوّلهم سبي إعداد غفيرة من اليهود الى شمال العراق وجنوبه , تهيأت لهم فرصة الانفلات عن غلواء الفرعونية الباطنية , التي قادها زعماء الكهنوت السياسي , مما جعل هؤلاء اليهود المسبيين احدى الطوائف الاول التي آمنت بالسيد المسيح لاحقا . وثانيهم وضوح الاختلاف بين المجتمع النبوي في اسرائيل وبين المجتمع الكهنوتي السياسي . وثالثهم تعرّف الساسة العراقيين على المجتمع النبوي الاسرائيلي والتواصل معه . ورابعهم هجرة جماعات من كهنوت السياسة اليهودية الفرعونية نحو أوروبا وشمال افريقيا , خلال الفترة التاريخية ٨٠٠ – ٥٨٦ ق م .
ورغم انّ الانحراف والشرخ بدا واضحاً داخل المجتمع اليهودي بقرون قبل ميلاد السيد المسيح , كذلك تحكي سيرة المؤرخ المتذبذب (فلافيوس جوزيفاس) كيف انّ هناك ناساً من اليهود كانوا يوالون الدولة الرومانية اكثر من ولائهم لليهودية , حيث عيّنه الرومان حاكماً على (الجليل) , بعد زيارته روما عام ٦٣م , ثمّ قاتل الى جانب الرومان في زمن (طيطوس) , ومنحه (ڤاسبيان) لقب مواطن روماني , إِلَّا انّ القسم الآخر من اليهود كان لازال يحتفظ بخصائص بلاد الرافدين , حيث كانوا يوقدون النيران في الليل ليرشدوا السائرين , وليدعوهم الى الضيافة والاكرام , كما كان يفعل العرب , اعلاءً لشرفهم وصيانة لمجدهم[202]. ومن ذلك يُعلم مدى عمق الصدع داخل الكيان اليهودي , بسبب الاختلاف الساري فيهم في فلسفتهم الاعتقادية بعد خروجهم من مصر الفرعونية , حيث تحوّلت العقيدة الى سلوك ورؤية للحياة .
انّ أشدّ الفترات على الوثنيين من اليهود كانت خلال الفترة ٨٠٠ – ٧٠٠ ق م , وهي ذات الفترة التي خرجت فيها عوائل فرعونية كبيرة من مصر , عند سيطرة الأسر الليبية على الحكم , ومن ثمّ الأسرة الخامسة والعشرين النوبية , لذلك شهدت أيضاً هجرة إعداد كبيرة من الأسر الباطنية الوثنية التي كانت تدير دفّة السياسة والكهنوت في (بيت عومري) او اسرائيل , وهي ذات الفترة التي شهدت انشاء (روما) في العام ٧٥٢ ق م , لذلك لا يمكن استبعاد أنْ تكون العلاقة بين هذه الحوادث وثيقة , خصوصاً مع وجود العلاقة الاعتقادية الباطنية التي ثبتت أعلاه . وبالفعل كان اليهود حاضرين بكثافة في العاصمة روما في ظلّ حكم (نيرون) , مما سمح له باتهامهم بحرق المدينة , ولا يُستبعَد قيامهم بذلك , رغم كل الاتهامات بالأمراض النفسية الموجهة الى (نيرون) , والتي تريد تحميله وزر احراق المدينة , اذ لا مبرر مقنع ليقوم الإمبراطور بحرق عاصمته الكبرى .
لقد ظلّ اليهود في دائرة من الضباب الفكري , منقسمين فكراً وسلوكاً حتى ظهور المسيحية , حيث آمن يهود الشتات بها , في العراق , وفي شمال افريقيا , وفي عدّة بلدان أخرى , فيما ظلّ يهود (السنهدرين) مصدراً لمعاداتها في اليهودية , انطلاقاً من الهيكل . ثمّ تغيّرت الموقف , حين صار يهود الهيكل او (السنهدرين) هم مَن في الشتات , وصار يهود الشتات السابقون مستقرين في اوطان تؤمن بالمسيحية .
وقد اغلقت التوراة المحرفة وتفسيرها (التلمود) الأبواب على كل من أراد الدخول في ( شعب الله ) , في أجلى صورة للعنصرية , ما يعني إرادة إغلاق ملف ( التوحيد ) , لولا تدخّل العناية الإلهية عن طريق النبي (سليمان) .
والمجتمع الروماني هو المجتمع الوحيد الذي وجد انسجاماً سلوكياً وتحالفاً سياسياً مع الفاسدين من كهنة اليهود , بعد المجتمع الفرعوني . لذلك تمتع اليهود الفاسدون في العهد الروماني بما يشبه المعاملة الحسنة . على خلاف ما لاقاه اليهود الذين ظلوا بعيدين عن الوثنية . حتى وصل الامر الى الحكم بإعدام المسيح (عيسى) , بتشريع يهودي , وتنفيذ روماني .
الامر الآخر هو قيام الدولة الرومانية بذبح المئات من المسيحيين الحقيقيين , لكنها تحولت فجأة بعد ذلك الى المسيحية , بثوب وثني وفلسفة ثالوثية , لتذبح المسيحيين الموحدين ايضاً بداعي التجديف! . وهذه المفارقة هي ذاتها التي عاشها اعداء المسيح التقليديين من اليهود , مثل (بولص) , الذي تحوّل ليكون داعية الى المسيحية , لكنها المسيحية الوثنية الرومانية ذاتها , ذات الأصل الفرعوني ربما .
لكنّ الامر ليس كذلك , حيث انّ (دقلديانوس) خرج بأمر إهلاك المسيحية من داخل الغرفة المقدسة في المعبد , وهو الرجل الذي كان يشغل المسيحيون الكثير من الوظائف داخل قصره , فيما كان صهره (جالريوس) وثنياً متعصباً , وهو زوج (فالريا) ابنة الإمبراطور التي كان البعض يراها مسيحية , وكذلك أمها (بريسكا) ! . انّ هذه الشبكة التي احرقت المسيحيين لاحقاً لم تكن يوماً لتؤمن بالمسيحية أبدا , لكنها بدأت مشروعاً جديدا , حين وصلت بالمسيحيين الى ما وصلت اليه الفرعونية باليهود , حينما جعلت قسماً منهم يهوداً وثنيين , يقودهم كهنوت الظلام في السنهدرين , كذلك أصبحت المسيحية على قسمين , نتج احدهما عن كهنوت الظلام الجديد الذي أسسه (بولص) .
انّ هذا المشروع يقتضي إبادة كل الجماعات المسيحية التي لا تزال توّحد الله , والإبقاء على الجماعات ( البولصية ) , التي ستتعبّد بالديانة الرومانية الجديدة , وهي القائمة على الوثنية ( البولصية ) , التي يمكن ان تسميتها النسخة المحدَّثة عن الديانة الرومانية القديمة , والتي هي أيضاً كانت نسخة محدثة عن الديانة الفرعونية القديمة .
وفيما تصف الكنيسة المعاصرة -بسذاجة- القيصر (قسطنطين كلوروس) بالعطوف على المسيحيين في الغرب , وتُرجِع لابنه (قسطنطين) الفضل في الاعتراف بالمسيحية والتسامح الديني , تفوتها تلك المؤامرة على مسيحية الشرق الموحِدة , ضمن لعبة لانعاش القابيلية الفرعونية الرومانية , تحت راية المسيحية , بعد ادراك الرومان قوّة هذه الديانة , وشريانها في المجتمع العالمي رغماً عنهم .
ومن اهم مغالطات وبدع (بولص) التي جاء بها من الطقوس الفرعونية -المرتبطة ب(اوزوريس) – فكرة ( القربان المقدس ) , حين يشترك المؤمن في شرب دم المسيح الذي افتداه[203], والتي كان اليهود والمسيحيون الأوائل يرونها من عادات الوثنيين , وهي المقاطع التي تتوافق مع معتقد (بولص) في رسالته الثانية لأهل كورنثوس[204], ورسالته الاولى لهم[205], والغريب انّ (بولص) يدّعي تسلّمه ذلك الطقس بالوحي عن طريق ( الرَّبّ ) , كما في رسالته لأهل كورنثوس[206]. ومن الاعمال التي ابتكرها (بولص) كان إنشاؤه للكنيسة , حيث لم يكن المسيحيون -والنبي (عيسى) كذلك- قد اسسوا مراكز دينية خاصة بهم , وهذا ما يكشفه الكتاب المقدس في اعمال الرسل[207]. لكنّ (بولص) أراد ان تكون لسلطته تراتبية ادارية , مشابهة لما كانت عليه الوثنية الفرعونية , والرومانية , وكذلك ما يمكّنه من منافسة الكهنوت اليهودي القائم على مركزية الهيكل . وهو الامر الذي أعطى للرومان لاحقاً القدرة على إدارة دفّة الأمم المسيحية .
واستمراراً للسلوك الفرعوني في الزواج من المحارم , قام (هيراكليوس) بالزواج من ابنة شقيقته (مارتينا) , بعد وفاة زوجته الاولى (اودوكيا) عام ٦١٢م , أمام نظر الكنيسة الرومانية .
وبملاحظة بسيطة يمكن ادراك ان ربط تاريخ النبي (موسى) بتاريخ تعاليم (كبّالاه) والتاريخ السياسي الصهيوني لا يستقيم مع التأريخ التوحيدي الإبراهيمي , لكنه يتفق مع الرؤية الباطنية للدين الاسرائيلي الفرعوني , القائم منذ خروجهم من مصر حتى اليوم على اعتقادات وفلسفة (كبّالاه) الفرعونية , وريثة الاعتقادات الفرعونية السِحرية الشيطانية . والملفت للنظر ان المقارنة العلمية بين هذه الاعتقادات وبين اعتقادات شعوب أخرى تثبت توافقاً كبيرا . فمثلاً يمكن ملاحظة الثنائية الوجودية بين النور والظلام , بين الرب والشيطان , او ملاحظة تعدد الارباب , والناشئ من طريقة التواصل مع العالم الآخر , حيث يكون الشيطان سيّداً , بينما مجموعة من افراد ( الجنّ ) تكون لهم مهام المساعدة . كذلك الاعتقاد بأن هذه الآلهة هي من ساعدت الانسان في النهوض , بعد ان تخلى الرب عنه , وهي من دلته على شجرة المعرفة . وترى هذه الثقافات ان الانسان بإمكانه الاندماج في عالم الآلهة , لكن بشرط القيام بطقوس تستحضر مجموعة من الآلهة المساعدة .
لذلك كانت اهم عقيدة أسس لها زعيم الماسونيين النورانيين (بايك) في رسالته الى زعماء المحافل الكبرى في تموز ١٨٨٩م قد تضمنت فكرة قديمة , لكن بطريقة جديدة , انها ( الثنوية ) , الايمان بوجود إلهين , هما الربّ والشيطان . وفلسفة انّ ذلك ضروري في عالم الآلهة نظّر لها (بايك) . و( الثنوية ) معتقد قديم , كان في مصر الفرعونية , لكنّ (بايك) قرّر طرحها بأسلوب جديد , وذلك عبر إثبات انّ الأديان سيئة , وبالتالي الأنبياء , ومن ارسلهم , سيئون , فيما (ابليس) أو (لوسيفر) هو الوحيد الذي يهتم للنشأة الانسانية . وذلك لا يمكن ان يتمّ الّا بعد مرحلة هجوم وتغلغل إفسادي داخل الأديان , كما في الحركة والسرقة ( البولصية ) , ثمّ مرحلة اتهام للأديان , تنتج مرحلة الحادية , ثمّ يتم ضخ العقيدة الشيطانية , كبديل واقعي , يهتم للمعارف والحاجات الانسانية , ويشارك الملحدين موقفهم ضد الأديان الإبراهيمية .
ومن اغرب التقارير التي نُشرت كان تقرير (بازمان) عام ١٩٠٧م , الذي يتحدّث عن انّ ( منطقة شمال افريقيا وشرق البحر المتوسط هي الوريث المحتمل للحضارة الحديثة , ولكن هذه المنطقة تتسم بالعداء للحضارة الغربية … ) , ومن ثمّ دعا الى اعادة هيكلتها ديمغرافياً . ويبدو انّ هذا التقرير -الذي فهمه العرب كدعوة لإنشاء اسرائيل واغتصاب فلسطين- كان ابعد في مراميه , حيث يهدف الى العودة نحو مصدر ومنبع الديانة الفرعونية . ولعلّ الهرم الذي يعلو مبنى ( المحكمة العليا الإسرائيلية ) , التي تمّ تشييدها بأموال عائلة (روتشيلد) , يحكي قصة العلاقة بين الجديد والقديم[208].
وايجاد يهود ال(كبّالاه) لمفهوم (يهوه) التجسيدي , والذي يحل معهم اينما رحلوا , كما ان وجوده –بتصويرهم– يشكّل سبباً لانتصار شعب اسرائيل , كان ضرورياً لتمهيد الاذهان لما يُسمّى في الثقافة الاسلامية ( الاعور الدجال ) . فقد بات الاسرائيليون يعتقدون بإمكان تجسد الإله , بل ضرورته , وفي مرحلة لاحقة –وبتأثير يهودي– تم زرع فكرة ( ابن الرب ) في المسيحية , حيث تكون عودته ضرورية ايضا , ومن هنا فلن يكون مستغرباً تجسد الشيطان وظهوره مستقبلا , كما خططت الديانة الفرعونية . والسبب ان ظهور الشيطان مرتبط بظواهر خارقة للطبيعة , تتعدى المعرفة البشرية , لذلك كان من اللازم تربية الذهنية البشرية على فكرة التجسد الإلهي .
وليس من الصعب على الباحث معرفة انّ (بولص) لم يأتِ بعقيدة ( ابن الرَّبّ ) , وأسطورة ( الأب , الابن , الروح القدس ) وكونهم ( إلهاً واحداً ) , من خيالات نفسه , بل هي عقيدة قديمة , تواجدت في بلاد الفراعنة , ومنها انطلقت الأقانيم المصرية الفرعونية الشهيرة . فبعد انتصار فراعنة الأسرة الثامنة عشرة الطيبيين على الهكسوس , وانتشارهم في آسيا , تمّ توحيد الإلهين الكبيرين (رع) و(آمون) في أقنوم واحد , هو الإله (آمون – رع) , الذي اصبح كبير الآلهة , وتمّ تكريس معبدين في (الكرنك) و(الأقصر) لأداء الطقوس لهذا الأقنوم الجديد . وهذه الثلاثية توجد في أقنوم (آتوم – شو – تفنوت) , الذي خرج من الاوقيانوس الأزلي (نُون) , لكنّه كان ثلاثة في واحد , اذا تم القبول بالرؤية الشائعة حول هذه الثلاثي , بعيداً عن التفسير الخاص لها . امّا أشهر الأقانيم التي عنها أخذت مسيحية (بولص) اقنومها فكان الناتج عن عقيدة (أوزوريس – إيزيس – حورس) , (الأب – الام – الابن) , تلك الآلهة المصرية الكبرى , والتي تحكمت في مجمل حركة العقيدة الفرعونية .
امّا قيام (يسوع) من بين الأموات فقد جاء به (بولص) من العقيدة الفرعونية , التي تؤمن بقيام (أوزوريس) من بين الأموات . حيث ترى تلك العقيدة انّ (أوزوريس) قد قُتِل , ومن ثمّ قام من بين الأموات , وجعلت عيده السنوي يرتبط بهذه الحادثة . وقد جرت العادة في بعض الحضارات المتفرعة عن الفرعونية على قتل ملوكهم , افتداءً للشعب والنعمة , كما هو الحال في افتداء المسيح لشعبه في عقيدة (بولص) . وفي بعض الحضارات السودانية -القريبة الى الفرعونية- كان الملك -في حالة اعتلاله- يرضى بالقتل , فداءً لصحة شعبه . فيما ذكر (مانيتون) -المؤرخ المصري- انّ المصريين كانوا يضحّون برجل اصهب على قبر (أوزوريس) , ثمّ يذرّون رماده .
امّا الاحتفال الغريب بمولد المسيح -الذي يُفترض انه ولد في ١ فبراير- فيتم في يوم ٢٥ ديسمبر , وهو ليس سوى اعادة للاحتفال بالعيد الشمسي لمولد (رع) , إله الفراعنة المصريين , والذي كان يطلق عليه المصريون (مسو – رع) . لذلك ليس غريباً بعد ذلك ايجاد صور ( العذراء مريم ) مع طفلها (يسوع) بنسخة مأخوذة عن صور (إيزيس) مع طفلها (حورس) .
من هنا كان التعبير القرآني -في وصف تلك العقائد المبتدعة بما عليه حال الأمم الوثنية السابقة عليها- دقيقاً وصائباً , (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ))[209], فيما يتساءل القرآن الكريم في الآية التالية عن منطقية التوحيد الذي عليه مثل هؤلاء المبتدعين وأتباعهم , (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ))[210].
ولعلّ أشهر المشتركات الرمزية بين الديانتين الفرعونية ومسيحية (بولص) كان ( الصليب ) , او (عنخ) بالفرعونية . وهذا الرمز لم يكن مسموحاً الا للملوك او الملكات الفراعنة بحمله , لأنه يرمز الى الحياة , ومن يحمله فقط له سلطة منح او سلب الحياة من البشر ذوي المراتب الدنيا , لذلك كان حمله من قبل البابوات البولصيين دليل السلطنة . وكان الفراعنة يصنعونه من خزف القيشاني , ومزيّن بصولجان له رأس كلب , ليرمز للقوة , وتمّ تعديله ليلائم العقائد الإبراهيمية .
امّا الكنيسة المصرية في الاسكندرية , التي كانت تعاني فعلياً معضلة التناقض بين إرثها الوثني الفرعوني , الذي يتماشى مع ما جاء به (بولص) من تأليه ل(عيسى) , حيث كان امتداداً للطبيعة المتناقضة التي تمتعت بها الآلهة (أوزوريس – إيزيس – حورس) , وبين جوارها للمدرسة التوحيدية الشرقية في بلاد الرافدين , بما فيها سوريا , فقد حاولت الإبقاء على الوضع الوثني لمسيحية (بولص) , من خلال وقوف زعيمها (كيرلس) بوجه المدرسة النسطورية , في ذات الوقت الذي حاولت الاعتراف بطبيعة ناسوتية للمسيح , لتوائم بين الجهتين , فقالت انّ للمسيح لاهوت وناسوت , لكنّهما امتزجا كامتزاج النار والحديد , مستغلّة الجهل العلمي في تلك الفترة , لأنّ النار والحديد لا يمتزجان حسب قوانين العلم المعاصر .
ورغم فهم الاشتراك بين الكنيسة الرومانية (الكاثوليكية) والكنيسة المصرية (القبطية) , والمتجسد في اعتقادهما معاً انّ للمسيح ناسوتاً ولاهوتاً في ذات الوقت , إِلَّا أنه ليس من الواضح بالدقة سبب افتراقهما منذ مجمع (خلقدونية) . لكن على الارجح انّ اختلافهما في صورة ( الأقنوم المسيحي ) , هل هو منفصل في ناسوته عن لاهوته ؟ , فكلاهما يراه – كما كان (أوزوريس , إيزيس , حورس) – إلهاً متجسدا . لكنّ الغموض الشكلي والفلسفي لهذا الأقنوم الوثني الموروث عن الديانة الفرعونية الرومانية المشتركة لا زال غامضاً غير مفهوم , ولم يستطع الإجابة عن اشكالية الولادة البشرية وتناول الطعام المادي وغيرها من المظاهر لهذا الأقنوم الإله المفترض .
لهذا كله أصبحت قصة النبي (موسى) مع فرعون محوراً قصصياً مهماً في القرآن الكريم , لما لها من اثر في الماضي والحاضر والمستقبل , وللأسرار التي تركها الفراعنة في عناوين الحاضر البشري , كما تم بيانه في كتاب ( صراع الحضارتين ) , حيث انهم يقودون جميع عوالم الظلام الأرضية المعاصرة والسالفة[211].
[1] سفر إرميا 46 : 9
[2] سفر حزقيال 29: 10
[3] سفر حزقيال 30
[4] سفر ناحوم 3 : 9
[5] المادة الآثارية : عن كتاب : الديانة المصرية القديمة – ياروسلاف تشيرني – ترجمة : د . احمد قدري – مراجعة : د . محمود ماهر طه – دار الشروق ,,
وكتاب : ١٠٠ حقيقة مثيرة في حياة الفراعنة – رئيس هيئة الاثار المصرية : زاهي حواس – دار نهضة مصر للنشر – ٢٠١٠ ,,
,, وكتاب : كهان مصر القديمة – سيرچ سونيرون – ترجمة : زينب الكردي – مراجعة : د. احمد بدوي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – ١٩٧٥ ,,
وكتاب : الحضارة المصرية القديمة – جورج هارت – ترجمة : هالة حسانين – إشراف : داليا محمد ابراهيم – شركة نهضة مصر للطباعة ٢٠٠٧
[6] سورة الأعراف 27
[7] سورة الزخرف 36 – 38 , وسورة ق 23 و 27 , وسورة الصافات 51 – 56 , وسورة فصلت 25 , وسورة النساء 38 , و صحيح مسلم , حديث ٢٨١٤
[8] سورة الذاريات 49
[9] الديانة المصرية القديمة , تشيرني , ٦٩
[10] محمد متولي الشعراوي
[11] سورة الانعام 112
[12] سورة فصلت 30 , وسورة النحل 2
[13] الكافي , الكليني , دار الكتب الإسلامية , ج1 , ص 129
[14] انظر : لغز الهرم الكبير , أنطوان بطرس , شركة رياض الريس للكتب والنشر, 1998 , ص 175 وما بعدها
[15] الديانة المصرية القديمة , تشيرني , ص ٣٧
[16] تطور الفكر و الدين في مصر القديمة , جيمس هنري بريستد , ص ١٨٥
[17] الديانة المصرية القديمة , تشيرني , ص ٤٤
[18] تاريخ مختصر الدول , أبو الفرج غريغوريوس المعروف بابن العبري , تحقيق : أنطون صالحاني اليسوعي , دار الشروق – ١٩٩٢
[19] سورة مريم 44
[20] سورة النور 21
[21] سورة طه 77
[22] سورة الشعراء 63
[23] سورة البقرة 50
[24] سورة الأعراف 116
[25] سورة يونس 81
[26] سورة العنكبوت 38 , سورة النمل 24 , سورة لقمان 21 , سورة المجادلة 10
[27] انجيل متى , الاصحاح الاول
[28] سورة البقرة 132 – 134
[29] تاريخ المشرق , ماسبيرو , ص ٣٧
[30] العرب واليهود في التاريخ , سوسة , ص ٧٣
[31] نفس المصدر , ص ٧٥ , بتصرف
[32] العرب واليهود في التاريخ , سوسة , ص ٧٥
[33] العرب واليهود في التاريخ , ص ٧٨
[34] سورة يوسف 43 و 50 و 72
[35] العرب واليهود في التاريخ , سوسة , ٧٨
[36] سورة يونس 83
[37] الحضارة المصرية القديمة , جورج هارت , ص ٢٢ = حيث بحلول ٢١٥٠ ق م انتهى عصر بناة الأهرام واختار معظم الفراعنة بعد ذلك بدءاً من تحوتمس الاول الى رمسيس الحادي عشر ان يدفنوا في مقابر في وادي الملوك
[38] نفس المصدر , ص ١٠
[39] نفس المصدر
[40] الديانة المصرية القديمة , تشيرني , ١٧٦ – ١٨٠ بتصرف
[41] الهكسوس , بحث إلكتروني لمفتش اثار المنيا : محمود مندراوي , نشر الموقع المتخصص (حراس العقيدة) – ٢٠١٦ , ص ١١
[42] أثبتنا جميع ذلك في كتابنا (صراع الحضارتين) .
ان منتجي (مسلسل يوسف الصديق) الايرانيين تصوروا خطأً ان الكهنة كانوا يخدعون الناس في قضية تكلم الآلهة , عن طريق تقليد صوتها من النوافذ , لكن الواقع ان منتجي المسلسل كانوا يجهلون حقيقة الاندماج بين المجتمع السحري المصري والشياطين عبر (الكابالا).
[43] تاريخ المشرق , ماسبيرو , 37 و 38
[44] سورة طه 85 – 88
[45] سورة القصص 76 – 80
[46] المستدرك على الصحيحين , الحاكم النيسابوري , الجزء الثاني , ح 3593
[47] الشركات متعددة الجنسيات , لتفاصيل اكبر يمكن مراجعة كتاب “عقيدة الصدمة” , تأليف : نعومي كلاين
[48] ( نحن انحدرنا من مستوى كنا فيه مترابطين معاً ومع الواقع , حتى وصلنا الى مكان يدعى الفاصل او الحاجز , مما أدى الى تحديد وحصر وجودنا في هذا العالم الذي نعيش فيه ) , موقع (حكمة الكابالا) العربي , سلسلة محاضرات لدراسة الكابالا , الدرس الثاني
[49] سورة الأعراف 116
[50] ( … ومع ذلك فان علماء الكابالا , والذين احرزوا العالم الروحي , يقولون لنا انه -لهدف معين- نحن انحدرنا من هذا المكان , أي من هذا الواقع الكامل لوضعنا الحالي في وقتنا الحاضر من خلال نظام يدعى ” العوالم ” . ان المعنى الجذري لكلمة “عالم” في لغتها الاصلية تعني ” الاختفاء ” ) , , موقع (حكمة الكابالا) العربي , سلسلة محاضرات لدراسة الكابالا .
والمقصود بمصطلح “الواقع الكامل” هو “الإله”, لكنهم لا يصرحون بهذا في منشوراتهم العلنية .
[51] انظر كتاب : الديانة المصرية القديمة , ياروسلاف تشيرني
[52] انظر كتاب : ما وراء الفقه , للسيد محمد الصدر
[53] انظر كتاب : ما وراء الفقه , للسيد محمد الصدر
[54] انظر : سورة طه 56 – 72
[55] الروافد الوثنية للثقافة اليهودية , الباحث : محمد حسن المبارك
https:,,saaid.net,Doat,almubark,8.htm
[56] القرآن الكريم : سورة طه 56 – 76
[57] سورة طه 17 – 21
[58] سورة الأعراف 107 – 109
[59] سورة الشعراء 30 – 32
[60] سورة طه 66 – 68
[61] سورة الشعراء 44 – 48
[62] سورة الفرقان 35
[63] سورة القصص 34
[64] وقد جمعت سورة طه المعنيينِ : 27 – 30
[65] سِفر الخروج 32
[66] سورة طه 85
[67] سورة طه 90
[68] سفر الخروج , الاصحاح الثامن , 5 – 6
[69] سفر الخروج , الاصحاح الاربعون , 12 – 15
[70] سورة القصص 15
[71] سورة القصص 14
[72] سورة الانعام 43
[73] سورة يس 60 , سورة الزخرف 62 , سورة البقرة 168 – 169 , سورة فاطر 6
[74] سورة القصص 16
[75] سورة القصص 17
[76] الميزان في تفسير القران , محمد حسين الطباطبائي
[77] سورة القصص 18
[78] سورة القصص 18
[79] سورة القصص 19
[80] سورة القصص 20
[81] سورة القصص 21
[82] سورة القصص 22
[83] سورة القصص 23 – 28
[84] سورة القصص 29
[85] سورة القصص 30
[86] سورة القصص 30
[87] سورة القصص 31
[88] سورة القصص 31
[89] سورة النمل 10 – 11
[90] سورة الأعراف 143
[91] سورة الأعراف 145
[92] سورة القصص 38
[93] سورة غافر 36
[94] سورة طه 56
[95] سورة طه 57 – 58
[96] سورة الاسراء 101 – 106
[97] جاء في (تاريخ مختصر الدول , ج 1 , ص 20) : وزعم المعنيون بتعريف طبقات الأمم انه كان بمصر بعد الطوفان علماء بضروب علوم الفلسفة من الرياضية والطبيعية والالهية وخاصة بعلم الكيمياء والطلسمات والنيرنجيات والمراءي المحرقة .
[98] اعمال الرسل , الاصحاح السابع , 22
[99] سورة الاسراء 101
[100] سورة المؤمنون 45 , سورة هود 96
[101] سورة الزخرف 46
[102] سورة يونس 75 , سورة الأعراف 103
[103] سورة النمل 10
[104] سورة النمل 10
[105] سورة القصص 31
[106] سورة طه 17 – 21 , سورة الأعراف 117 , سورة طه 69 , سورة الشعراء 45
[107] سورة الأعراف 108 , سورة الشعراء 33 , سورة القصص 32 , سورة طه 22
[108] سورة يونس 88 , سورة الأعراف 133 , سورة الأعراف 130
[109] سورة الاسراء 102
[110] سورة النمل 13 – 14
[111] سورة إبراهيم 5
[112] سورة طه 77 – 82
[113] سورة الشعراء 59
[114] موسوعة الأديان , وقد اعترض صاحب الموسوعة (علوي بن عبد القادر السقاف) على الرقم واعتبره مبالغاً فيه . فيما اثبت (احمد سوسة) في كتابه (العرب واليهود في التاريخ , ص 284 – 285) ان المهاجرين بنحو هذا العدد من مصر كانوا هم (العبيرو = الهكسوس) بعد مواجهة عسكرية مع الجيش المصري الفرعوني في منطقة (افاريس) .
[115] سفر التثنية , الاصحاح الثامن عشر , 9 – 11
[116] سورة الأعراف 148
[117] سورة الأعراف 149
[118] سورة الأعراف 138
[119] سورة البقرة 61
[120] سورة الشعراء 63
[121] سورة البقرة 60
[122] سورة الأعراف 160
[123] سورة البقرة 63 , سورة البقرة 171
[124] سورة البقرة 55
[125] سورة النساء 153
[126] سورة البقرة 67 – 73
[127] سورة طه 83 – 98
[128] سورة الأعراف 138
[129] سورة القصص 48
[130] سورة الصف 61
[131] سورة الاحقاف 7
[132] سورة المائدة 110
[133] سورة غافر 40
[134] سورة آل عمران 49
[135] سورة المائدة 70
[136] سفر القضاة , الاصحاح الثاني ,11 – 12 , حيث عبدوا (البعليم) وتركوا الرب اله ابائهم !
[137] العرب واليهود في التاريخ , ص 302
[138] العرب واليهود في التاريخ , ص 318
[139] سورة طه 85 و 87 و 95-98
[140] سورة طه 94
[141] سورة طه 97
[142] سورة الكهف 55 – 59
[143] البداية والنهاية , ابن كثير , دار هجر , ط 1 , ج 2 , ص 174
[144] سورة الكهف 60 – 82
[145] التي كانت تُسمّى عند الفينيقيين (calp) او (الصخرة المجوفة) , وهي اليوم (صخرة طارق) , عن كتاب “رحلة مع اللغز القراني” , د. تحفة جعفر , ص 46
[146] رحلة مع اللغز القرآني , د. تحفة جعفر , مؤسسة بقية الله لنشر العلوم الإسلامية : حيث اثبتت هذه القصة القرآنية بأروع ما يكون من صفاء الذهن ونقاوة العلم والتفكر من ص 10 الى ص 47 بما لا مزيد عليه من العرض الجديد
[147] الروح المجرد , محمد الحسين الحسيني الطهراني , دار المحجة البيضاء
[148] القرآن الكريم : سورة المائدة 20 – 26 , الكتاب المقدس : سِفر العدد 13 و 14
[149] القرآن الكريم : سورة الأعراف 159 – 163 , الكتاب المقدس : سِفر حزقيال 20 : 33 – 36
[150] سِفر التثنية 1 : 30 – 35
[151] سفر التثنية 1 : 36 – 38
[152] سفر التثنية 1 : 39 – 40
[153] العرب واليهود في التاريخ , ص 325
[154] سفر التثنية 1 : 5
[155] سِفر التثنية 34
[156] سفر العدد 20 : 29
[157] سفر التثنية 34 : 5
[158] سورة الاحقاف 29 – 32
[159] سورة الجن 1 – 5
[160] تاريخ مختصر الدول , ابن العبري , ترجمة موسى
[161] سفر التثنية 34 : 14
[162] سفر يشوع 11 : 16
[163] سفر يشوع 11 : 23
[164] سفر يشوع 24
[165] سفر يشوع 1 : 5 – 9
[166] سورة الكهف , 62
[167] خروج 17: 14
[168] عدد 27: 18
[169] عدد 27: 22
[170] سِفر القضاة 2 : 7
[171] اورشليم واليهودية ومسألة الهيكل , الباحث : فراس السواح , محاضرة منشورة الكترونياً
[172] العرب واليهود في التاريخ , احمد سوسة , ص 292 – 293
[173] سفر التثنية 31 : 25 – 26
[174] صموئيل , 8 : 4 – 5 ,, القران الكريم , سورة البقرة 246
[175] صموئيل 9 : 17
[176] انظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية , د. عبد الوهاب المسيري
[177] العرب واليهود في التاريخ , ص 296
[178] سورة البقرة 247
[179] سورة البقرة 247
[180] سورة البقرة 248
[181] سورة البقرة 248
[182] صموئيل 17 : 50
[183] سورة البقرة 251
[184] العرب واليهود في التاريخ , 296
[185] سورة المائدة 64
[186] الحقائق الاصلية في تاريخ الماسونية العملية , شاهين مكاريوس , مؤسسة هنداوي 2014 , ص 37 , بتصرف
[187] سفر ملاخي 3 : 5
[188] سورة النمل 16
[189] الملكة بلقيس التاريخ والاسطورة والرمز , ص 181
[190] صدر عن مركز عين للدراسات في النجف الأشرف , وعن دار القارئ في بيروت
[191] سِفر القضاة 12
[192] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية , د. عبد الوهاب المسيري , المجلد الرابع , الجزء الأول , الباب التاسع , مدخل القبائل العبرانية الاثنتا عشرة
[193] سِفر القضاة 5
[194] سورة البقرة 101 – 103
[195] انظر : موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية , عبد الوهاب المسيري , المجلد الخامس , ج 2 , ب 8 , 2
[196] العرب واليهود في التاريخ , ص 315
[197],, انجيل متى 15 : 7 – 8 ,, سفر ارميا 26
[198] انجيل متى 27 ,, سِفر أعمال الرسل 4 : 10
[199] العرب واليهود في التاريخ , 304 – 313
[200] عندما بدأ تلميذ عيسى (توما) يبشّر بالمسيحية في العراق ومن ثم الشرق
[201] سِفر اشعياء : 31 : 1
[202]د. اسرائيل ولفنسون , ص 31 تاريخ اليهود في بلاد العرب ,
[203] انجيل يوحنا 6 : 53 – 58
[204] الإصحاح 5 : 21
[205] الإصحاح 5 : 7
[206] الإصحاح 11 : 23
[207] الإصحاح 2 : 46 – 47
[208] صراع الحضارتين , علي الابراهيمي , دار القارئ , عن مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة
[209] سورة التوبة 30
[210] سورة التوبة 31
[211] سورة يونس 83 , سورة هود 96 – 97 , سورة القصص 1 – 9