التوراة تذكر أن أبناء إسماعيل بن إبراهيم -بما فيهم النبط- سكنوا من أرض (حويلة) الى (شور) قبالة أرض مصر[1] . كما أن (العماليق) او العموريين كانوا يسكنون ابتداءً من بلاد (حويلة) حتى (شور) , وهم الذين انتقم منهم الملك (شاؤول) لأنهم كانوا في طريق بني إسرائيل حين عادوا من مصر[2] , وهذا يعني أنهم حصراً كانوا في المنطقة بين فلسطين والحجاز , حيث أن النبي إبراهيم استعان بالعماليق العموريين الذين كانوا في مكة . فتكون أرض (الحويلة) هي البلاد الممتدة بين الحجاز وفلسطين على أقل تقدير , اذا لم تكن ممتدة الى جميع شبه الجزيرة العربية , لتشمل كل شعوب القحطانيين والعدنانيين , أي بلاد العرب . لاسيما أن استخراج الذهب كان واضحاً ومشهوراً في بلاد اليمن المعاصرة حينها , حتى أنه كان يظهر للعيان بمجرد سقوط الأمطار[3] , وكذلك الصمغ وحجر (الجزع) , بل في عموم شبه الجزيرة العربية .
و لقد كانت المنطقة التي ينتشر فيها السبئيون العرب ضمن إقليم سلالة القطر البحري العراقية . وسلالة القطر البحري نشأت في جنوب بلاد بابل , على سواحل الخليج في جنوب العراق التاريخي ، وسُميت بالقطر البحري لأنها كانت مطلة على سواحل الخليج ومتداخلة مع اهوار العراق . نشأت بعد ثورة في سومر , قادها (ايلوما ايلو) , الذي كان أول ملوكها , ضد (سمسو إيلونا) ابن (حمورابي) . وحكمت هذه السلالة من 1732-1460 ق م , وظهرت أسماء هؤلاء الملوك في قائمة الملوك الآشورية , بأسماء أكدية .
فيما كان ظهور ممالك العرب -التي يشكل السبئيون نسبتها الأكبر , مثل (عربايا) او (الحضر) و (تدمر) والانباط والمناذرة والغساسنة- مباشرة بعد سقوط بابل , مما يكشف أنهم شكلوا جزءاً مهماً من التحالفات الداخلية للإمبراطوريات العراقية في العهود المتأخرة .
وقطن بين هذه الممالك العديد من العرب العدنانيين الاسماعيليين , لا سيما في العراق وشمال شبه الجزيرة العربية , وهما امتداد واحد شكّل العراق التاريخي , واهم هذه القبائل العدنانية كانت (ربيعة) وفروعها من (عبد القيس) و (شيبان) و (عجل) , اللواتي هزمن الفرس في معركة (ذي قار) . ان هذا المجتمع –بفعل المواطنة والجوار والتاريخ– شكّل خليطاً متجانساً , امتزج مع بقايا شعوب العراق من الآراميين والعموريين والانباط .
وقد قامت الى جانبهم حضارة أخرى هي حضارة (النبط) او (الانباط) , كظاهرة سياسية منذ القرن السادس قبل الميلاد , وانتشرت في الأراضي التي كانت تحت سيطرة الآراميين , في بادية شرق الأردن , وكذلك الأراضي الفراتية المتاخمة لبلاد الشام حتى البحر الأحمر , وقد ضمت دمشق وسهل البقاع والاقسام الجنوبية والشرقية من فلسطين و (حوران) و (ادوم) و (مدين) وساحل البحر الأحمر , ووصلت مساكن بعضهم الى الدلتا المصرية والمناطق الخصبة على ساحل البحر الأبيض المتوسط . وقد اخذوا يفلحون الأرض ويزرعونها , ويبنون المدن , ومنها مدينة (البتراء) التي ازدهرت في القرن الرابع قبل الميلاد . وصار النبط يمارسون مختلف الحِرف , وفي طليعتها الاشتغال بالتجارة ونقل البضائع , فسيطروا على مختلف القوافل التجارية في ذلك الزمن , واهمها طريق اليمن والمدن العربية الجنوبية الموازي للبحر الأحمر ويتفرع الى مصر والشام والمدن الفينيقية وغزة ومن ثم البحر المتوسط . وهناك طريق كان يصل الخليج بالبحر المتوسط , وينقل بضائع الهند وما وراء الهند وحاصلات ايران والمدن العربية الشرقية لتوزع منها في الشام ومصر وموانئ البحر المتوسط . وقد استغلوا مناجم النحاس والاسفلت , الذين درّا عليهم ثروات كبيرة , فاكتنزوا الذهب والفضة . وقد اقتبس (النبط) من الآراميين ثقافتهم , وكتبوا بكتابتهم , حتى غلبت الآرامية عليهم [4].
ان المصطلحين (الآرامي) و (النبطي) لم يكونا يعنيان الا مصداقاً واحداً على الأرض واقعاً , والمقصود كان الامة الآرامية بكل شعوبها العراقية الوارثة لحضارات سومر وأكد وبابل الاولى والثانية , لذا يمكن رؤية التطابق التام في الخصائص والأراضي والعمل والحضارة , يستحيل معه تفريقهما عن بعض .
فقد احتكر الآراميون التجارة , كما احتكروا طرق المواصلات المؤدية الى (آشور) شرقاً , وإلى المدن الفينيقية غرباً , وإلى اسيا الوسطى شمالاً , ومن هذه وتلك إلى المدن المصرية , وأمكن بفضل تدجين الجمل العربي تيسير القوافل تيسيراً كبيراً , فاُقيمت في اطراف البلاد مراكز للتجارة , كانت اشهرها (تدمر) و (الحضر) . وقد كان للآراميين بطون في العراق , وبطون أخرى في سيناء وفلسطين , وكان الاغريق على اتصال بهم في الموانئ الشرقية من اسيا الصغرى الى تخوم سيناء , فنقلوا عنهم وسائل الحضارة والتجارة , قبل ان يهتدي اليها أبناء القارة الاوربية بزمن طويل[5] . وهذا بالضبط ما كان عليه (النبط) من واقع عملي .
وقد انتشرت مع التجارة الآرامية اللغة الآرامية انتشاراً واسعا , وقد أصبحت لغة اقطار الشام , وتغلغلت في بلاد فارس , وانتشرت بين الشعوب المجاورة لها . ثم امتدت الى وادي النيل واسيا الصغرى وشمال جزيرة العرب حتى حدود الحجاز , وبقيت دهوراً طوالاً اللغة الرسمية والتجارية للأمم الحية في القرون الأولى قبل الميلاد , في بابل وآشور وفارس ومصر وفلسطين , وكانت الآرامية لغة السيد المسيح والحواريين , وقد كُتب بها الانجيل على ما يرجح , وان الكتابات الدينية لمختلف الكنائس الشرقية دونت بلهجات مشتقة من الآرامية , وبأقلام مأخوذة من الابجدية الآرامية .
وقد حلت اللغة الآرامية محل الكنعانية , وظلت اللغة السائدة في البلاد الى الفتح العربي , عندما اخذت اللغة العربية تحل محلها . وانقسمت اللغة الآرامية بمرور الازمان الى عدة لهجات , يمكن حصرها بفرعين , الفرع الشرقي , في وادي الفرات , وتمثله اللهجات المندائية والسريانية ولهجة (الحضر) , والفرع الغربي , تمثله آرامية التوراة والانجيل و (الترجوم) , واللهجات الآرامية في مملكة (سامال) وفي (حماة) و (تدمر) وبلاد النبط [6].
ان تسمية (آراميين) صارت تشمل جميع القبائل الساكنة قديماً في البلاد الفسيحة الواسعة المحدودة ببلاد فارس شرقاً والبحر المتوسط غرباً وبلاد الأرمن وبلاد اليونان في اسيا الصغرى شمالاً وحدود جزيرة العرب جنوباً , وكانت قاطبة معروفة ببني (آرام) والآراميين , مع ان بعض هذه القبائل كانت تسمى بأسماء خصوصية , كتسمية اهل بابل بما يجاورها من قبائل بالكلدانيين , وسكان مملكة آشور بالآشوريين , وتسمية اهل الشام بالأدوميين , ولكن تسمية الآراميين كانت تشملهم جميعا , وكانت كل هذه البلاد تتكلم بالآرامية .
وقد سقطت سلالة الآراميين في بابل على يد (الفرس الاخمينيين) بقيادة ملكهم (كورش) , الذي ادعى ان الإله البابلي (مردوخ) هو من دعاه الى غزو بابل ورافقه كالصديق , فابتشر له كهنة اليهود , الذين أعاد لهم أدوات الهيكل , وسمح لمن يشاء منهم بالذهاب الى فلسطين , فسلبوا بعض مقتنيات المعبد في بابل , وقالوا بانّ (كورش الاخميني) هو “المسيح المنتظر” الذي سيعيد مملكة (صهيون)[7] . ثم وقع العراق تحت حكم الاسكندر , ومن ثم خلفائه السلوقيون , ومن بعدها صار تحت حكم الفرس الفرثيين , واخيراً وقع بيد الفرس الساسانيين[8] .
وقد قامت طيلة الفترة الممتدة حتى الفتح الإسلامي ممالك محلية عديدة في المنطقة الآرامية , بقيادة (السبئيين) , منها في العراق دولة (المناذرة اللخميين) , وعاصمتها (الحيرة) , وفي الشام دولة (الغساسنة) من (بني جفنة) . بالإضافة الى الدعم الذي حظيت به تلك السلالات من العرب العدنانيين ومن الانباط , كما جرى في معركة (ذي قار) ضد الفرس الساسانيين , التي خاضتها قبائل (شيبان) واخواتها من قبائل عدنان , يساندهم ما يزيد على أربعة آلاف من مواليهم النبط .
لقد تنصّرت اغلب المنطقة الآرامية بعد ظهور السيد المسيح , اذ دخل في المسيحية قبائل (ربيعة) و (تغلب) و (قضاعة) و (طيء) و (مذحج) و (بهراء) و (سليح) و (تنوخ) و (غسان) و (لخم) و (شيبان) و (عجل) من (بكر بن وائل) وملوك (الحيرة) المناذرة و (كِندة) و (السكون) و (كلب) والكثير من سكنة (اليمامة) و (الطائف) و (بني حنيفة) وبعض قريش . وقد كانوا في الغالب على المذهب النسطوري الموحد , اذ اخذ النساطرة في (الحيرة) على عاتقهم مهمة التبشير بالمسيحية الموحدة , فاتبعوا طرق التجارة الداخلية والخارجية والساحلية , ونشروا النصرانية النسطورية في شرق شبه الجزيرة العربية . واضحى النسّاك المسيحيون ظاهرة ملفتة في جزيرة سيناء , وانتشرت المسيحية على مذاهب أخرى مشوبة في مصر . وكان اهل البحرين من (بني عبد القيس) يدينون بالنصرانية , ولهم أساقفة فيها وفي (قطر) , وكان ملك عُمان عند البعثة النبوية (الجلندي) نصرانياً , وفي بلاده عدة اديرة واساقفة[9] . وقد كانت (نجران) مركزاً نصرانياً مهماً , شهد صراعاً فكرياً ودينياً , وهم الذين احرقهم صاحب الاخدود , وقد ظلوا هناك الى زمن (عمر) حين هاجر اغلبهم الى العراق[10] .
ومن السذاجة -بل من الجنون– الاعتقاد بوجود تأثيرات ساهمت في تنصّر الامة الآرامية سوى الاعتقاد الفطري والاستعداد الفكري والارث المعرفي التوحيدي , اذ كانت الدول الكبرى المحتلة للمنطقة وثنية , من الفرس والرومان . وقد قام الرومان بذبح آلاف المسيحيين على دينهم وفكرهم , وحين أعلنت الدولة الرومانية في عهد (قسطنطين) انها اعتنقت المسيحية (البولصية) في القرن الثالث بعد الميلاد , كان مذهب الامة الآرامية نسطورياً , مخالفاً للمذهب الروماني المشوب بالوثنية , وقد عانى الآراميون بسبب اعتقادهم التوحيدي الكثير .
فقد كان مؤسس الكاثوليكية (بولص الطرسوسي) مغامراً مجهول الأصل والديانة ، ولد في (طرسوس) من (كيليكية) في اسيا ، بعيداً عن (القدس) ، ولم يَرَ المسيحَ في حياته . هاجر الى (القدس) ، لغاية ما ، لكنّه عمل شرطياً ومخبراً للكاهن اليهودي الأكبر ، الذي تعيّنه الدولة الرومانية ، وبالتالي فكلاهما موظّفان رومانيان . يذكر الكتاب المقدس انّ اسمه قبل المسيحية كان (شاؤول) . عمل لصالح الكاهن الأعظم في مطاردة المؤمنين المسيحيين وسجنهم وتعذيبهم . ثمّ أعلن انه في طريقه الى دمشق -ضمن مهمة خطف ضد المسيحيين الهاربين الى دولة الانباط- ظهر له (يسوع المسيح) ، وقد جعله رسولا[11] .
ويبدو -كما انتبه المختصون- انّ ذهاب (بولص) الى دمشق لم يكن من اجل الرسائل ، فدمشق كانت تقع تحت الحكم العربي لملك الانباط (الحارث) ، الذي لم يكن يوالي الرومان ، وكان يدخل في خصومة معهم ، لذلك لجأت اليه جماعات من المسيحيين ، هرباً من اجرام الرومان والكاهن اليهودي الأكبر ، وبالتالي لن يسمح لبولص ان يسوقهم موثقين الى أورشليم ، لكنّ الامر -كما يُقرأ عسكرياً- لم يكن سوى عملية من عمليات الخطف التي كان يديرها (بولص) ضد قيادات الجماعة المسيحية المؤمنة .
وفعلاً يرى كاتب مسيحي في العصور المتأخرة يُدعى (كليمنت) في كتاب له بعنوان “استكشافات” انّ (بولص) توجّه الى دمشق لاختطاف (بطرس) ، احد قطبي المسيحية الناصرية ، الذي لجأ الى دمشق ، بعد محاولة اغتيال (يعقوب) القطب الاخر في المسيحية الاولى . وهذا ما أيَّده اعتراف (بولص) في رسالته الى أهل كورنثوس , حيث اعترف ان الملك (الحارث) كان يبحث عنه ليمسكه , لكنه هرب بصعوبة[12] .
وفي الوقت الذي كان فيه (بولص) يرتبط بعلاقات مميزة مع الكاهن اليهودي الصدوقي الأكبر ، وكذلك يتمتع بالمواطنة الرومانية التي وفَّرت له الحماية العسكرية ، كان اتباع عيسى وعائلته يعانون ضريبة إيمانهم ، كسائر اتباع الرسل ، بخلاف (بولص) . لقد قبض الكاهن اليهودي الأكبر على المشرف على المسيحيين بعد عيسى المدعو (يعقوب) وقام بإعدامه ، ومن بعده اصدر الرومان أمراً باعتقال ذرية (داوود) ، وعلى اثره ألقوا القبض على خليفة يعقوب (شمعون) وأعدموه . وهذا ما يفسّر هروب (بطرس) وجماعته الى دمشق الانباط ، رغم انه لم يكن من ذرية داوود .
وفيما كانت القبائل والممالك العربية والنبطية في العراق نسطورية المذهب ، لم يكن الاعتقاد الذي عليه عرب الغساسنة في الشام واضحاً . حيث تنقل بعض المصادر انّ ملكهم (الحارث) كان من أنصار الطبيعة الواحدة ، وكذللك ابنه (المنذر) وحفيده (النعمان) ، إِلَّا انّ علاقتهم بالرومان البيزنطيين لم تكن واضحة المعالم ، من اكرام (ثيودورا) لهم ، ومقاطعة (يوستينوس) ، وتذبذب (تيباريوس) ، وصلافة (موريسيوس) ، حيث اختلف كلّ هؤلاء الاباطرة في مستوى علاقتهم بالشرق المسيحي الموالي لروما ، الذي يبدو انّ قادته كانوا من (اليعاقبة) أو كنيسة الاسكندرية . وفي الوقت الذي أعاد فيه (موريسيوس) العلاقة مع (النعمان) لأسباب عسكرية واستراتيجية ، دعاه لاعتناق العقيدة الرومانية ، التي ترى انّ للمسيح طبيعتين ، إِلَّا انّ (النعمان) اخبره برفض قبائل (طَيء) لهذه العقيدة ، الى الدرجة التي سيذبحونه لو حاول ثنيهم عنها .
ولعلّ هذا الاختلاف المذهبي -حول عقيدة التوحيد , والنظرة المختلفة لتأليه عيسى- هما ما يفسران الموقفين المتناقضين لمملكتي أبناء العمّ المسيحيتين (المناذرة) و (الغساسنة) تجاه الانتشار الاسلامي . حيث قام المسيحيون الذين كانوا يتبعون مملكة (المناذرة) -ومركزها (الحيرة) في العراق- بمقاتلة الفرس المحتلين ، قبل دخول الجيش الاسلامي حدود العراق ، فانتصروا عليهم في المعركة الشهيرة (ذي قار) ، وكذلك دخل ابرز قادتهم في الاسلام قبل وصول الحشود الحجازية ، حيث رفعوا اسم النبي (محمد) شعاراً لهم في تلك المعركة . بينما كان موقف الغساسنة مضاداً للتقدم الاسلامي ، وشارك الكثير منهم ضمن جيوش الروم لصدّ ذلك التقدم . وهذا الاختلاف في طبيعة التدين الفلسفي الفطري -الذي تمتعت به مملكة الحيرة عن التدين السياسي الذي تمتعت به مملكة الشام- هو ما يكشف أيضاً سرّ انفراد العراقيين في نشر المسيحية النصرانية شرقاً وجنوبا . من هنا كان (ثيوفيلاكت سموكاتا) يرى عدم إمكانية الاعتماد على العرب ، لأنهم برأيه (متقلّبون وعقولهم غير ثابتة وأحكامهم لا تقوم على أساس صحيح من التعقّل) ، فهو ربما كان يعكس خيبة أمل روما وبيزنطة في جذبهم الى حظيرة الوثنية المعقدة .
لقد تنصّرت قبائل (تنوخ) و (الازد = مذحج + النخع + الغساسنة + المناذرة) ، وهي من القبائل السبأية ، وكذلك تنصرت قبائل (تغلب) و (بكر بن وائل = شيبان + عجل) و (ربيعة) و (عبد القيس) ، وهي من القبائل العدنانية ، وكذلك (أياد) و (جذام) . وكان (أنباط) العراق و (الآراميون) و (الآشوريون) نصارى ايضا . حتى اصبح العراق القديم (بلاد الرافدين) – وهو من ارمينيا حتى قطرايا = قطر , بل حتى عمان التي كانت من اعمال البصرة في زمن جلال الدولة البويهي[13] – كله مسيحياً تقريبا ، يدين بالنسطورية[14] ، التي ترى عيسى بن مريم إنساناً لا الها . وقد صارت (الحيرة) المركز الديني الأكبر والأشهر عالميا للمسيحية غير الرومانية .
وكانت النصرانية في البلاد الرافدينية ، والتي تعتنقها شعوبها العربية والنبطية والآشورية والفينيقية ، ملزمة بالاستعداد لحماية دينها التوحيدي امام المدّ المسيحي البولصي التثليثي ، ليس بالفكر هذه المرّة ، بل بقوة السلاح ايضا ، لذلك بدأت في التقوقع لحماية عقيدتها ، من المطرقة الزرادشتية في الشرق ، والسندان البولصي في الغرب .
وقد اخذ اليهود خطهم الذي طبعوا به كتب التوراة من الخط الآرامي , كما ان العرب الشماليين اخذوا خطهم من الخط النبطي الذي هو شكل من اشكال الخط الارامي , وهذا هو الخط الذي كتب به القران الكريم وتطور عنه الخط العربي الحديث , كما اخذ الأرمن والفرس والهنود خطوطهم من أصول آرامية . ومن الخط النبطي نشأ القلم الحِمْيري العربي , الذي منه تولّد الخط الكوفي , ومن هذا نتج القلم النسخي[15] .
ويرى الأستاذ (طه باقر) ان العرب الشماليين اخذوا خطهم من الأنباط ، والخط النبطي شكل من أشكال الخط الآرامي . وهو أصل الخط العربي الشمالي بجميع أطواره[16] . وقد كان (عمر بن الخطاب) يظن ان آخر ارض العرب هي البصرة , ثم تبتدأ ارض العجم ، وهم النبط ، لشدة اختلاط العرب بالنبط بعد ذلك[17] .
لقد كانت العقيدة التوحيدية ومكارم الأخلاق اكسيراً يبحث عنه أهل المروءة والفلسفة العقلية من العرب وغيرهم ، فالقبائل العربية كانت كما وصفها (ابن خلدون) مهيئة لما يرد عليها وينطبع منها من خير وشرّ ، فهي بذلك اقرب الى معاني الخير والشرف والنبل والشهامة والنجدة والاباء والحرب والمعرف والاحسان[18] . لذلك انتشرت معاني الاسلام النبيلة في بُطُون العرب النصارى وبعض اليهود ، وكذلك الانباط والآراميين ، فيما لم تجد استجابة ذات معنى في البطون الوثنية العربية ، كما هي معظم قريش ، ولم تؤمن المسيحية الرومانية كذلك . انّ الذي يؤمن بالإسلام كان لابدّ ان يكون شعباً يجمع التوحيد بالاخلاق ، وما عداه سيكون إيمانه متذبذبا . لهذا كان (علي بن ابي طالب) يعد أصحابه للانتشار في بُطُون هذه الشعوب والقبائل النبيلة ، لصناعة جيل جديد يعرف هويته ويتمسك بها .
فلقد جاءت قبائل العراق التاريخي الكبرى , مثل (مذحج) و(النخع) و(زبيد) و(عبد القيس)[19] , وقد كانوا نصارى , طائعين في اسلامهم الى رسول الله , ولو شاءوا لقاتلوا عن دينهم النصراني , كما قاتلوا بعدئذ عن الإسلام بشراسة , لكنهم كانوا مختارين باحثين عن الحق , لا كما يدّعي المدّعون من إجبارهم بالسيف على الإسلام , فهل السيف الا سيفهم . لكن ارادت أقلام (بني امية) الا يجعلوا لهم فضلاً دينياً على الحاكم , كما ارادت الخلافة (العُمَرية) من قبل الا يكون لهم فضل على قريش . هذا فضلاً عن اهل العراق من (ربيعة) و(مضر) و(النبط) في جزيرة الشمال العراقية حتى حدود تكريت التي كان اغلب أهلها نصارى[20] .
اما وجه القول بانّ النبط عرب , او انهم من اصل عربي , فهو مردود , ومن وهم الثقافة العربية المتأخرة , ولا تدلّ عليه العلاقات اللغوية او الخطية , فكل الشعوب العراقية كانت متقاربة اللغة والخط , لأنها من اصل واحد , لذا كان خط الانباط هو خط الآراميين في الأصل . ومما يردّ هذا الوهم ايضاً العنصرية التي واجهت بها الفترتان (العمرية) و (الاموية) شعوب النبط , اذ امتهنوهم وعيّروا بهم وأقصوهم , واستغربوا لسانهم وعدّوه اعجميا , واستهانوا بهم كونهم يمتهنون الزراعة .
ومنه يتضح ان (النبط) سكنوا الإقليم الجنوبي من العراق ومدنه من (واسط) و (البصرة) وغيرها , وقال شارح سَنَن ابي دَاوُدَ (هم قوم معروفون كانوا ينزلون بالبطائح بين العراقينِ)[21] . كما ان هذا المصطلح كان يُستخدم في قبال مصطلح (العرب) للإشارة الى الخليط العراقي غير المعنون بقبلية عربية , ربما لكون مصطلح (النبط) قد غلب على مصطلح الآراميين في الفترة المتأخرة قبيل الدولة الاسلامية , او ان الآرامية كان لها من الكاريزما والهيبة العلمية والدينية ما منع السلطات من ذمها بالاسم القديم.
و روى (ابن الحاج) غضب (عمر بن الخطاب) حين رأى كثرة النبط في العمل التجاري ونفور العرب عنه[22] . و (عمر) -كما هو معروف- قد أجلى غير المسلمين عن (المدينة) ، فيما تشير الرواية الى غلبة (النبط) على سوقها . وَمِمَّا يعنيه ذلك ايضاً انّ النبط كانوا يسكنون (المدينة) بكثرة .
و (عمر) لا يمكن ان يتغاضى احد عن موقفه من بنت الرسول (فاطمة الزهراء) وكسره ضلعها , وحرقه لدار (علي) وصي الرسول , وقمعه لشيعة (علي) من الصحابة , وموقفه من نبط العراق المسلمين والمسيحيين .
وكانت من عنصرية (عمر بن الخطاب) تجاههم ان تبلغ انه طلب الى واليه (حُذيفة بن اليمان) ان يطلّق زوجته النبطية ، فأبى (حُذيفة) الا ان يخبره (عمر) أحلال ام حرام ، فأخبره عمر انها حلال ولكن فيهن “خلابة” ! . رغم زواج المهاجرين والأنصار من نساء أهل السواد بكثرة كما ينقل (مسلم) مولى (حُذيفة) و (جابر)[23] . ومن قبل في زمان النبي كان (عمر) عنصرياً تجاه غير العرب ، اذ اساء الى (سلمان الفارسي المحمدي) في نسبه في جمع من قريش ، فنهاهم النبي حين اعلمه (سلمان) وأبان فضل (سلمان) عليهم بتقواه[24] حتى ان (سلمان) خطب من (عمر) –اختباراً له ذهبت حمية الجاهلية عن قلبه ام لا كما عبّر– فردّه[25] . وقد كان جنود (عمر بن الخطاب) -الأعراب الذين بعثهم من شبه الجزيرة- يغيرون على هؤلاء الانباط , في متاجرهم الكبرى في البصرة , وهي ثغر الصين والهند والميناء التجاري الأكبر ، وعلى (دست ميسان) الغنية بالثروة الحيوانية ، ويقتلون زعماء تلك المناطق ، رغم انهم أهل كتاب ، اذ كان من الأسرى أبو (الحسن البصري) ، وعلى رغم ان الرواة جعلوا ينسبون انهم يخرجون لقتال المسلمين , الا ان هذا مستبعد منهم ابتداءً , لأنهم كانوا جماعات صغيرة في تلك الأسواق والصومعات , تقاتلهم فرق صغيرة ايضاً من الأعراب ، ولا يمكن تصور قتال رسمي بهذه الكيفية ، الا انهم قطعاً كانوا يدافعون عن حريمهم وتجارتهم وثرواتهم ، الامر الذي دفعهم امام التدفق العربي هذا الى الدخول في تحالفات مع القبائل العربية ، لا سيما أهل شمال البصرة و (دست ميسان) ، اذ كانت (ذي قار) وجنوب البصرة المحيطة بهم تستوطنها قبائل عربية كبرى[26] . خصوصاً ان (عمر بن الخطاب) ولى على البصرة حزبه ، (عتبة بن غزوان) ثم (المغيرة بن شعبة) ثم (أبا موسى الأشعري) ، والله يعلم ما فعلوا بالناس ، مثلما كان ولاته على مكة واليمن والكوفة وبلاد الشام والبحرين وعُمان (عتاب بن أسيد) و (يعلى بن منية) – ابن أخت (عتبة بن غزوان) , وأسلم يوم الفتح- و (سعد بن ابي وقاص) و (أبو عبيدة) و (عثمان بن ابي العاص) و (حذيفة بن محصن) ، وقد ترك خيار الصحابة وأهل الورع منهم[27] . والاغرب ان (عمر) أعطى مسيحيي (القدس) -الذين يؤلهون عيسى- أماناً مفتوحاً شاملاً , بكتاب مختوم[28] , لم يعط بعضه لنصارى العراق النساطرة الموحدين , الذين سلب جنوده أراضيهم وثرواتهم .
وقد توزّعت أهداف فئة الأحزاب المتفرعة عن انقلاب سقيفة (بني ساعدة) بين غايتين ، الاولى باطنية ، يقودها (عمر) وحزبه ، الذين ظهروا للساحة ايام حكمه ، امّا الثانية فكانت المال ، وهي غاية القادة والمفتين .
ومن طغيانهم على خلق الله ما تناقلته الأخبار عن (ابن الحكم) الاخباري القديم ، حيث يروي انّ صاحب (اخنا) قدم على عمرو بن العاص ، فقال اخبرنا ما على احدنا من الجزية فيصبر لها . فقال عمرو – وهو يشير الى ركن كنيسة – : لو أعطيتني من الركن الى السقف ما أخبرتك ، إنما أنتم خزانة لنا ، إِنْ كثر علينا كثرنا عليكم ، وان خفف عنا خففنا عنكم . فغضب صاحب (اخنا) فخرج الى الروم فقدم بهم ، (فهزمهم الله !) ، وأُسر النبطي ، فأُتي به عمرو ، فقال له الناس : اقتله . فقال : لا ، بل انطلق ، فجئنا بجيش اخر .
ويكفي من هذه الرواية معرفة مدى ما عانته البلدان المفتوحة من هؤلاء الطغاة ، ومدى استهزائهم بدماء الناس ، مسلمهم وذمّيهم . وهي اخت المقولة التي قالها (معاوية) الطاغية الاخر لأهل العراق بما مضمونه (إنما السواد – العراق – بستان لقريش) . حتى انه في زمان بني امية اشيع ان أهل السواد -العراق- عبيد رغم رفض فقهاء القوم لهذه المقولة[29] .
فيما كان (الأصبغ بن عبد العزيز الأموي = شقيق عمر بن عبد العزيز) أشد الناس كرهاً من قبل الشعب المصري ، لفرضه عليهم الضرائب الجائرة . امّا (عبد الله بن عبد الملك بن مروان) فقد (فعل افعال سوء وصنع آلات عذّب بها الناس ، وكان كالوحش الضاري ، حتى انه في اكثر أوقاته اذا جلس على المائدة يقتلون الناس قدّامه .
فيما ثار المسلمون والمسيحيون سويةً ضدّ الوالي الجائر لدولة الخلافة (قرة بن شريك) . وجاء الوالي (اسامة بن زيد) بإجراء كانت متبعاً في الإمبراطوريات القديمة من قبل أشد الطغاة ، حيث وضع حلقات الحديد في أيدي السكان لضمان دفعهم الضرائب ، بمن فيهم رهبان الكنيسة القبطية . وجاء (عمر بن العزيز) ليطرد المسيحيين من الدواوين . ومن هذا نعلم كيف كانت الشعوب تنفر من الاسلام الذي يمثّله هؤلاء .
وقد ابتدأ بنو امية عصراً مادياً دكتاتورياً بحتا . فتم حرق سجلات الايجار والضمان لأراضي الدولة سنة 82ه , ومن ثم نهبها المتولون عليها من افراد القربى الذين اقطعهم عثمان بن عفان ثم ملوك بني امية دون وجه حق[30] . فيما جعلوا اهل البلاد المفتوحة وما يملكون رزقاً لبني امية وعمالهم , واعتبروا الموالي من غير العرب عبيدا , وفرضوا اشد الضرائب على اهل الذمة في كل بلاد الإسلام , بل اخذوا الجزية عنوة حتى ممن اعلن اسلامه رغم انفه , حتى نفر الاقباط من المسلمين . بل وصل الامر ان عمال بني امية اختلقوا ضرائب غير موجودة في النصوص الشرعية وكانت قاسية الى حد النهب والاذلال , واحصوا على الناس ثمارهم وارزاقهم . وقد كان الموالي يقاتلون في جيوش بني امية سخرة لا اجر لهم[31] . فعصر بني امية كان عصر ذل وقهر واستكبار وجور[32] .
من الواضح ايضاً ان هناك تطويراً وتوسيعاً لسياسة (عمر بن الخطاب) العنصرية تجاه الموالي والعجم من خلال تفضيل العرب عليهم ، اذ صار معاوية يخلق تفضيلاً وامتهاناً داخل العرب أنفسهم ، بمستوى البلدان ، كالعراق والشام ، اذ وصم العراق بالنفاق في تعميم سمج ، ولا شك ان من يتهمه معاوية بالنفاق يكون من الصالحين على الحق . او على مستوى القبائل ، كمضر وربيعة وقحطان وعدنان .
وقد عانى انباط العراق الامرّين , لما لهم من ارث سومري عقلي , لا يناسب سلطات الانقلاب في عهود الخلافة الإسلامية المغتصبة , فقد ورد أن (المأمون العباسي) ذكر أن (عمر) كان يجوّز للعربي بيع جاره النبطي اذا احتاج الى ثمنه , كما ورد أن (الحجاج بن يوسف الثقفي) نفى النبط عن (واسط) , وهي في وسط بلاد العراق , وأمر عامله على البصرة (الحكم بن أيوب) بنفيهم , لأنه لا يتفق مع أفكارهم , حتى من كان منهم قارئاً للقرآن ومتفقهاً في الدين , بل وصلت ثقافة بعض العرب السلطويين أنه يرى أن النبط جنس شرير بطبعه وابن زنا[33] .
ان أشد أنصار (علي بن ابي طالب) وأعرقهم كانوا من قبيلة (ربيعة) . ومواطنها التاريخية من مدينة (الغرّاف) في الناصرية حتى مدينة (الكوت) او (واسط) , تجاورها من الشرق قبيلة (طيء) , ومن الجنوب (بكر بن وائل) , وبين (طيء) و (بكر) قرى الموالي من نبط العراق , ومن الشمال والغرب (همدان) و(مذحج) و(النخع) و (أسد) والأنصار . وكانت من قبائل (ربيعة) قبيلة العراق الأشهر (بكر بن وائل) تستميت في الدفاع عن حق (علي بن ابي طالب) ومنهجه . وموطنها في جنوب ذي قار حيث مدينة (الناصرية) الحالية , ويمتد أعرابها الى الصحراء الممتدة بين العراق و (نجد) , تجاورها من الغرب في (السماوة) قبيلة (كلب) , حيث كان (علي) يجعل عليهما من يجبي صدقاتهما معاً احيانا[34] , ومن الجنوب قبائل (قيس عيلان) و (عمرو بن تميم) , ومن الشرق أنباط العراق الموالي , ومن الشمال (ربيعة) . ويبدو ان (النخع) و(آل الأشتر) كان لهم من الموالي (النبط) من حملوا عقيدتهم كذلك , وبالتالي سرت عن طريقهم في غير العرب . فهذا (فرّوخ) مولى لبني (الأشتر النخعي) يحدّث أنه رأى (علياً) وكلّمه[35] . ثم اختص (آل دراج) بالدراسة عند الموالي النبط من (آل اعين) , وهما عائلتان من اضخم عوائل الشيعة العلمية في عهد الإمامين (الباقر) و(الصادق)[36]. ثم تتابعت العوائل الدينية النخعية أو من صاهرها حتى اليوم .
وقد رأى بعض المؤرخين العرب انّ بعض القبائل النصرانية كانت تقاتل الى جانب الجيش الاسلامي لصلة العروبة ، حيث يروون انها بقت على نصرانيتها ، وهو خلط ووهم كبير ، اصله رغبة رواة الاسلام العمري الأموي في رفع شأن الجيل الجديد من قادة قريش الذين دخلوا الاسلام كارهين ، والحطّ من شأن الجيل الاول ، الذي انتقل تالياً لنصرة (علي بن ابي طالب) . حيث اننا لا نجد هذا السبب (العروبي) كافياً لإقناعنا باتحاد قبائل كانت تتقاتل بالأمس القريب نيابة عن الروم وفارس .
وهذا رجل من نصارى (تنوخ) رأى الانتصار للروم على المسلمين ، لجامعة الدين المشترك التي كان يراها للوهلة الاولى ، لكنّه لاحقاً يشرح كيف كانت نظرة قومه ومجتمعه للطرفين المتحاربين : (فجعلنا لا نمرّ بأحد من أهل البلد إِلَّا وجدناهم أحسن شيء ثناء على العرب ، في كل شيء من امرهم وفي سيرتهم ، واقبل الروم يفسدون في الارض ويسيئون السيرة ، ومن اسائتهم شرب الخمر وسرقة المواشي وعدم إطاعة القوّاد ، والتعرّض على النساء ، وضرب الصبيان)[37] . وكما نلاحظ انّ القيم الاخلاقية لنصارى العرب والأنباط كانت حافزاً مهماً في اسلامهم .
ولعب غير العرب من النصارى دوراً مهماً في انتشار الاسلام ، حيث كان (أنباط الشام) و سكّان (السامرة) دليلاً وعيناً للجيش الاسلامي ضد الروم ، وايضاً شارك (الجراجمة) في ارض (لبنان) الحالية و (أقباط) مصر في إضعاف جيوش الرومان وانتشار الجيش الاسلامي . وعند توجّه جيش المسلمين خلال (زيزاء – البلقاء – القسطل) لم يواجه أيّة مقاومة نصرانية قبل لقائه جموع الروم . فيما ينقل (ابن اعثم الكوفي) انّ قبائل (لخم وجذام وغَسَّان وقضاعة وعاملة) كانت على مسيرة الجيش الاسلامي في معركة (اليرموك) ، وهي من القبائل النصرانية الكبرى في المنطقة[38] . وفي فتح الجزيرة اشتركت (تغلب) وجموع العرب المُتنصّرة الى جانب جيش المسلمين .
فيما لقصة قبيلة (أياد) النزارية إشارة خاصة يجب معالجتها ، حيث ينقل بعض الرواة انها انتقلت الى بلاد الروم عند وصول جيوش المسلمين ، ثمّ طلب (عمر) الى ملك الروم اخراجهم ، والّا ذبح النصارى تحت يديه . وفي هذه الرواية عدّة إشكالات لا تستقيم امام النقد ، فمتى كان لعمر ان يهدد ملك الروم والمعركة بينهما سجال ! ، وكيف يخشى ملك الروم ان يقتل عمر نصارى العرب وهو سيُخرج اليه مثلهم ! ، وكيف جاز لعمر ذبح عُبَّاد الله جورا ! . لكنّ الصحيح الأقرب هي الرواية الاخرى التي ترى انّ (أياد) كانت تقيم في ارض الروم ، لكنّها دخلت الاسلام طائعة ، وارادت الخروج لنصرة المسلمين ، فمنعها ملك الروم ، وعندها جاز لعمر تهديده . ومن ذلك نعلم حجم التشويه الذي طال تاريخ النصارى العرب والأنباط على يد رواة بني أمية .
وقد وصل الامر بالمسيحيين الى التضحية بالنفس فرادى ، وعلى مستوى رجال العلم والدين ، من اجل نصرة الاسلام ، كما فعل (باسل الراهب) في فتح (صور) ، وما فعله (يوحنا) في فتح قلعة (اعزاز) و (إنطاكية) . فيما أغلق أهل (حمص) مدينتهم امام جيش (هيراكليوس) الروماني .
وكان سكّان (حماه) و (حمص) و (شيرز) و (جبلة) معظمهم من العرب السبئية ، لذلك فضّل (الازد) ان يتوجهوا اليهم لنصرته وتخليصهم من نير الروم . وقد خرج أهل (معرة النعمان) بسيوفهم يستبشرون فرحاً بوصول جيش المسلمين .
لكنّ الامر في (العراق) لم يكن كما في البلدان الاخرى ، ففيه كانت حوزة العلم النصرانية في الحيرة ، واهله قد استشيعوا لحقّ عليّ في الخلافة ، بعد أنْ عرفوا مكانته من رسول الله ، حين التقى النبي قادة (شيبان) و (عجل) قبل يوم (ذي قار) ، والذي قال بعده انهم به نصروا ، مما يثبت انهم كانوا يعتقدون بدينه ، وأنهم رفعوه شعاراً في معركتهم ، بعدما أوعدهم الخير . كذلك كان أهل العراق خليطاً من الانباط والعرب ، تجمعهم النصرانية والقربى ، وهو ما كان ينفر منه (عمر بن الخطاب) جرياً على عادة الجاهلية ، ففرّق بينهم في الموّدة ، كما فرّق بينهم في العطاء ، بعدما اصطلحوا على تسميتهم ب (العجم) ، لكونهم انباطاً وآراميين . لذلك كفر أهل العراق جملة بخلافة ابي بكر ، ومن خلفه عمر ، فكان الامر يزداد تعقيداً ، وعند الرواة كذباً وتشويها . وَمِمَّا زاد في سوء الامر انّ أبا بكر أرسل اليهم (خالد بن الوليد) ، ذلك الوثني سيّء الخلق . لذلك كان عمر بن الخطاب يطالب (المثنى بن حارثة الشيباني) بقوله (اما بعد فاخرجوا من ظهري الأعاجم …) ، ودفع الى (احملوا العرب على الجد اذا جد العجم) .
لقد كان جيش نصارى العراق الذي اسلم وهو من (شيبان) و(ربيعة) و(عجل) و(بكر) والأنباط و(الازد) عامل الحسم في تحرير العراق ، حتى انّ (المثنى بن حارثة الشيباني) وصل الى (بغداد) ، وجعل له معسكراً ثابتاً في (الأنبار) ، يقوده (فرات بن حيّان) ، بعد أنْ اجبر أهل الأنبار من النصارى حامية الفرس على الانزواء .
وفي معركة (البويب) في السنة الثالثة عشر للهجرة جاء جيش الفرس بقيادة (مهران) ، فالتئمت القبائل العربية النصرانية – مع مواليها من الانباط – بقيادة (المثنى بن حارثة الشيباني) ، يؤازره نصارى قبيلة (نمر) بقيادة (أنس بن هلال النمري) ، و نصارى قبيلة (تغلب) بقيادة (ابن مردي الفهري التغلبي) .
وفي معركة (الجسر) قاتل نصارى (ابو زبيد الطائي) الشاعر ، وكان نصرانيا . وفي فتح (تكريت) حضرت (تغلب) و (أياد) و (نمر) . وهي القبائل ذاتها التي يدعي المدعون ان خالد بن الوليد قاتلها عند دخوله للعراق[39] ، ولا تستقيم الروايتان . وكانت هذه القبائل هي التي انتحلت عقيدة التشيع ل(علي بن ابي طالب) ، وهي ذاتها من فتح العراق بعيداً عن مرويات (سيف بن عمر التميمي) الكاذبة , الذي لم ينسَ ان يجعل لقومه من (بني تميم) حصة كبيرة من فتح العراق , حتى انه جعل عفو جيوش المسلمين عن قبيلة (كلب) في حروب فتح العراق بسبب حلفها الجاهلي مع (بني تميم)[40] ، اذ كانت أراضي (تميم) من البصرة الى قطر ، واراضي (كلب) من السماوة باتجاه (نجد) ، فهمًا قبيلتان متجاورتان تقريبا ، واراضي (اسد) من النجف وكربلاء باتجاه الصحراء الى (نجد) تواجه القادم من الجزيرة العربية[41] .
وكان على رأس جيوش الفتح (المثنى بن حارثة الشيباني) و(عدي بن حاتم الطائي) ، في قبائل جنوب العراق[42] . وكانت (فارس) اكره الوجوه الى العرب وأثقلها اليهم عند الفتوحات , ولا يلبي الناس اليها نداء الانتداب من قبل الخلافة , لشدة سلطان الفرس وعزهم وقهرهم الأمم . وايران عموماً انتشر فيها العرب والتركمان والكرد عملياً في الفترة العباسية , سوى القبائل العراقية التي كانت أجزاء كبيرة من ايران خاضعة لها من قبل[43] ، فوجّه عمر بن الخطاب اليها وجوه الشيعة من أهل العراق الذين كانوا على مسالحهم مقيمين , او الذين اقتطعهم عن جيش الشام وردّهم الى ارضهم مع (هاشم المرقال) ك(الاشتر)[44] .
اذ في معركة الجسر هرب من اوفدهم (عمر) من (المدينة) وانحازوا الى (عمر) ، ولم يبقَ الا أهل العراق الشيعة اذ كان قوام الجيش من (ربيعة) ، ومن (ثقيف) بقيادة الشهيد (ابي عبيد بن مسعود) والد (المختار الثقفي)[45] ، الذي يبدو انه كان على مستوى عال من التضحية والإخلاص ، وأحد خاصة (ثقيف) لا عامتهم ، اذ انتدب وحده لقتال فارس في العراق , بعد ان أحجم أمراء وانصار (عمر) لأربعة ايّام , و(عمر) يناديهم فيها , خشية قوة الفرس , وقرر (أبو عبيد الثقفي) اللحاق ب(المثنى بن حارثة الشيباني) ، وقد كان على خلق عال من الانضباط الحربي والديني ، اذ لما أشار عليه البعض بقتل (جابان الفارسي) -بدعوى انه الملك- رفض وقال “اني أخاف الله ان اقتله وقد آمنه رجل مسلم” ، فقالوا انه الملك ، فقال “وإن كان , لا أغدر” وتركه ، وقد حمى لأهل الأراضي التي مر بها من أنباط العراق زرعهم وملكهم ، ورفض كل هدية له وحده منهم ما لم تشمل الجند جميعا . ثم ان عمر بن الخطاب بعد كل هذا وبعد ان كان أهل العراق هم من فتح الشام وردّ فارس يرسل الى (ابي عبيد الثقفي) رسالة يذم فيها ارض العراق ويصفها بشرّ وصف ، وما ذاك منه الا انه يتذكر ثورتهم على بيعة (ابي بكر) وتشيعهم لحق (علي بن ابي طالب) بالخلافة . رغم صمود (المثنى بن حارثة الشيباني) في وقعة الجسر ضد جموع الفرس ، خلاف هروب خالد بن الوليد احد اهم أمراء الانقلابيين المذكور في التاريخ [46] .
فلقد تم خلط الأوراق بين تحرير العراق من الفرس على أيدي العراقيين أنفسهم , وبين قتال خالد بن الوليد لمن لم يبايع ابي بكر ، بصورة متعمدة من رواة السلطة . فقد كان أهل وقائع الأيام من أهل الكوفة يفتخرون بها الى زمان معاوية ، ويوعدونه بعنوان معروف هو انهم “أهل الأيام” ، ويرون ان ما جاء بعد وقائعهم تلك لا شيء اذا قيس بها[47] . وما ذاك الّا لأنّ ابطال العراق كانوا شيعة لعليّ , ومن قبلهِ رسول الله ، كالمثنى بن حارثة , صاحب معركة ذي قار وما تبعها من فتوحات ، و (هاشم المرقال) فاتح (جلولاء) ، وجماعة من الوجوه العَلَوية ، ومنهم أنباط العراق ، الذين ظلمهم التاريخ العمري . ففي (القادسية) لم يتحقق النصر حتى وصل (النخع) ، بعدما امر (عمر) في كتاب الى خالد بن الوليد في الشام بإرسالهم الى (سعد) ، لكنّه اسماهم في كتابه (العراقيين) . و (النخع) أشهر شيعة (علي بن ابي طالب) ، وسيدهم (مالك الأشتر) وكفى . لهذا لا يمكن قبول الروايات الانقلابية التي تقول انهم ارتدوا عن الدين بعد وفاة النبي ، فقد كان زعماؤهم اول من خلع عثمان , لأنه صار من أهل الدنيا على أهل الآخرة كما هو مشهور ، وسيدهم (الأشتر) حمل من العقيدة بثقل جبل ، وهم ابطال معارك اليرموك والقادسية ، لكنّ مثل هذه الروايات تكشف كذبة دعوى الارتداد ، وأنها إنما وضعت للتغطية على الانقلاب .
وقد كان واضحاً ان الرواة الذين رووا معركة القادسية ادخلوا اليمانية ، الذين أوضحنا سابقاً انهم أهل العراق ، في أهل اليمن . وفِي الحقيقة ان عمر بن الخطاب خيّر الجيوش التي شاركت في معركة اليرموك بين العراق والشام , بعد ان رفضوا امتثال أمره في النفرة جميعاً الى العراق ، فاختار أهل العراق من (النخع) ومذحج القادسية واختار أهل اليمن الشام ، وهذا كان واضحاً من سياق الاحداث . فذهب (عمر) حينئذ الى (النخع) ومجدهم بقوله (ان الشرف فيكم يا معشر النخع لمتربع) ، فجعلهم قسمين ، قسم أبقاه في الشام وقسم سيّره الى العراق ، وهو امر صعب لا تقوم به الا قبيلة ذات بأس وعقيدة صلبة ، كذلك هو يكشف عن حاجة (عمر بن الخطاب) الشديدة اليهم ، فهو يعلم حقيقة تشيعهم ولم يكن من السهل عليه ان يمدح من يتشيع ل(علي بن ابي طالب) . وكانت (النخع) تفزع بذراريها ونسائها ، وهو امر ظل فيهم حتى العصور المتأخرة قبل ان توطنهم الدولة العثمانية ليسهل عليها كسر همتهم . وقد كان يمانية أهل العراق ثلاثة ارباع الجيش الذي سيره (عمر) من (المدينة) الى القادسية ، وسائر الناس بربع . ليجتمع عددهم مع عدد قبائل ربيعة وأسد اللتين كانت قبائلهما تمتد بين العراق ونجد وإليهما فزعت القبائل ، فكانوا جميعاً عدة الجيش الإسلامي في القادسية ، فامتدت هذه الجيوش بين ارض بكر بن وائل من ربيعة حيث معسكر (المثنى بن حارثة الشيباني) و(عدي بن حاتم الطائي) على (طيء) معه وبين ارض بني اسد حيث معسكر سعد بن ابي وقاص . كذلك تذكر الروايات بعض من برز انهم كانوا من بني عقيل . وهي كما هو واضح قبائل الشيعة صريحة . حتى ان الديلم – وهم اجداد البويهيين – قد اشتركوا في هذه المعركة ضد الفرس ، الامر الذي يثبت انتماءهم السومري , لذلك اشترك الفرس في القضاء دولة الديلم لاحقاً مع جيش الترك الذي ارسله بنو العباس[48] . وكانت هذه القبائل عمود جيش القادسية ضد الفرس ، انضمت اليهم سرايا من قبيلة كِندة لاحقا .
كذلك كانت هناك قبيلة بني تميم التي انضمت اليها بعض قبائل الاعراب في (نجد) مثل الرباب وقيس عيلان ، لكن بعدد محدود جدا . وقد كانت هذه القبائل المضرية تريد حماية العراق وترفض امر (عمر) بالنزوع الى الشام ، رغم محاولة (عمر) استمالتها عن طريق الاستفزاز القبلي ، في محاولة منه للتغيير الديموغرافي الذي عجز عن تنفيذه في العراق ونجح فيه العثمانيون لاحقا ، فهو امر غريب ان تظل هذه الرغبة في تغيير وجه وخارطة العراق لقرون بين السلطات . الا ان الجهد كله انصب على قبيلة ربيعة التي اطلق عليها العرب يومئذ لقب “الأسد” في قبال لقب امبراطورية فارس “الأسد” أيضا .
لهذا لم يوّلِ (عمر) من زعماء هذه القبائل احد على سرايا ورايات وعرافات جيش القادسية ، رغم ان فيهم أبناء الشرف والمنعة والإسلام أمثال (عدي بن حاتم الطائي) ، لأنه اتهمهم بالتآمر على قوى الانقلاب التي جاءت بأبي بكر وبه ، ورغم ان محور جيش القادسية قائم على هذه القبائل . الا انه اضطر ان يولي سلمان الفارسي على دين الناس فقط ، لعلم (عمر) بجدلية العقل العراقي الديني ، وانه لن يستقيم له معهم الا رجل كسلمان عالي الرتبة في المعرفة الدينية ، فوّلاه لحاجته لأهل العراق .
فجند (عمر) الذين بعثهم مع سعد بن ابي وقاص من خارج العراق كانوا اعراباً تقوم حياتهم على السلب والنهب ، حتى ان (سعداً) سرّحهم الى جنوب الفرات الى ميسان , فسلبوا أبقار الناس وثيرانهم بلا وجه حق وارعبوهم ، وهذا احد اهم أسباب خوف أهل السواد النبط العرقيين من قوى الانقلاب .
والغريب المستهجن ان هذا الأمير العمري سعد بن ابي وقاص لم تكن له أية بطولة في معركة القادسية , ولا بعدها من ملاحقة فلول الفرس الهاربة , ولا نعرف لماذا اختاره (عمر) ، وهو الذي نام والنَّاس تتطاحن في يوم الكتائب في القادسية دون توقف ، ولا ندري اَي قائد في التاريخ كان بمثل حاله ، حتى ان القبائل جميعاً تمردت عليه ليلة الهرير لضعفه وقلة حيلته وبطئ رأيه ، فخرجت تحمل ولم تنتظر أمره ، ومن ثم هو لم يكن له اَي دور في معركة القادسية سوى اسم في سجلات التاريخ الزائفة . حتى ان الفرس حين قصدوا (سعداً) في معسكر غضى لم يمنعهم الا قبائل بني تميم العراق ان يأتوه من سواد البصرة . فقد كان جيش الخلافة الذي أتى مع (سعد) مشغولاً بنهب ثروات العراق ، التي انبهر بها الى الحد الذي سمّوا تلك الأيام باسمها ، فيوم الأبقار ويوم الحيتان (السمك) ، والتي كانوا ينهبونها من مزارعي سواد العراق لا سيما الانباط ، بقيادة الأمراء العمريين الجدد مثل (سواد بن مالك) صاحب اول سرية ل(سعد) .
ورغم هذا فقد اشترك الانباط من أهل سواد العراق (الحمراء) في جيش القادسية الإسلامي ضد الفرس . وكانت رحى الحرب تدور على بني اسد وحدهم و(سعد) لم يأذن لجيشه بعد ان يسعفهم ، بحسب الروايات ، لكن من ملاحظة حثّ زعماء القبائل لقبائلهم يفهم ان هذه القبائل كانت تحجم رهبة وهي ترى الفيلة ومائة وعشرين الف جندي فارسي . حتى ردت بنو اسد الفيلة عن وجوه العرب ، فعندئذ أقدمت بعض القبائل على القتال ، بعد ان قُتل من بني اسد خمسمائة رجل ، وكان يوم أرماث وهو الْيَوْمَ الأول لها وحدها . ويبدو من الروايات ان القبيلة التي كانت تعاونها هي ربيعة .
كذلك كانت (النخع) الى جوارهما ، حتى أن غلاماً نخعياً كان يقتاد ما يقارب الثمانين أسيرا ، وكان حامل لواء (النخع) يحث قومه على استباق الناس لنيل الشهادة , وكانت نساء (النخع) تقاتل الى جانب الرجال بالهراوات وتطبب الجرحى ، حتى ان بعض النساء منهم كانت تذكّر أولادها بثباتهم على الإسلام وتقذفهم في لهوات الحرب , ولشدة بأس هذه القبيلة تزوجت منها العرب سبعمائة امرأة ، حتى أطلقوا على (النخع) (أصهار العرب) , وقد كانت (النخع) تتحرك بأثقالها مع الجيش الإسلامي في معارك التحرير من الجيوش الأجنبية بين الشام والعراق مع خالد بن الوليد وابي عبيدة و(سعد) بن ابي وقاص . واذا تجاوزنا قصة القعقاع بن عمر التميمي المختلقة من سيف بن عمر التميمي ، فإن (النخع) هي اول قبيلة حملت ليلة الهرير . وهؤلاء الأبطال من أهل العراق هم الذين وصفهم (سعد) في كتابه ل(عمر بن الخطاب) بقوله (كان يدوون بالقران اذا جن عليهم الليل دوي النحل وهم آساد الناس لا يشبههم الأسود) ، وهم ذاتهم من صاروا شيعة ل(علي بن ابي طالب) ، فكان احرى بالوصف ان يبقى معهم . حتى ان المدد الذي جاءهم من الشام بأمر (عمر) كان من قبائل العراق مراد مذحج وهمدان ، وهؤلاء الاخيرون أجلى صورة للشيعة ، وكانواهم أهل الأيام الذين شهدوا اليرموك والقادسية. وقد انتقد الناس موقف (سعد) بن ابي وقاص المتخاذل وبقائه في القصر هو وأهله وقد قُتِل الناس واجهدت الاهلين ، حتى قالوا في نقده الأشعار ، وكان يستخلف مكانه خالد بن عرفطة حليف بني امية . ويبدو ان أهل العراق حين رأوْا ذلك ولم يكن باستطاعتهم عدم تنفيذ امر الخليفة بتأمير (سعد) بن ابي وقاص عليهم رغم عيوبه ، ومن ثم ان (ايا) منهم لم يكن ليتقدم لقيادة الناس اذ سيشكوه (سعد) الى الخليفة ، اختاروا تقديم ابن أخيه (هاشم بن عتبة بن ابي وقاص) ، وهو المعروف ب (المرقال) احد اهم شيعة (علي بن ابي طالب) وحامل رايته يوم صفين ، ف(سعد) لن يجرؤ على شكاية ابن أخيه . وقد كانت خطة ذكية جداً ، فقد كان المرقال جسوراً محنكاً ، لحق فلول الفرس الى جلولاء ، وتعاون مع الانباط السكان المحليين لمباغتة الفرس ، واقتحم فلولهم وحده بجيشه الخاص حين أحجم أمراء (عمر) و(سعد) ، فانتصر عليهم لا سيما في معركة جلولاء الفاصلة . وكل هذه البطولات من شيعة علي وأهل العراق وصلتنا رغم ما اخفته أقلام السلطة والعداوات القبلية والمذهبية ، فبعض الروايات لم تكن دقيقة لانها أخذت عن غير أهلها وممن لم يحضر تلك الوقائع ، كما في النقل عن عائشة وترك روايات أهل العراق الذين شهدوا تلك الأيام .
لهذا لم يجد (عمر بن الخطاب) بدّاً من تولية حُذيفة بن اليمان على أهل الكوفة حينئذ ، اَي منذ القادسية ، لتشيعه الواضح ل(علي بن ابي طالب) ، ولحاجة الخليفة لهذه القبائل الشيعية يومئذ وارتباكه تجاه طريقة التعامل معها . فقادة (عمر) الذي بعثهم من (المدينة) والأعراب أهاجوا أهل السواد بسلب أموالهم ومواشيهم وارهاب أهليهم . ومن الغريب ان تغير هذه القوات على قرى قبائل تغلب والنمر رغم مشاركة الأخيرتين في نصرة الجيش الإسلامي . وهنا يكمن الفرق في الأخلاق والدين بين الجيشين العراقي والأعرابي الذي خشي (عمر) تأثيره على قبائل العراق العربية فيقلبها ضده ، فاستعان بمثل حُذيفة لضبط الأمور . وقد ورّثت هذه الاخلاق في الأجيال التي تبعت عقيدة (علي بن ابي طالب) فقد رفض جلال الدين ملك باميان الشيعي في العصر العباسي وضع يده بيد الاتراك لخيانة ملكهم رغم اغراء المكاسب المحتملة حفاظاً على العهود[49] .
ولا اعلم كيف تسنى لبعض الرواة نسبة أهل العراق الذين قدموا من الشام لنصرة إخوانهم في القادسية الى ارض اليمن الجنوبية ، فيما ان صريح مصطلح “أهل العراق” الذي يطلق عليهم يومئذ يناقض هذا المدعى ، فكل القبائل التي جاءت من الجزيرة العربية إنما جاءت في واقعة القادسية ، ولا يمكن نسبتها حينئذ لأرض العراق وهي لم تتوطن بعد ، الامر الذي يكشف ان من اطلق عليهم (عمر) عنوان “أهل العراق” كانوا أهله فعلاً قبل قدوم قبائل الجزيرة التي لم يكن لها من دور مهم في تحرك الاحداث على الارض . وقد سَرِّح (عمر) أهل العراق الى نصرة أهل القادسية على الاظهر بعد وصول اخبار ضعف قادته الذين بعثهم على الجيش من (المدينة) ، وسماعه لبأس أهل العراق امام جيش فارس . وحتى حين كفر اهل خراسان في أيام حكومة (علي بن ابي طالب) وجاءهم المدد من كابل لقتال المسلمين قاتلهم رجال علي بقيادة واليه عليها خليد بن طريف فهزمهم , ونزلت بنات كسرى على امان علي , فلما قدمن عليه عرض عليهن ان يتزوجن , فطلبن الزواج الى ولديه دون الناس , فتركهن وشأنهن ولم يزوجهن من ولديه , وانزلهما على (نرسا) الذي عاملهن معاملة بنات الملوك[50] . ومن هنا لم تكن ام الامام زين العابدين احدى بنات كسرى كما هو الشائع , ومن هنا ايضاً كان الاختلاف في اسمها بين (شهربانو) و(شهربانويه) و(سلافة) و(خولة) و(غزالة) و(شاهزنان) , فكل القصة مختلقة , وبالتالي ان المرأة المنسوبة الى الموالي النبط والتي ربته عملياً والتي اشيع انها حاضنته هي امه الواقعية على الأرجح , ولأنها التي كان يعيش معها فعلياً اختلقوا ان امه الفارسية ماتت في النفاس . ولهذا كانت علاقة الحسين بالموالي النبط عالية . وقد تسنى لمن أراد هذا الشياع الخاطئ هذا الخلط ربما لكون الام الحقيقية من موالي العراق[51] .
ولهذا كله ولأن قبائل العراق وأهل السواد هم من قاتل الفرس وحرر ارض العراق لم يعتبرها (عمر) أرضاً مفتوحة ولم يقسمها على الجيش[52] . وكان من شدة تردد امير الخليفة على جيش العراق سعد بن ابي وقاص ان صاحت زوجة (المثنى بن حارثة الشيباني) في وجهه ( وامثنياه , ولا مثنى للخيل الْيَوْمَ ) ، فكانت شجاعته انه لطمها ، فقالت ( أ غيرة وجُبناً ! ) . فنسب رواتهم لمعالجة هذه اللطمة التي لا تجوز شرعاً انه تزوجها ، وهذا ما نستبعده جداً , فقد كان (المثنى) معسكراً في ذي قار عند قدوم (سعد) ، ولو فرضنا انه مات يوم قدوم (سعد) كان من اللازم ان يكون بين قدوم و(سعد) والقادسية اكثر من أربعة أشهر للعدة الشرعية ، وهذا مستبعد ، فضلاً عن قبول امرأة مات زوجها لتوه الزواج مباشرة في اول يوم انتهاء العدة[53] .
ويبدو ان المسيحيين كانوا يميّزون أهل الدين الحق عن غيرهم ، فكانوا اليهم اقرب ، في اسلامهم وفي تنصّرهم ، فهذا اسقف نينوى الجاثليق (مار مي الارزني) يرمي الميرة والمعونة لجيش (علي بن ابي طالب) في واقعة (صفّين) ، فكتب اليه علي وصية على رعيته .
فيما يقول (ولهاوزن) في كتاب ” الدولة الاموية وسقوطها ” ( وللمتطرّفين أسماء مختلفة .. وكانوا أوّلاً يُسمّون السبائية. ويقول سيف بن عمر إنّ السبائية كانوا منذ أوّل الامر أهل الشرّ والسوء .. هم قتلة عثمان , فتحوا باب الحرب الاهلية .. وتولّد عنهم انهيار الإسلام … وكان موطنهم الكوفة وضواحيها, وليسوا من العرب وحدهم, بل معظمهم من الموالي, وهم يعتقدون بتعاليم ابن سبأ في تقمُّص الارواح … فمن مُؤَلِّهي ابن الحنفية ولد مؤلّهو ابنه وهم الهاشمية , ولم تنطفئ السبئية في الكوفة … فالمؤامرة العباسية تشابه تمام المشابهة مؤامرة السبئيّين . كما يصفها سيف , ومركز قيادتها في الكوفة أيضاً, فمن الكوفة كانت تنتشر دعوتها إلى خراسان .. إنّ الحركة في كلتا الحالتين دعمها الموالي الفُرس ووُجّهت ضدّ العروبة في الاسلام, … )[54].
ومن الواضح ان الذي يقرأ كلامه , دون ان يعرف اسمه , سوف يتصور ان المتحدث هو احد وهابية السلفية اليوم ! . والرجل كما يبدو كان حريصاً على دولة الاسلام ونجاتها من مؤامرات السبئية , حتى انه نسي ان يربط بين الحلقات التأريخية لظهور من يسميهم بالسبئية , وان يعالج المتناقضات في مرويات من ينقل عنهم حول فرقة السبئية ! . ونسبة قتل (عثمان) اليهم وحدهم تجنٍّ , فقد اشتركت قريش –كما اشترك المهاجرون والأنصار– في حصاره ودمه[55].
وكان الكثير من (الموالي) من نبط العراق من شيعة علي بن ابي طالب او أنصاره . والمقصود منهم سكنة العراق التاريخي , الممتد من أرمينيا حتى اليمن , ومن أواسط الشام حتى العمق الإيراني , وهم في الغالب يتحدثون اللغة الآرامية السريانية , التي كانت لغة العلوم حينذاك . لكنهم ابتلوا بأمرين اضاعا حقهم , كره السلطة الرسمية لهم وبالتالي كتّابها , وجهل الكثير من المحدّثين بلغتهم , وبالتالي نسبوا كل لهجة أعجمية في العراق الى الفرس وهو خلاف التحقيق , فالسريانية كانت اكثر انتشاراً من اللغة الفارسية . ومصطلح (الموالي) يطلق حصراً على نصارى الامة الآرامية , التي كانت مدنية ولم تكن تعرف العشائرية , لهذا والوا القبائل العربية وصاروا موالي لها . من هنا لم يطلق هذا اللقب على (الزط) وهم قوم من الهند , ولا على (السبابجة) وهم قوم من (السند) , كانوا يسكنون البصرة , وكانوا في طاعة (علي) , حتى قتل منهم جيش (عائشة) العشرات غدراً في ليلة مظلمة ممطرة ذات ريح , اذ كانوا يحرسون بيت مال البصرة عند قدوم الجيش بقيادة (طلحة) و(الزبير) والقرشيين وأعرابهم[56] .
ويبدو ان تاريخ (النبط) قد أهملته العنصرية العربية القبلية عمدا , فقد كان لهم سوق في (بني عامر) في مكة على مسافة تقارب كيلومتراً واحداً من الحرم وكان رسول الله يبتاع منه[57] , فكيف لم يتسنَ لهم الاحتكاك بالدعوة الإسلامية , ولم تكن لهم مواقف منها؟ , لاسيما مع ارتكازهم العقلي العراقي . وقد خلق الاختلاف في العمق الحضاري والانتساب بين (النبط) العراقيين وبين (الزط) الهنود اختلافاً معرفياً في (علي) بينهم , اذ حين ظهرت في فترة مبكرة عوائل الرواة الاصحاب من (النبط) برزت ظاهرة تأليه (علي بن ابي طالب) من قبل (الزط) , لان الأخيرين –بسبب اصولهم الهندية– لم يفهموا المعنى الولائي العلوي , فانطلقوا في خيالهم التصنيمي . فرأى (علي) من المناسب إنهاء هذه الظاهرة[58] .
وقبل معركة (صفّين) حشر (علي) أهل السواد – (النبط) – فلما اجتمعوا أذن لهم , فلما رأى كثرتهم قال إني لا أطيق كلامكم ولا أفقه عنكم فاسندوا امركم إلى أرضاكم في أنفسكم وأعمّه نصيحة لكم, فاختاروا (نرسا) وقالوا ما رضي فقد رضيناه وما سخط فقد سخطناه, فتقدم فجلس إليه, فقال : اخبرني … فقال (( يا نرسا ان الله عز وجل خلق الخلق بالحق , ولا يرضى من أحد الا بالحق , وفي سلطان الله تذكرة مما خول الله , وانها لا تقوم مملكة الا بتدبير ولا بد من امارة )) , ثم أمّر على أهل السواد امراءهم[59] .
ومنهم (زاذان فروخ) من دهاقين أسفل الفرات, وكان مواليا ل(علي) , قُتل على يد الخوارج سنة 38 ه بعد عودته من أخواله في (نفّر) من أعمال ( قرظة بن كعب بن عمرو الأنصاري) , فأرسل العامل لأمير المؤمنين يخبره بقتلهم له بعد قوله في (علي) انه ” أقول فيه خيراً , إنّه أمير المؤمنين , وسيد البشر, ووصي رسول اللّه ” , وعفوهم عن يهودي مرّ معه من الطريق الى الكوفة , فكتب إليه (علي) ما نصه (( أما بعد, فقد فهمت ما ذكرت من أمر العصابة التي مرّت بعملك, فقتلت البر المسلم, وأمن عندهم المخالف المشرك, وإن أولئك قوم استهواهم الشيطان, فضلوا كالذين حسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا فأسمع بهم وأبصر, يوم تحشر أعمالهم, فألزم عملك, وأقبل على خراجك, فإنّك كما ذكرت في طاعتك ونصيحتك والسلام ))[60] . ويبدو من قصة (زاذان) ان الانباط كانوا يقبلون على الإسلام والتشيع باستمرار , وعلى مستوى نخبتهم , الى نهاية حياة امير المؤمنين (علي) . حيث ان الخوارج عند (نّفر = موقع قريب من القادسية) اخذوه وكان قد أسلم وعرف (علياً) على منهج الحق .
ومنهم (ميثم بن يحيى -عبد اللّه- التمّار) الشهيد . كان خطيب الشيعة بالكوفة ومتكلمهم, ومن أعاظم شهداء التشيع , أخذ العلم عن (علي) وكان من أهل الأسرار والمكاشفات والكرامات , له كتاب في الأحاديث , سُجن في الكوفة حين استشهد (مسلم بن عقيل فيها) , وصلبه (عبيد الله بن زياد) على جذع نخلة في داره سنة 60 ه , ودفن في داره, ولم تزل داره من المراقد المعروفة التي تزار في الكوفة[61] .
ومن الموالي (النعمان بن قيس بن المرزبان بن زوطي بن ماه) حامل راية (علي) يوم (النهروان) . وهو جد صاحب مذهب الرأي (ابي حنيفة النعمان)[62] . وهو على الأرجح من نبط العراق[63]. وقد ظلت في هذا العرق بعض مبادئ (علي بن ابي طالب) , اذ رفض حفيده (أبو حنيفة) –على شهرته– تولي القضاء لبني العباس , وقد ضُرب بالسوط على ذلك[64]. والاقرب ضعف مقولة ان (أبا حنيفة) من الأفغان اوالساسانيين[65] .
وقد اشتهر في موالي العراق (النبط) اسم (كيسان) . ومنهم (كيسان أبو صادق) مولى (علي) , فحين اقبل (احمر) مولى (بني امية) الى (علي) في (صفّين) ليضربه خرج إليه (كيسان) مولى (علي) , فاختلفا ضربتين فقتله (احمر) , وخالط (علياً) ليضربه بالسيف , فانتهره (علي) ووضع يده في جيب درعه فجذبه , ثم حمله على عاتقه[66] .
وكذلك (كيسان أبوسعيد المقبري) محدث كثير الحديث , من الطبقة الأولى من أهل (المدينة) , روى عنه الجمهور في كتب الحديث , كان مولى ل(علي) , بعد ان كان مولى ل(بني جندع) , وشهد مشاهده كلها . مات بعد سنة ١٠٠ ه [67].
انّ هذا الإيمان المسيحي كان يقلّ في عمقه العقائدي كلما ابتعد عن وهج النسطورية في العراق . فكان مسيحيو العراق أصلب من غيرهم في عقيدتهم ، لكنّهم دخلوا الاسلام قبل دخول خَيل الجيش الاسلامي بلادهم ، فصار (المثنى بن حارثة الشيباني) زعيماً لتلك الجموع المسلمة ، وفي جيشه – الذي زحف الى ذي قار – نحو أربعة آلاف من (نبط العراق) ، الذي اطلق عليهم العرب اسم (الموالي) ، لأنهم دخلوا في أحلاف موالاة مع القبائل العربية بعد ان كانوا أهل مدنية لا قبلية . والغريب ان العرب من ربيعة ومضر تخاصمت نتيجة حروب هؤلاء الموالي لاحقاً في العصر العباسي انتصاراً لاحد طرفي بني بويه غير العرب , حتى اصلح بينهم عضد الدولة ملك ال بويه[68] .
وقد كان الخوارج خليطاً من الأعراب[69] والموالي وأهل العبادة لا المعرفة ، وكانت قيادتهم في الغالب من بني تميم ، وهي القبيلة التي كانت منقسمة في ولائها بين الكوفة والبصرة ، بين المدنية والبداوة . بالإضافة الى مجاميع ممن يُؤْمِن إيماناً عاماً بالدِّين ولا يفهم تفاصيله . ورغم انهم كسروا جيش علي بجهلهم ، الا ان خروجهم كان نافعا في عدة قضايا ، منها فتح حوار عقائدي داخلي في جبهة علي بين من يعرف مقامه كإمام مفترض الطاعة وبين من يحترمه كخليفة مفترض الطاعة ، وكذلك لنبذ تلك المجاميع غير الواعية . والاهم ان هذه المجاميع كانت تساوي بين علي وبين ابي بكر و(عمر) ، وترى انهم على مرتبة واحدة ، فكان من الضروري فك الارتباط بين رؤيتهم ورؤى غيرهم . وقد كان بيان الواقع لسلوكهم وتطبيقات فكرهم أمراً لا يتسنى لعلي كشفه لو كانوا داخل جيشه ، ولا يمكن له منع نشر فكرهم اذا ما انتصر على معاوية ورجعوا جميعاً الى الكوفة ، ومن ثم ستكون الامة منقسمة الى قسمين كلاهما يدعي انه الطريق الى الآخرة ، وليس كما كان بنو أمية يتعاملون على انهم الطريق الى الدنيا . فكان انعزال الخوارج وقتلهم للابرياء من المسلمين بدعوى شرك من لم يكن معهم كافياً في إيضاح جهلهم للناس[70] .
وقد خرج الكثير من النواصب وضعيفو الإيمان وأهل الدنيا عن العراق . اذ ان من بالكوفة والبصرة من العثمانية قد هربوا فنزلوا الجزيرة في سلطان معاوية[71] . كما انتقل جزء كبير ممن كان قد شارك في معركة (الجمل) ضد الإمام الشرعي (علي بن ابي طالب) الى صفه عند معركة صفين ، لا سيما من ازد البصرة تحت قيادة صبرة بن شيمان الازدي ، ومن بني تميم والرباب[72] . الامر الذي سمح لهم بلقاء وجوه الصحابة والتابعين ، والاحتكاك بالفكر الكوفي ، كما سمح لهم بمعرفة علي بصورة مباشرة ، الامر الذي سيكون كفيلاً بتغيير القناعات والأفكار تجاه مفهوم الإمامة .
وهذا كله وفارس لم تعرف بعد (علي بن ابي طالب)[73] ، فيما ينسب أهل الباطل من كتّاب السلاطين التشيع اليها . حتى انهم خرجوا على عامله سهل بن حنيف قبل عام ٤٠ هجرية ، وأخرجوه ، فوّلى عليهم احد (الموالي) الذي يعرف تدابيرهم وطريقة عيشهم ، وهو زياد بن ابيه ، الذي استلحقه معاوية بعد ذلك وقرّبه ، فأجاد إدارة إقليمهم الشائك .
وقد اهلك عمّال بني امية البلاد والعباد فاذلوا سكان البلاد المفتوحة الأصليين واعتبروهم رزقاً حلالاً وجعلوا الموالي من غير العرب عبيدا[74] . وقد كان العراق اهم رافد مالي للدولة الإسلامية[75] , كما ظل في زمن العباسيين كذلك حين اقطع المهدي العباسي جزءاً من واسط للانفاق على الحرمين وأهلها[76] .
والانباط كانوا يشغلون رقعة واسعة بين البصرة والكوفة , ولم يكونوا منظمين بنحو الدولة او القبائل , وقد وقعوا في حيرة من نصرة احلافهم المنقسمين من قبائل العرب , حتى تهيأت لهم الفرصة النظامية وحلفاء جدد بقيام (المختار) والنخعيين بعد انسلاخ النواصب وخروجهم من العراق واستقرار النبط الى القبائل المتبقية . وكان من كثرة الموالي النبط وغلبتهم على جيش (المختار الثقفي) الثوري ان حركته حملت اسم قائدهم (كيسان ابي عمرة) , فسموا أصحاب (المختار) الكيسانية , ولم يكونوا فرقة اعتقادية كما نسبهم البعض بل فئة اجتماعية[77] . ومن كثرتهم حول (المختار) قال العرب : ان (المختار) قد آذى بموالينا , فحملهم على الدواب واعطاهم فيئنا[78] .
ان (عبيد الله ابن زياد) كان من الموالي النبط أيضا , وكان الوالي على المصرينِ البصرة والكوفة , وقد قدم الى الكوفة مع خمسمائة مقاتل , ولحقته جيوش البصرة لا شك , لهذا ليس من المنطقي الاعتقاد بأن اهل الكوفة هم من انفردوا بقتال الحسين بن علي . وكذلك هو امر يكشف ان حركة (ابن زياد) لم تكن مخفية ليتمكن من خداع القبائل الكوفية بأنه شخص اخر .
ومن قول الحصين بن نمير عن صلاة الحسين بن علي واصحابه “انها لا تُقبل” يمكن معرفة انه لم يكن يفهم من مقام الحسين الديني شيئا[79] , وهذا ما جعل الموالي من الانباط وغيرهم منقسمين في كربلاء وفقاً لانقسامات القبائل التي حالفوها , فالمعرفة كانت تخضع للأثر الجغرافي والقبلي كثيرا , البعض مع الحسين , والكثير في جيش بني امية , وكثير جداً لا خلاق لهم[80] .
وقد كان انصار الحسين في كربلاء من مختلف القبائل , الظاهرة الولاء او غيرها , الى جانب العديد من الموالي[81] من مختلف الشعوب غير العربية[82] , كانوا افراداً وصلهم صوت الحسين , وهو العنوان الأمثل لرسالة الحسين ذاته . لكنّ الملفت كان هو غياب قبائل مفصلية في حركة التشيع للأربعين سنة التي سبقت ثورة الحسين , مثل (النخع) , وهي القبيلة التي قادت الثورة عملياً بعد شهادة الحسين , ثم استمرت بمجموعة من الثورات اللاحقة على بني امية , الامر الذي يكشف ان هناك ما منعها من حضور كربلاء , كأن يكون ظرف زماني او ظرف مكاني , فليس من المعقول ان تجمع على عدم الحضور ثم تجمع على الثورة والاخذ بالثأر , وهم المعروفون بالولاء والبأس . وكان الموالي النبط يخضعون في ولائهم لأهل البيت ومنهم الحسين بن علي الى مقدار معرفتهم بهم من خلال من يوالونه من العرب , فنجد مثال (زاهر) مولى عمرو بن الحمق الخزاعي الثائر حتى الشهادة عميق الولاء دائم الثورة ضد بني امية في زمان معاوية او (يزيد) , حتى استشهد مع الحسين في كربلاء , وكان من ذريته عدة محدثين ورواة نقلوا عن اهل البيت منهم محمد بن سنان الزاهري[83] .
كما ان رثاء الحسين شعراً من جميع الامة الاسلامية كان نصراً مؤزراً للمذهب العلوي الحق على دين بني امية وسقوطه . ومن معرفة ان اول من رثى الحسين شعراً قد كان مولى نبطياً هو (سليمان بن قتة)[84] نفهم ان هذه الثورة الحسينية كانت تخترق صفوف المنطقة كلها . لذلك كان من قتل قاتل الحسين (شمر بن ذي الجوشن) هم الموالي النبط بقيادة (ابي عمرة عبد الرحمن بن ابي الكنود) عند (الكلتانية) قرب ميسان , فأكلت جثته الكلاب[85] .
كان هناك مدرسة الموالي النبط وغيرهم الذين اثروا المكتبة والعالم الإسلامي بما رووه . ومن هؤلاء التابعي (زاذان – أبو عمرة – الفارسي) مولى كندة المتوفى 82 ه. كان من علماء الكوفة , كثير الحديث ، روى عن سلمان الفارسي , و كنّاه الأكثرون (أبو عمر) , وكان ثقة , قدم الى بغداد وحدّث فيها عن (علي بن ابي طالب) وعبد اللّه بن مسعود، و غيرهما من الصحابة , وكان من خواص أمير المؤمنين (علي) , وقد ذكره (ابن حبان) في الثقات , وله في السنن أحاديث , وسكن الكوفة و حدّث بها[86].
وبالطبع أنا أشك كثيراً في كونه فارسياً ، بل لقب (أبو عمرة) اختص بموالي النبط العراقيين واشتهروا به ، كما ان الرجل كان من العراق وفِي العراق والى العراق ، لكنّ اللسان الأعجمي جعل المؤرخين ينسبون كل عجمة – حتى وان كانت هي الأغلب كالسريانية – للفرس .
وبعد نجاح الدم الحسيني في تحريك عاطفة الناس باتجاه اهل البيت , وقدرة الإمام (علي بن الحسين السجاد) على إعادة توجيه البوصلة الأخلاقية للامة , ان الامام (محمد بن علي الباقر) يبقر العلم بعد ان عرف الناس معدن اهل البيت وادركوا حاجتهم اليهم وبعد اندراس المدارس على يد بني امية بالقتل والتهجير . فراح يؤسس للعلوم الاسلامية بعد ان اراد دعاة بني امية مسحها , وحضرت بين يديه مختلف الشخصيات العلمية والفقهية في الامة , فقد نقلوا عن الحكم بن عتيبة[87] انه كان بين يدي الإمام (الباقر) كأنه صبي بين يدي معلمه . وممن روى عنه من فقهاء العامة كيسان السختياني الصوفي وابن المبارك والزهري والاوزاعي وأبو حنيفة ومالك والشافعي وزياد بن المنذر النهدي . وصار يحتج على الخوارج – الذين قصدوه مناظرين بزعامة عبد الله بن نافع بن الأزرق – في (علي بن ابي طالب) بمحضر ابناء المهاجرين والانصار ليعيد ترتيب الأوراق العقائدية من خلال تنشيط ذاكرة الأنصار الروائية . وقد بلغ من شياع علمه ان قصده المسلمون من بقاع الأرض , مثل اهل خراسان . وكان يعيد ترتيب الأوراق الذهنية للفقهاء الكبار مثل قتادة بن دعامة فقيه اهل البصرة . وفي حواره مع عبد الله بن معمر الليثي حول حلية المتعة لم يكتف ببيان حكم المسألة , بل أراد إعادة ترتيب ذهنية الفقهاء واخراجهم الى التمييز بين حكم الله ورسوله وبين نهي (عمر) , وهي نقلة نوعية في فكر الامة حينئذ . وكان من الطبيعي ان يلتف حول الإمام (الباقر) أبناء قبائل بني اسد و(عجل) وشيبان والازد ومواليهم من النبط , مثل ابي بصير الاسدي وبريد بن معاوية العجلي وليث بن البختري المرادي و(آل اعين) موالي قبيلة شيبان , وغيرهم من أبناء بعض القبائل . ولذلك لا غرابة ان يلازمه الشاعر (الكميت الاسدي) . وان يظل يروي عنه أمثال ابي نعيم النخعي[88] . وقد بلغ من قوة الامامة في عهده بين الناس ان الوصية لمن بعده وهو (جعفر بن محمد الصادق) احتاجت ان يشهد عليها من كان من قريش في (المدينة) حتى لا ينازع فيها[89] .
ولقد تمكّن الإمام (جعفر بن محمد الصادق) ان يفجّر ثورة معرفية , تعيد بوصلة الحق العامة وتحيي معالم الاسلام وتنشر الدين كما علّمه (علي بن ابي طالب) , بما روى عنه اكثر من أربعة الاف من ثقاة الرواة , وبما سمع من حديثه كبار علماء الامة على مختلف مذاهبها , ولم يُنقل عن غيره ما نُقل عنه كما جاء عن ابن حجر وابن شهراشوب و(المفيد) . وكان من زخم هذه العلوم ان اضطر خصوم اهل البيت وأصحاب الدعاوى ان يردوا عليها , فكان ذلك يوسع تلك المطالب ويزيد بيانها فتتفجر المعرفة . وقد اضطر أئمة المذاهب الإسلامية ان يشهدوا للإمام (الصادق) في علمه , ومنهم مالك بن انس وأبو حنيفة وابن ابي ليلى وعبد الله بن المبارك , الامر الذي دفع المزيد من العامة اليه ومنهم شيخهم سفيان الثوري الذي اخذ منه في المجال الأخلاقي الكثير . ووجود تسعمائة شيخ في مسجد الكوفة يحدثون بحديث (الصادق) ويروون عنه باسمه او يكنونه[90] كان يعني غلبة التشيع في الكوفة والجهر به . فراح يؤسس للمكتبة العلمية والإسلامية في مختلف العلوم الطبيعية والدينية ويؤصل للمعرفة . حتى انه بيّن الكثير من حقيقة العوالم المحيطة والخفية لمّا رأى الزمان مناسبا . وكان تحيط به قبائل بني اسد و(النخع) و(عجل) وشيبان ومواليهم من النبط مثل (آل اعين) و (ابي بصير) و(ال درّاج) و(بريد بن معاوية) و(هشام بن الحكم)[91] وغيرهم كثير . حتى ان الإمام (الصادق) حين غاب عنه احد النبط افتقده وسأل عنه . حتى ان تفسير عبارة ” إحياء امر اهل البيت ” كان مصداقه أولئك العلماء من الرواة بحسب حديث الإمام (الصادق)[92] . لا سيما مع دعوة الإمام لنشرة عقيدة الإسلام برواية اهل البيت في مختلف العالم[93] . بل كان اوثق الستة من أصحاب الصادق (جميل بن درّاج) وهو نخعي , و(عبد الله بن مسكان) وهو مولى لقبيلة (عنزة) الوائلية , و(عبد الله بن بكير) مولى قبيلة شيبان , و(حماد بن عثمان) من موالي الكوفة , و(ابان بن عثمان الأحمر) مولى (الازد) , بالإضافة الى (حماد بن عيسى الجهني الكوفي) . ومن الواضح ان جل أصحابه من اهل العراق العرب والموالي لاسيما (بني اسد) ومواليهم ومن الانصار . فيما كان احد مواليه من السند[94] , وهذا لا شك أوصل فكر الامامة الى ارض هي ابعد من العراق . وكان افقه أصحابه من الستة الاوثق كان جميل بن درّاج النخعي[95] وهو عراقي . حتى ان (أبا جعفر المنصور العباسي) اقر ان (جعفر الصادق) إمام العراق يجبون اليه أموالهم , وهو دليل استقرار التشيع في العراق حينئذ . وفي زمانه تم توثيق الاصول الاربعمائة عند الشيعة الامامية , لوجود من يحملها وحاجة الناس اليها , لا لضعف تلك المرحلة سياسياً فحسب كما هو الشائع , بل ان ذلك الزمان لم يكن زمان الإمام (الصادق) سياسيا , لهذا رفض إجابة دعاة خراسان حين اتوه في ثورتهم على بني امية , فأهل خراسان بقيادة (ابي مسلم) و(ابي سلمة الخلّال) لم يكونوا من شيعة (آل محمد) ولم يعرفوا مقامهم الحقيقي , وانما كانوا بعد خروجهم على بني امية لا يرون في الامة من يُتفق عليه الا زعماء بني هاشم , ودليله انهم جعلوا الامر بينهم وبين بني العباس وبني الحسن ولم يأتوا الإمام الحق بعينه . وقد كان (أبو عبد الله الصادق) يتخذ التدابير لنشر العقيدة المحمدية من خلال بث الرجال من زمان ومكان قريب الى اهل البيت للتهيؤ لزمان ومكان ابعد واقل معرفة بهم , بل عمد الى عيب (زرارة) احد الموالي النبط من (آل اعين) , كما عاب موسى وصاحبه السفينة حفظاً لها من الظالمين , ليتسنى للناس المعاندين الاخذ عن (زرارة) اذا علموا ان الائمة نقدوه , وقد كان اهل النصب من العامة لا زالوا يشيعون بغض اهل البيت وراثة عن زمان بني امية رغم الضعف السياسي حينذاك[96] .
ومن دعاة العلويين الذين قامت على دعواهم دولة (الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد) بطبرستان ، وأخوه محمد . والداعي الصغير (الحسن بن القاسم بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد) بطبرستان و(الري) أيضا , والذي كان يشتد على جنده في انكار المنكر الامر , الذي جعلهم ينفرون أحياناً على خلاف عادة القادة في زمانه[97] . وعلى دعواهم قامت دولة الديلم ، وبدينهم دانت تلك المناطق وقد كانت نافرة ، حيث أجابهم ملك الديلم (ماكان بن كالي) . وسر استجابة الديلم وثباتهم لاحقاً على منهج الإمامية اصلهم السومري ومن ثم ارتكازهم الحضاري , حتى ان أسماءهم كانت قريبة الى أسماء النبط العراقيين[98] كما في اسم زعيمهم (ليلى بن النعمان) , كما كان النسابة العرب مرتبكين في نسبتهم لوضوح كونهم ليسوا من الفرس او الترك وانهم وشعب (الجيل) شعب واحد قريب الى بلاد العراق[99] . وقد اتسم قادتهم بالشجاعة والكرم . لتظهر من خلال هذه الراية دولة (بني بويه) المعروفة بعمقها العلمي , والتي يصفها ابن خلدون بأنها واحدة من اعظم دول الإسلام التي باهى بها[100] , والتي كان كل وزرائها عرب على خلاف دولة السلاجقة الأتراك . وكان قيام دولة (الداعي العَلَوي) في تلك البلاد بداية انتشار العقيدة المحمدية فيها , وكان الداعيان ممن أعاد عمارة مرقدي الامامين (علي بن ابي طالب) والحسين بن علي[101] .
وقد اسلم الديلم قبل ذاك بدعوة (الاطروش) احد بني الحسين بن علي , وهو( الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر) ، حين قام وحده بالدعوة فيهم , وهو في ضيق , وادخل هؤلاء القوم في دين الإسلام بعد ثلاثة عشر سنة من الدعوة , ككل حركة دعوية للشيعة يومئذ , فبنى في بلادهم المساجد[102] . ودخلوا في الاسلام طوعا وبلادهم بأيديهم على يد العلويين[103] .
بينما في مكان آخر لم يكن القرامطة سوى مجاميع من الموالي النبط والأعراب الفوضويين في الفكر ، قاتلهم الشيعة من (طيء) وتغلب وشيبان وبني حمدان ، حتى ان القرامطة اسروا (أبا الهيجاء بن حمدان) والد (سيف الدولة) في طريقه الى الحج وقتلوا الحاج[104]. وكان ال الجراح من (طيء) أمراء قبائل الشام . وقد اصطف شيعة العراق خلف احمد بن محمد الطائي الذي كان على الكوفة لقتال القرامطة بعد ان طلبوا مناظرتهم ، فتم قتل هؤلاء القرامطة وابادتهم . فهرب (قرمط) ولم يجبه على دعوته الا الأعراب الجنابيون من قبيلة (كلب) . وكان بنو ثعلب وبنو عقيل من عرب البحرين في مد وجزر مع القرامطة حتى أبادوهم لاحقاً وغلبوا على البلاد . بل ان العرب الذين كانوا الى جانب القرامطة انهزموا لصالح (المعز الفاطمي) وكسروا جيش القرامطة حين حاصر مصر ، مما يكشف ان هذا الجيش تأسس على قاعدة من الموالي النبط ومجموعة من الأعراب . وقد كانت قوة القرامطة ناشئة عن الأعراب الذين معهم ، وبعض من لا ركيزة حضارية ، حتى ان بني ضبة الاعراب بين البصرة و(هجر) الذين كانوا في جيش العباسيين الذي خرج لقتال القرامطة انهزموا لصالح هؤلاء القرامطة وكسروا جيش العباسيين ، وبنو ضبة هم من كانوا حول (عائشة) يقاتلون (علي بن ابي طالب) في معركة (الجمل) ، الامر الذي يثبت انهم ظلوا بلا عقل هاد . كما ان تحالف الأتراك والقرامطة ضد الفاطميين يثبت ان القضية برمتها كانت نزاعاً على الملك ، لا سيما ان هؤلاء الترك كانوا في الأصل من موالي (بني بويه) الشيعة الإمامية الذين حاربوا القرامطة[105] . وقد حُصر القرامطة في حدود الأحساء الضيقة كدولة ، لما رفضته الناس من عقيدتهم رغم سيفهم ، كما حُصر جيرانهم الخوارج في عُمان ، وقد كانوا قريبين الى بعض ، يقاتلهم الشيعة من (بني بويه) جميعا[106] . فيما تم ارجاع الحجر الأسود من يد القرامطة عام 323 ه على يد الشريف العلوي (عمر بن يحيى) احد ذرية الشهيد الثائر (زيد بن علي بن الحسين)[107] .
وفي زمان وجد العباسيون ان استقامة ملكهم لا تكون الا بخلع الدعوة العَلوية والنكوص عن شعاراتهم في الرضا من (آل محمد) ، أي انهم لن يعيدوا الحق الى أهله كما أوهموا الناس الناقمة على بني امية حينذاك ، صار المتوقع منهم هو المتوقع من كل سلطان جائر تخلى عن القيم ، حيث يستعين بولاة الجور الذين كانوا اعواناً لمن قبله وليسوا يشكلون خطراً على ملكه ، فهؤلاء يعبدون المال ويخدمون كل باطل . فجعل (المأمون) من خلفاء بني العباس ولاية اليمن لحفيد (زياد بن ابيه)[108] أحد الموالي الانباط ، ليخلصوا تلك البلاد من دعاة الطالبيين . فجعلوا الامر الى (محمد بن زياد بن عبيد الله بن زياد بن ابيه) ، ثم استمر في ولده . فكانوا يجبون المال لبني العباس بما لم تره بلاد العرب حينها . وقد خرج (ال زياد) من العراق بعد مقتل الحسين رغم انهم من النبط الموالي وليسوا من العرب وان بلادهم بين العراق وفارس ، لان العراق لفظهم كما لفظ غيرهم من خصوم العَلويين . حتى غلبهم الموالي على امرهم في اخر دولتهم كما حدث مع العباسيين والفاطميين ، ثم انهارت دولة (ال زياد) على يد دعاة الفاطميين . وقد قام بدعوة الفاطميين (بنو يام) من همدان اليمن ، فقلبوا الامر على (بني طرف) حكام (تهامة) ، واختطوا مدينة صنعاء عاصمة اليمن اليوم ، وجمعوا الامر للفاطميين ، واسقطوا دعوة بني العباس ، ووصل حكمهم الى عدن . فحاربهم (ال زياد) بالأحباش ، اذ جاءوا بأكثر من عشرين الفاً منهم الى اليمن ، اذ كان العرب اما مع الياميين الفاطميين او مع الزيدية ، بمعنى انهم كانوا يميلون للتشيّع عموما . وكان (بنو نجاح) موالي (ال زياد) يسيرون بسيرة بني امية في قطع الرؤوس وإرهاب النساء بها[109] .
ومن أفراخ (ال زياد) ظهر في اليمن الداعية (علي بن مهدي الحميري) ، وهو السلف الصحيح للوهابية السلفية النجدية لا (احمد بن حَنْبَل) . حيث رعته (ام فاتك) احد نساء (ال نجاح) موالي (ال زياد) ، حتى انقلب على دولتهم وعلى من جاورهم ، خرج الى أعراب هَوازن من (قيس عيلان) وبث دعوته فيهم ، و(قيس عيلان) ذاتها كانت محط رحال الوهابية الحديثة ، ثم أخذ برأي الخوارج في تكفير علي وعثمان وتكفير سائر المسلمين وأخذ الجزية منهم ، وقتل شارب الخمر وتارك الصلاة بل والمتأخر عنها او عن خطبته . فتسبب بجهله للعقائد الصحيحة اصلان (حِمْير) و(قيس عيلان)[110] .
وفي زمان كان فيه (المعتمد العباسي) يلعن احد الامراء , وهو (عمرو بن الليث) , ولّاه الشرطة , وجعل اسمه على الأعلام , ثم عزله , وقد كان خاض ضده حروب , وهو ذات الشخص الذي انهى دولة العلويين بطبرستان[111] .
والعباسيون عموماً كانوا يولون المنتصرَ من الامراء المتقاتلين والمستهترين بدم الناس , كما كان ديدنهم في بلاد فارس وما جاورها[112] . كما كانوا يستعينون بمن ينشق عن خصومهم مهما كان مثل (لشكري) الذي كان مع الديلم رغم كونه قائداً فاشلا[113] . وقد رفض قادتهم في الشرق قبول طاعة (عماد الدولة بن بويه) طغياناً منهم , فحسن حاله فغلبهم على امرهم[114] .
وقد شهد العراق ثورات ضخمة متتالية بقيادة قبائل كبرى مثل تحالف بني لام (طي) الكبير على طول المنطقة الشرقية للعراق المعاصر وتحالف الخزاعل (خزاعة) الذي انضمت اليه بعض قبائل (شمّر) و(عنزة) في الفرات الأوسط , وكذلك تحالف المنتفك (بني مالك النخعيين , بني اسد , الموالي النبط) رفضاً للتخلف الإداري والحضاري التركي العثماني , الامر الذي دفع الكثير من القبائل الأخرى للثورة مثل (الحميد) في شمال ذي قار و(زبيد) في وسط العراق . فشهدت تلك القرون المتأخرة حملات عثمانية قاسية ضد جميع هذه القبائل من خلال الاستعانة بجيوش الولايات العثمانية غير العراقية والقبائل الكردية وقبائل الصحراء العراقية مثل بعض (قشعم) و(عنزة) , لتزدهر البداوة بشكل كبير من اجل مصلحة الباشوات العثمانية .
[1] سفر التكوين 25 : 13 – 18
[2] سفر صموئيل الأول 15 : 1 – 7
[3] مجلة (المقتطف) العلمية , بتاريخ 1\1\1903م , ج 28 , ص 217
[4] العرب واليهود في التاريخ , ص 106 – 107
[5] العرب واليهود في التاريخ , ص 56
[6] العرب واليهود في التاريخ , ص 56 – 57
[7] مقدمة في تاريخ العراق القديم , ص 215 – 218
[8] مقدمة في تاريخ العراق القديم , ص 219
[9] تاريخ العرب قبل الإسلام , د. محمد سهيل طقّوش , دار النفائس – ط 1 – 2009 , ص 267 – 272
[10] الملكة بلقيس التاريخ والاسطورة والرمز , ص 68 ,, اعيان الشيعة , دار التعارف , ج 1 , ص 243
[11] سِفر أعمال الرسل 9
[12] رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 11 : 32 – 33
[13]تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 645 – 646
[14] أقليات العراق في العهد الملكي / زيد عدنان باجه جي / دار الرافدين / ص ٣٣
[15] العرب واليهود في التاريخ , ص 57 – 58
[16] انظر : مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة , ج 1 , الوجيز في تاريخ حضارة وادي الرافدين , دار الوراق
[17] تاريخ الطبري , مؤسسة الاعلمي , ج ٣ , ص ٩٠
[18] مقدمة ابن خلدون / شركة دار الأرقم بن ابي الارقم / ص ١٥١
[19] تاريخ الطبري , دار الفكر , ج ٢ , ص ٢١٤ – ٢١٦
[20] تاريخ التمدن الإسلامي 2 \ جرجي زيدان \ ص 47
[21] عون المعبود شرح سَنَن ابي دَاوُدَ , محمد شمس الحق العظيم آبادي , كتاب الاجارة باب في السلف , ح ٣٤٦٦
[22] نظام الحكومة النبوية , ج 2 , محمد عبد الحي الكتاني الفاسي , دار الارقم , ط 2 , ص 18
[23] تاريخ الطبري , مؤسسة الاعلمي , ج ٣ , ص ٨٨
[24] رجال الكشي , مؤسسة النشر الإسلامي , ط ١ , ص ٢٥ , ح ٢١
[25] رجال الكشي , مؤسسة النشر الإسلامي , ط ١ , ص ٢٦ , ح ٢٤
[26] تاريخ الطبري , مؤسسة الاعلمي , ج ٣ , ص ٩٣ – ٩٤
[27] تاريخ الطبري , مؤسسة الاعلمي , ج ٣ , ص ٩٥
[28] تاريخ الطبري , مؤسسة الاعلمي , ج ٣ , ص ١٠٥
[29] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٣ / ص ٨٧
[30]تاريخ التمدن الإسلامي 2 \ جرجي زيدان \ ص 20
[31] تاريخ التمدن الإسلامي 2 \ جرجي زيدان \ ص 22 – 28
[32] تاريخ التمدن الإسلامي 2 \ جرجي زيدان \ ص 31
[33] محاضرات الادباء , الراغب الاصبهاني , باب في الابوة والبنوة ومدحهما وذمهما مما جاء في البنين والبنات
[34] أصحاب الامام امير المؤمنين والرواة عنه , الأميني , ج ٢ , ص ٤١٦
[35] الطبقات الكبرى , ابن سعد , دار الكتب العلمية , ج ٣ , ص ٢٠
[36] رجال الكشي , مؤسسة النشر الإسلامي , ط ١ , ص 125 ح 6
[37] الخلفاء الراشدون مواقف وعبر / د. عبد العزيز الحميدي / دار الدعوة ٢٠٠٥م / ص ٣٧٧
[38] كتاب الفتوح / احمد بن اعثم الكوفي / الجزء الأول / ص ١٩٨
[39] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٥٨٢
[40] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٥٧٩
[41] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٣ / ص ٧
[42] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٥٥١ – ٥٥٧
[43] تاريخ ابن خلدون 4 \ دار الفكر \ ص 415 – 425
[44] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٦٣١
[45] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٦٤٠
[46] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٦٣٣ – ٦٣٥
[47] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٢ / ص ٥٨٤
[48] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج 4 \ ص 443 – 444
[49] تاريخ ابن خلدون 4 \ دار الفكر \ ص 548
[50] أصحاب الامام امير المؤمنين والرواة عنه 1 \ الاميني \ ص 195 \ ت 308
[51] اعيان الشيعة 1 \ الأمين \ ص 629 – 631
[52] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٣ / ص ١ – ٧٥
[53] تاريخ الطبري / مؤسسة الاعلمي / ج ٣ / ص ٥١
[54] عبد الله بن سبأ , السيد مرتضى العسكري , ط 6 , ج ١ , ص ٦٠
[55] رجال الكشي , مؤسسة النشر الإسلامي , ط ١ , ص ٨٨
[56] الكامل في التاريخ , ابن الأثير , دار الكتاب العربي , ج ٢ , ص ٥٧٧
[57] تاريخ الطبري , دار الفكر , ج ٢ , ص ٢٣٩
[58] رجال الكشي , مؤسسة النشر الإسلامي , ط ١ , ص ١٠٣ – ١٠٤
[59] وقعة صفين , نصر بن مزاحم المنقري , المؤسسة العربية الحديثة , ص ١٤
[60] أصحاب الامام امير المؤمنين والرواة عنه , الأميني , ج ١ , ص ٢٢١
[61] أصحاب الامام امير المؤمنين والرواة عنه , الأميني , ج ٢ , ص ٥٦٤
[62] التنكيل , عبد الرحمن بن يحيى المعلمي , دار الكتب السلفية , ج ١ , ص ٥٢٢
[63] تاريخ بغداد , الخطيب البغدادي , ت ٧٢٤٩
[64] سير أعلام النبلاء , الذهبي , مؤسسة الرسالة , ج ٦ , الطبقة الخامسة , أبو حنيفة
[65] اختيار معرفة الرجال , الكشي , ص 660
[66] وقعة صفين , المنقري , ص ٢٤٩
[67] أصحاب الامام امير المؤمنين والرواة عنه , الأميني , ج ٢ , ص ٥٠٠
[68] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 599
[69] عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجاج، عن عبيد، عن زرارة، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكبائر؟ فقال: (هن في كتاب علي (عليه السلام) سبع: الكفر بالله، و قتل النفس، و عقوق الوالدين، و أكل الربا بعد البينة، و أكل مال اليتيم ظلما، و الفرار من الزحف، و التعرب بعد الهجرة) . \ البرهان في تفسير القران \ هاشم البحراني \ ج 5 \ تفسير سورة النجم
[70] اعيان الشيعة / ج ١ / ص ٥٢١ – ٥٢٥
[71] تاريخ المقريزي الكبير (المقفى الكبير) / تقي الدين المقريزي / دار الكتب العلمية / ج ٤ / ص ٤٢٨
[72] وقعة صفين / نصر بن مزاحم المنقري / ص ١١٧
[73] لقد كان التشيع منتشراً في البلاد التي تلي بلاد فارس شرقاً حتى ان اهل إقليم كابل في أفغانستان كانوا يراسلون الامام الحجة في زمن الغيبة الصغرى عن طريق مراسلة نوابه \ اختيار معرفة الرجال – الكشي – ص 443 ح 1
[74] تاريخ التمدن الإسلامي 2 \ جرجي زيدان \ ص 22
[75] تاريخ التمدن الإسلامي 2 \ جرجي زيدان \ ص 30
[76] تاريخ التمدن الإسلامي 2 \ جرجي زيدان \ ص 33
[77] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 119
[78] تاريخ التمدن الإسلامي 2 \ جرجي زيدان \ ص 31
[79] اعيان الشيعة \ ج 1 \ ص 606
[80] اعيان الشيعة \ ج 1 \ ص 606
[81] لقد بلغ الموالي مرحلة متقدمة في الولاء لاهل البيت لاحقا , فنجد مثل الحسين بن سعيد بن حماد بن مهران الاهوازي مولى علي بن الحسين ثقة عين جليل القدر في أصحاب الائمة الثلاث علي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي , وقد مثّل حركة الموالي بين العراق وقم . \ اختيار معرفة الرجال \ ص 657
[82] اعيان الشيعة \ ج 1 \ ص 610 – 612
[83] أصحاب الامام امير المؤمنين والرواة عنه 1 \ الاميني \ ص 221 \ ت 375
[84] اعيان الشيعة \ ج 1 \ ص 622
[85] أصحاب امير المؤمنين والرواة عنه 1 \ الاميني \ ص 288 \ ت 525
[86] أصحاب الامام امير المؤمنين والرواة عنه / ج ١ / ص ٢٢٠
[87] وهو من يصفه الذهبي في سير اعلام النبلاء في الطبقة الثالثة بأنه : الأمير الكبير عالم اهل الكوفة , وينقل عن سفيان بن عيينة انه ما كان في الكوفة مثل الحكم , وعن مجاهد بن رومي انه ما عرف فضل الحكم الا حين رأى علماء الناس في منى عيالاً عليه .
[88] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 303 – 304 \ بل ان أمثال سليمان بن خالد النخعي يخرج في ثورة مهمة مع زيد بن علي وهو يسلّم تماماً بامامة جعفر بن محمد الصادق \
[89] اعيان الشيعة 1 \ ص 651 – 659
[90] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 273
[91] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 219 وهو مولى لقبيلة كندة \
[92] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 126 ح 12
[93] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 289
[94] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 284
[95] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 316
[96] اختيار معرفة الرجال \ الكشي \ ص 128 – 131
[97]تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج 4 \ ص 558
[98] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج 4 \ ص 443
[99]تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج 4 \ ص 551
[100] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج 4 \ ص 555
[101] اعيان الشيعة \ ج 1 \ ص 628
[102] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج 4 \ ص 441
[103] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج 4 \ ص 552 و 554
[104] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٢٨
[105] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١١٠ – ١١٨
[106] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٢٠
[107] اعيان الشيعة \ ج 1 \ ص 537
[108] وهذا ما يناقض تولية المأمون الامام الرضا ولاية العهد , الامر الذي يكشف ان هذه الولاية كانت لمواجهة ثورات الطالبيين في كل مكان من الدولة , وهذا ما اعترف به ابن خلدون في تاريخه ص 38
[109] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٢٧٢ – ٢٧٩
[110] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٢٨١ – ٢٨٨
[111] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 427
[112] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 429 – 430
[113] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 561 الهامش
[114] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 565