القيادة الدينية في العراق وأوراق الواقع

568

 

* مقدمة :

(( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ))

هذه الآية من القران الكريم كانت دستور القيادة الربانية لدى الشيعة المحمدية الإمامية طيلة الفترة الزمنية التي كان للإمام المعصوم من ال محمد عليهم السلام وجود ظاهريّ فيها . حيث يكون ( الإمام ) قائداً دينياً ودنيوياً ، بالجعل الالهي ، وليس للأمة الّا الطاعة والتولّي . ولا يمكن أنْ يجعل الله هذا المقام لظالم أبدا . فَلَمَّا غاب المعصوم الرابع عشر – بظلم الناس – انتقل الإمامية الى القيادة المرجعية النائبة ، حيث يختارون للدين والدنيا – انبسطت اليد ام لم تنبسط – من هو صائن لدينه من الفقهاء ، طائع لأمر مولاه الحقّ ، مجانب لهواه .

ولمّا كانت المرجعية الدينية تخضع لرأي أهل الخبرة والمعرفة من خاصّة الشيعة اختلفت مصاديقها باختلاف أهل الرأي وعقولهم ، فنهض أهل الإصلاح والصلاح من ورثة الأئمة وعماد الأمة ، وعملوا على اعادة الامر الى نصابه القيمومي الإمامي ، للوحدة والتوحيد ، فرعاً عن توحيد الربوبية ، فكانت منهم نظرية ( ولاية الفقيه ) .

ولبيان هذه النظرية يمكن الرجوع الى مباحث الفقهاء الذين قالوا بها ، مثل السيد الخميني ، ومثل الشهيدين الصدرين . وهم قد سعوا من اجل البرهنة والاحتجاج لإقامتها بما لا يجوز تناوله في اسطر .

لكنّ السبيل الاخر الذي عليه جملة من فقهاء الإمامية وعلمائهم كان متمثّلاً في الاقتصار على مقام ( المرجعية ) ، والتي تلتزم الفتيا ، لا الحاكمية . مع اتفاق أهل النظريتين على ضرورة الرجوع الى الفقهاء العدول في امر الدنيا وأمر الآخرة ، وعدم جواز الاحتكام الى أهل الظلم من السلاطين ومدارسهم السياسية والفكرية .

 

* المؤسسة الدينية والواقع العملي :

وبقدر ما يتمأسس الدين في الوقت الحاضر تشتد مخاطر ارتفاع عدد الذين ينحون نحو الاستقلال النسبي مقارنة بمؤسسة الانتماء الاساسية ، ففي جلّ التقاليد الدينية الكبرى تطورت اتجاهات معارضة ، وضعت مبدأ السلطة في أزمة ، كما هددت بنسف التراتبيات الداخلية الصلبة . وفي ما تبقى مع الديانات العالمية الكبرى فقد مثّلت كافة الانشقاقات والانقسامات الداخلية وأقسام الفرق داخل الحقل الديني نفسه سياقاً من التميزات تُدعّم مع الفترة الحديثة ، وهو ما وضع قدرة أية سلطة مؤثرة على ضمائر الأفراد او تشغيل كافة التنظيم الديني بمثابة الجسد الواحد محل نقاش ( ١ ) .

وبدورها تتمأسس هذه العصب المنشقة عن جسد المؤسسة الدينية الام ، محاولة الانتقال الى حالة محورية شبيهة بالمؤسسة الام ، ولأنها طارئة ستسعى جاهدة لاسقاط المؤسسة الدينية الصالحة من خلال طرق واساليب غير مشروعة ، وهي الطرق ذاتها التي يمنع الورع والأصالة المؤسسة الصالحة من اتيانها بالمقابل .

من جهة اخرى هناك عصب اخرى لا ترى ان للقائد الديني قدرة واقعية لمعالجة المظاهر والظواهر الفاسدة ، فتنزوي تحت تأثير الشأنية خلف الواقع ، تاركة – في الظاهر – الخيار للناس لإصلاح ما هم فيه من فساد ، والحقيقة انها إنما تترك الخيار بين أيدي الفاسدين .

في سبعينات القرن العشرين جرى البحث في بولندا عن ايدولوجيا بديلة عن الشيوعية بعد سحب المشروعية منها من خلال تظاهرات وجهود حركة ( تضامن ) ، ومن خلال الدعم العمالي والجماهيري البولندي بعد يأسه من الأنظمة الشمولية ، التي سارعت الى تضييق الحريات . لقد عثر البولنديون على هذه الأيدولوجيا في التراث الوطني الكاثوليكي ، فأسرع البابا ( كارول ووجتيلا ) لاستغلال هذا التوافق وقام بزيارة داعمة للحركة الشعبية الإصلاحية هناك ، الامر الذي قوّاها وقوَّى الاختيار الشعبي للكاثوليكية . وبالتالي أنتج هذا التوافق بين الشعب والأيدولوجيا والكاريزما قاعدة دائمية ناشئة عن الاجماع المعارض لمظاهر الفساد السلطوية . وهي الارضيّة التي ستظل حاكمة على المشهد الفكري لما بعد المرحلة الشيوعية.

ان هذه الحركية الدينية الكاثوليكية أسست للمستقبل وأرجعت للناس ثقتها بالكنيسة ، فيما تفتقد الكثير من القيادات الدينية الاسلامية بالأمس واليوم الى مثل هذا الشعور بالمسؤوليتين الربانية والجماهيرية ، وهي كذلك تعيق حركيّة المؤمنين بولاية الفقيه من القادة الدينيين بما تسببه من انشقاق جماهيري .

لا شك ان الاسلام هو دين الواقع ، وقد أوجد لكل تفصيل حكماً يهذبه ، لكنّه اقرّ بحاكمية القيادة ، وهرميتها ، لذلك جعل تراتبية قيادية تتجه نحو منطقة العصمة ارتفاعاً ، وبالتالي لابد ان يكون للقائد الديني من الصفات الذاتية ما يمكنه من اداء وظيفة الهداية . لقد اعتبر الاسلامُ الانسانَ قيمة حقيقية ، وعاملاً من عوامل التغيير والحركة في الحياة ، بما أودع فيه من القدرة العقلية والجسدية ، والقابلية المستمرة للتكيّف . ودليل ذلك انه جعله مكلفاً مسؤولاً يستطيع من خلال تلك القدرات ان يحقق خلافة الله على الارض ، التي خلقت له خلقاً فريداً متميزاً وهيئت تهيئة متنافسة ، ووضع فيها كل ما يساعده على اداء الأمانة الكبرى في العيش والحركة والتغيير ( ٢ ) .

وقد عانت البلدان الاسلامية وجود فئة قيادية غريبة متناقضة ، انتقلت بين ليلة وضحاها من مبدأ الزهد والابتعاد عن العمل الميداني ورفض التدخل في القضايا السياسية الى الشراكة والتوافق مع السلطة ، وهذا ما يبدو جلياً على الساحة العراقية طيلة فترة من ١٩٩٠ م الى ٢٠١٥ م ، الامر الذي أوجد اضطراباً فكرياً جماهيرياً ونخبوياً ، وتسبب في التشويش على الذهنية العامة ، مما ساهم في سوء الاختيار وضعف القرارات الجماهيرية ، وكذلك أدى الى عرقلة حركة القيادات الدينية العاملة وفق منهج الولي الفقيه . ان هذا الاضطراب في سلوك هكذا قيادات دينية – تنزوي في زمن الثورة وتشارك السلطة في وقت القرارات الجماهيرية المصيرية – يجمله الدكتور ( عبد الله الخريجي ) في تحليله للظاهرة الكنسية ضمن كتابه ( علم الاجتماع الديني ) بقوله : ” نجد ان الأساس الديني بظهور المسيحية حاول ان يبتعد في اول الدعوة عن المجال الدنيوي . فعندما دعت المسيحية الى التزهد في أمور الدنيا وظلت الكنيسة منفصلة عن مجريات الحياة العلمانية حتى حدت ظروف اجتماعية جعلت الباباوات والكرادلة والقساوسة ورجال الدين لا يستطيعون ضمان مصالحهم ولا نفوذهم اذ ظلّت الكنيسة في عزلة عن أمور الدولة ، وقد تلا ذلك عصور اصبح فيها للكنيسة املاك ونفوذ لا تقل عن نفوذ وأملاك الاباطرة ” .

لهذا فمن المتوقع ان يصل التنافس الى مرحلة التصادم ، ومن ثم التوافق ، او التصادم من جديد ، بناءً على المنفعة الانية للطرفين ، وهذا بالضبط ما شهده ويشهده العراق بعد ٢٠٠٣ م ، وهو اليوم أجلى من خلال وضوح التصادم والتوافق النوعي والفئوي الذي تسلكه بعض المؤسسات الدينية والسياسية الكبرى والبارزة .

وهذا ما يراه الدكتور ( الخريجي ) ايضاً في ذات الكتاب : ” فقد أدى التنافس والصراع بين الاباطرة والباباوات على السلطة الى احتدام الصراع بينهما ولكن ما لبث ان حل الوفاق بين هاتين السلطتين نظراً لالتقاء مصحلتيهما ازاء من كان يتهددهم من جانب الجماهير التي نصبوا أنفسهم لاستغلالها وتسخيرها لصالحهم ومن هنا جاء القول بان الدين قد سخر لإخضاع الملايين للشرذمة من المستبدين ورجال الدين وفي العصور الوسطى بلغت سلطة الكنيسة شأناً عظيما ” . واجد ان هذا هو الخطر الذي تسير اليه المرجعية الدينية المتعاملة مع السلطة في العراق .

 

* عوائق امام حركة القيادة الصالحة :

ان الولي الفقيه في بلد مثل العراق – رغم انه مركز العالم الاسلامي – بات يعاني مجموعة عوائق فكرية واجتماعية وسياسية ، تسببت في عرقلة حركته الإصلاحية والبنائية والتمهيدية ، يمكن إجمالها بالاتي :

١ – عوائق القيادات الدينية غير الصالحة .

٢ – عوائق المحيط الاسلامي العام المخالف .

٣ – عوائق المحيط الاسلامي الخاص البعيد المشتت .

٤ – عوائق المحيط الاسلامي الخاص القريب الناقد .

٥ – عوائق العدو الخارجي ذي المشروع المضاد للمصلحة الاسلامية .

٦ – عوائق الجمهور العالمي المحتاج الى جهد مكثف لغرض تحييده او إرشاده .

٧ – عوائق الكتل السياسية الفاسدة .

لذلك سوف يواجه القائد المصلح – المؤمن بولاية الفقيه – هجوماً متعدد الاتجاهات والمصادر ، كما هو متعدد الحجج والبراهين ، والتي يكون اخطرها في الغالب قادماً من المؤسسة الدينية التي تتعرض مصالحها لخطر التغيير الاصلاحي ، لذلك تعمل على تسخير النص الديني لمضادته وإظهاره خارجاً عن الدين ذاته .

انظروا الى ( عيسى ) ، من كان سبب معاناته الطويلة المصائب التي ظل يتعرض لها الى اللحظة الاخيرة ، و – بزعمهم – الإبادة التي تعرض لها ، وغير ذلك من الممارسات الخيانية والتهم والافتراءات التي وجّهت اليه والى أمه ، من كان وراء ذلك سوى ( الفريسيين ) اتباع وانصار الدين القائم في ذلك الزمان ، لم يكونوا ماديين ولا زنادقة ولا دهريين ، بل هم أناس ظلّوا يعتقدون بدين الشرك الذي جاء ( عيسى ) لاجتثاث جذوره ( ٣ ) .

 

  • الايمان بالدِّين قد يكون مشكلة في واقع ينخره الجهل والتدجين :

ان اعظم ما يواجهه الولي الفقيه حين يروم الإصلاح بروح نبوية ونفس عَلَوية هو الدِين الزائف ، حين يكون الناس على اعتقادات باطلة يظنونها ديناً ، لذلك يعمد الكثير من رجال الدين الى الافتاء بروح ( البازار ) ، بمعنى مجاراة العوام في باطلهم خشية ردة الفعل السلبية ضد رجل الدين ذاته ، الذي يريد ان يحافظ على مركزه وجمهوره .

يؤمن الفقيه المصلح بالدِّين الثوري ، وهو دِين يغذي اتباعه ومعتنقيه برؤية نقدية حيال كل ما يحيط بهم من بيئة مادية او معنوية ، ويكسبهم شعوراً بالمسؤولية تجاه الوضع القائم يجعلهم يفكرون بتغييره ويسعون لذلك فيما لم يكن مناسباً . ان السمة الاساسية لهذا الدين – الدين التوحيدي – انه يتفادى تبرير الوضع القائم تبريراً دينياً ولا يؤمن بمبدأ الرضوخ للأمر الواقع او اتخاذ موقف اللامبالاة حيال ما يحيط به . فيما يسعى دين الشرك دائماً الى تبرير الوضع القائم عبر ترويج المعتقدات ذات الصِّلة بما وراء الطبيعة ويسعى الى تحريف الاعتقاد بالمعاد والمقدسات والقوى الغيبية ويشوّه المبادئ العقائدية والدينية ليقنع الناس بان وضعهم الراهن هو الوضع الأمثل الذي يجب ان يرضوا به لأنه مظهر لإرادة الله تعالى وهو المصير المحتوم الذي كتبه الله عليهم ( ٤ ) .

 

  • الاملاك والطبقية من مظاهر الواقع الديني – السياسي الفاسد :

عندما تتشكل طبقة دينية منتفعة مالياً واجتماعياً من الواقع الفاسد تأخذ على عاتقها رسالة تكريس هذا الوضع وتثبيته . ولذا نرى في التاريخ ان مؤسسي دين الشرك والمحافظين عليه في زمرة الطبقات الاجتماعية العالية ، بل قد نراهم أسمى درجة وأغنى مالاً وأكثر هيمنة من الطبقة الحاكمة . انظروا الى رجال الدين ( المجوس ) إبان الحكم ( الساساني ) ولاحظوا هيمنتهم على العائلة المالكة والعسكر . لاحظوا القساوسة في أوربا والحاخامات في قوم بني اسرائيل والسحرة والكهنة وزعماء الدين في القبائل الوثنية في افريقيا وأستراليا ، أنكم ترونهم جميعاً مع الهيئة الحاكمة يداً في يد وكتفاً الى كتف ، وقد ترونهم أحياناً يهيمنون على الهيئة الحاكمة ايضا . وخلافاً لما نتصور ، نرى الأنبياء – الأنبياء الذين نعتقد نحن بهم – نراهم يقفون بحزم بوجه الأديان التي برّرت – عبر التاريخ – الوضع الظالم المهيمن على حياة المجتمعات في القرون الخالية من الناحية الاقتصادية والأخلاقية والفكرية ( ٥ ) .

 

* تحديات القرن الحادي والعشرين :

شهد القرن العشرين ، وبخاصة في نصفه الأخير ، كثيراً من التغييرات وحركات التمرد التي اثرت في عدد غير قليل من الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية سواء على مستوى المجتمع الواحد ام على مستوى العالم ككل . وتتراوح هذه التغيرات بين انتهاء عصر الاستعمار وحصول كثير من المستعمرات على استقلالها الى سقوط المعسكر الشرقي – مما دفع احد المفكرين الأمريكيين الى اعلان ” نهاية التاريخ ” – الى الانفجار السكاني الهائل الذي يثير كثيراً من المشكلات حول مستقبل الجنس البشري ازاء تراجع الموارد الطبيعية بشكل مخيف ينذر بأوخم العواقب الى الارتفاع الأصوات التي تنادي بالحرية والديمقراطية وتوفير الحقوق الطبيعية للإنسان بصرف النظر عن اختلافات العِرق واللغة والدين والجنس وهكذا . وفي الوقت ذاته ، ظهرت حركات التمرد الاجتماعي التي اتخذ بعضها شكل ثورات عارمة وعميقة تتمثل في ثورة الزنوج في أمريكا للمطالبة بحقوقهم كمواطنين يتمتعون بكل متطلبات الحياة الكريمة مع القضاء على التفرقة العنصرية ، كما تتمثل في ثورة النساء للمطالبة بالمساواة في الحقوق والواجبات مع الرجل ، ثم العمل على تكريس ثقافة نسائية تقف على المستوى نفسه من الثقافة التقليدية المتوارثة التي ترى النساء انها ثقافة ذكوريّة تنبع من ايدولوجيا متحيزة للرجل ، ثم اخيراً ثورة الطلاب في الستينات على الأجيال السابقة التي تمثّل السطوة والتسلط كما تعكسها شخصية الحاكم والأب والأستاذ وهكذا ، وهذه التغيرات وحركة التمرد في اخر الامر تعبير صريح عن الشك في معنى وفاعلية القيم الاجتماعية والثقافية المتوارثة والميل الى رفضها وعدم الالتزام بها ، دون ان يكون هناك في واقع الامر بديل جاهز يحل محلها . وقد نشأ هذا الموقف المتمرد الرافض من تضارب بل وتناقض الأوضاع والأفكار والأيدولوجيات التي تعرض لها إنسان القرن العشرين ، وكذلك تعدد وتنوع وتباين المؤثرات الثقافية التي خضع لها ، ولم يسلم من هذه المؤثرات حتى ابسط المجتمعات التي اصطلح على تسميتها بالمجتمعات البدائية ، وساعد على الشعور بعدم جدوى او فاعلية القيم التقليدية المتوارثة سهولة وكثافة الاتصال والتواصل نتيجة لتقدم وسائل الاعلام ، وما ارتبط بها من تدفق المعلومات وازدياد فرص الاطلاع على أساليب الحياة وأنماط السلوك والعادات التي تنتشر في المجتمعات الاخرى ، وبالتالي امكان الاستعارة والمحاكاة والتقليد وتكوين عادات جديدة قد تتناقض مع التقاليد السائدة في المجتمع ومع العادات الأصلية والقيم الأصيلة ، وظهرت بذلك ثغرات وفجوات واسعة وعميقة تفصل بين السلوك والتصرفات والأفكار الجديدة المكتسبة عن طريق التأثير الخارجي ، وبين انساق القيم المتوارثة ، تعاني منها معظم المجتمعات الانسانية في الوقت الحالي ، وينطبق ذلك بوجه اخص على مجتمعات العالم الثالث التي تخضع بشكل واضح لتلك التأثيرات الخارجية الوافدة من الغرب الذي يملك قدرات تكنولوجية هائلة في مجال الاعلام والاتصال تساعد على نشر ثقافته وافكاره وسلوكياته التي ينبهر بها العالم الثالث ، ويحاول الأخذ بها باعتبارها تمثّل مرحلة اعلى من التقدم والرقي رغم عدم تلاؤمها مع التاريخ ، والموروث التقليدي الواسع في تلك المجتمعات . ربما كان اهم ما سوف يميز القرن الحادي والعشرين هو زيادة الانفتاح الثقافي والاجتماعي بالمعنى الواسع للكلمة الذي يشمل السياسة والاقتصاد واساليب الفكر ، بحيث تتصل كل مجتمعات العالم بعضها بعضاً بما يحقق التبادل الثقافي على أوسع نطاق نتيجة وسائل الاعلام والاتصال المتطورة ( ٦ ) .

امام هذه التحديات الوافدة والكبيرة ، بالإضافة الى الانطلاقة الاسلامية التي ابتدأت في منتصف القرن العشرين وتوسعت في نهايته ، لتصبح في بداية القرن الحادي والعشرين في مفترق طرق ، حيث تآكل الحالة الاسلامية او أكلها ، من خلال الاستغلال السيء لنصوص لها بعد ديني ، لكن ضمن مشروع مماثل لما صنعته بريطانيا في شبه الجزيرة العربية عند تأسيسها للحركة السعودية الوهابية ، امام هذا وأكثر لا يسع القيادة الدينية الصالحة المؤمنة بحاكمية الدين وولاية الفقيه ان تقف مكتوفة الايدي ، دون مشروع موازٍ ، كما لا يمكن للإسلام ان يسير مخترقاً الصفوف العالمية بوجود قيادات دينية مرجعية كلاسيكية لا تجيد قراءة الماضي والحاضر ولا تستطيع استشراف المستقبل . نحن اليوم اكثر من اي يوم اخر بحاجة الى وجود الولي الفقيه الجامع للشرائط ، والذي له كيان رسالي نبوي رحيم حصيف .

 

* وظائف الولي الفقيه في المرحلة الراهنة :

ان تلك الوظائف المناطة بمنصب الولي الفقيه هي ذاتها المستمدة من وظائف منصب الإمامة ، لان الغاية واحدة في تبليغ رسالة السماء وقيادة الناس نحو الله في اسلم الطرق والوقوف بوجه الظلم والفساد وبناء المجتمع الإنساني الصالح وحفظ النظام العام وغيرها من المهام ، لكن يمكن ايجاز جميع ذلك في أربعة عناوين أساسية :

– الوقاية : بمعنى حماية الأمة ككيان واحد ، والمحافظة على عقيدتها وأسسها المعرفية ، وصد الهجمات الفكرية الموجهة اليها والى اصولها النظرية . ويتم ذلك من خلال تموين الأمة بالعلم والعقيدة والفكر وشخصيتها الاسلامية الأصيلة ، والسعي في نشر عقيدة الإمامة كمبدأ إسلامي اصيل ، مع جعله اطاراً لمسار الحاكمية الدنيوية .

دعم الثباتية : من خلال مواجهة المشاكل والتحديات التي تواجه كيان الأمة ودولتها ، والمحافظة على وحدة المسلمين ، ومعايشة آلام الأمة وآمالها والاهتمام بما يجري للقاصي والداني ، وتحذير الأمة من الممارسات الخاطئة في فهم وتطبيق الاسلام ، وتوفير الأفراد المناسبين لنشر فكر ( مدرسة أهل البيت ) بين المخالفين منهم او من غيرهم بما يحافظ على الحركة العلمية والعملية للفكر العَلَوي ، وقيادة الحركات الإصلاحية التي تستهدف تغيير الواقع الفاسد ، واستغلال المناسبات الدينية لإظهار عظمة الاسلام وأصالة ( مدرسة أهل البيت ) عليهم السلام ، والاهتمام بوظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ورعاية الشيعة من خلال تنظيم شؤونهم الداخلية ، وتوجيه العلاقة مع الحكّام ، من خلال تحديد مستوى شرعية وجودهم وكذلك تقنين المدى الدقيق للتقية الواجبة ، ورسم المنهج الحياتي اللازم لشيعة ال البيت ، وصيانة وحفظ أموال وحقوق وارواح هؤلاء الشيعة من خلال رسم سياسة واضحة تستشرف المستقبل ، وكذلك يجب ضمان استمرارية المدرسة العلمية وتخريج المزيد من أهل العلم الديني والأكاديمي ، والعمل على إيجاد آلية ثابتة لاختيار القيادة الدينية العليا للأمة ( ٧ ) .

التأسيس : للمشاريع التأسيسية ايضاً ، بمعنى إيجاد القواعد النظرية والعملية لبنى علمية وعملياتية من شأنها رفع جاهزية المجتمع الاسلامي وجعل سيره باتجاه المستقبل منتجاً ، بحيث لا يبدأ القائد الجديد وبالتالي المجتمع المسلم من منطقة الصفر الإحداثي ، وهذا ما صنعته المدرسة الصدرية في ارض الواقع نسبيا ، ووفق الامكانات المتاحة ، فرأينا ان الشهيد ( محمد باقر الصدر ) ترك للأمة الاسلامية مجموعة من المراجع الدينيين الحركيين بتفاوت ونسبية تتعلق بالقابليات الشخصية لكل واحد منهم ، كما انه أسس لتقنين النص الديني بلغة معاصرة في كتبه مثل ( اقتصادنا ) . وكذلك استمر الشهيد ( محمد محمد صادق الصدر ) يؤسس لمنظومة اخلاقية وحوزوية جديدة تنهض بالواقع الصعب للأمة ، وبالتالي انطلق آية الله الشيخ ( محمد اليعقوبي ) وفق تلك الأسس الصدرية لبناء مجتمع إسلامي اكثر وعياً وحركية وجرأة في الحق ، سعياً منه لبلوغ غاية كبيرة تتمثل في نقل الجمهور الى مستوى النخبة .

فيما كان للسيد ( روح الله الخميني ) مجموعة ضخمة من الخطوات التأسيسية تركت للأمة نموذج دولة تحكمها الشريعة كمثال فريد في المنطقة والعالم .

التأصيل : للنصوص الاسلامية ، وكذلك النصوص العلمية الحديثة ، بما يسهم في توفير خزين معرفي واضح ومُعتَمَد للأمة ، ينتج عنه مدرسة معرفية وعلمية إسلامية مميزة وذات اطر محددة . وهذا ما يستدعي من الفقيه الاستعانة بمجموعة دوائر بحثية متخصصة وناضجة ، مع توفير الإمكانيات المادية والمعنوية لعملها . كما يلزمه بتطوير عمقها الفكري والإسلامي ، لتستطيع ربط النظريات في منظومة توحيدية وعملية مشتركة .  ان العلم في الاسلام يرتبط بالميتافيزيقيا ويستند الى أساس قيمي حسب الرؤية القرآنية ، وبذلك فللبحث العلمي ضمن الإطار الاسلامي خصائص ، منها : التطابق مع مبادئ الوحي والهداية لله والوحدوية ، الانسجام بين اجزاء الكون والرؤية التكاملية التي تجمع بين المادية والماورائية كنسيج واحد ، الغائية ، اخضاع العلم لرؤية شمولية ، البحث في العلل والاسباب غير الحسية او غير المادية ، تعدد مستويات المعرفة ، تناولها العلوم الانسانية غير التطبيقية بعيداً عن منهج المادية او المكننة ( ٨ ) .

 

  • العناوين الزائفة :

ظهرت في العقود الاخيرة عناوين هجينة غير أصيلة دينياً ، لكنها تسببت في التشويش على عنوان الولي الفقيه ، مثل ( زعيم الحوزة العلمية الدينية ) و ( المرجع الديني الأعلى )، وهما عنوانان يبحثان عن مزايا ( الولي الفقيه ) من الطاعة والحاكمية ، ويهربان من مسؤولية قيادة الأمة نحو سبيل الرشاد ، بالجد والاجتهاد والتضحية . وقد تم إيجادهما لمعالجة الاشكالية الناتجة عن رفض مبدأ الولي الفقيه نظرياً , رغم الحاجة اليه عملياً . وثبوت الحاجة الى حاكمية الولي الفقيه يمكن معرفته من خلال التجارب العراقية والايرانية واللبنانية، فيما خشي بعض الفقهاء على حياتهم ، حيث يستلزم القول بولاية الفقيه المواجهة مع الطواغيت في التقدير الأعلى ، وإصلاح المجتمع بعملية ومشروع واضح في الحد الأدنى .

وقد عزّز الغرب من ظاهرة تشويه المفاهيم وعوامل الإنهاك ، من خلال ضغط إعلامي مؤدلج ، وموجّه ، ومدروس بعناية ، لخلط الأوراق وتعتيم الصورة اكثر امام الذهنية الاسلامية عموماً ، والعراقية خصوصا. فكان لازم ذلك تفشّي وباء التشوّه النفسي والمفاهيمي وغياب الدور الديني المرجعي المباشر للرقابة والتوجيه .

فكان من الصعب – اذا لم يكن مستحيلاً – تحت هذه الحاكمية الهجينة تحريك الوسط الثقافي والنخبوي ، لتغيير الثقافة والفكر نحو الوطنية ونبذ الفاسدين ، وفرز الأوراق للناس البسطاء ، او تعزيز ثقة العراقي بنفسه ، لمواجهة الهجمة الثقافية ، التي تعمل على كسر نفسه ، ونشر مرض الاحباط والانعزال او الهجرة او الفوضى . فيما عملت فئات نفعية مستفيدة في الوسطين الديني والسياسي على استغلال تلك الزعزعة النفسية والاجتماعية لركوب الموجة ، وسرقة الاضواء ، وترميم بيتها هي .

هناك فرصة تاريخية لإدخال الاسلام ضمن الإصلاحات اليوم في العراق ، حيث نرى هذه الطاعة المجتمعية للقيادة الدينية ، رغم كل تلك المصائب ، وهو امر لم يتوفر حتى للسيد ( الخميني ) قائد الثورة الاسلامية في ايران ، الذي احتاج لسنين من التربية للمجتمع ، من اجل زرع الطاعة والولاء فيه ، فكيف لا ننبهر لشعب مكسور النفس ، وهو بهذا المستوى من الطاعة والولاء لقيادته الدينية ! ، وهو امر عزّزته جموع ( الحشد الشعبي ) ، لملايين من الذين بذلوا مهجهم طاعة لقيادتهم .

وكان من الواجب – شرعاً وعقلاً – على ( القيادة الدينية العليا ) العمل على نشر رؤية الاسلام وعلومه في الإطار المؤسسي للدولة ، حيث عمل الدين – وحده – على حمايتها ، وتحقيق المظهر الاعتقادي لهذه الجموع المليونية التي بذلت دمها على ارضه ، كما كانت دمائها تسيل عبر تأريخه ، حيث أسست تلك الدماء الدولة العراقية الحديثة ، بعد نزفها في ( ثورة العشرين ) . ومن المخجل ان تكون نتيجة دماء أبناء الاسلام في تلك الثورة قانوناً وضعياً ، يرفد الطواغيت ، ومن المخجل الّا تكون نتيجتها اليوم إصلاح الفساد الذي يمثّله القانون الوضعي  الدنيوي .. (( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ )) ، (( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) ، (( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولِئك هُمُ الْفَاسِقُونَ )) . ومن هنا فإنّنا اذا لم نحكم او نعمل على الحكم بما انزل الله نكون حينها ( كافرين – ظالمين – فاسقين ) . والمتصفون بهذه الصفات القبيحة سيخضعون في النتيجة لحكم الآيات التالية : (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ )) ، (( إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وذلك جَزَاءُ الظَّالِمِينَ )) ، (( لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظَّالِمِينَ )) ، (( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً  يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ )) ، (( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )) .

و القيادة الدينية لاشكّ انها تعلم هذه المعاني القرآنية والشرعية ، وتدرك انّ العامل بغير حكم الله فرط ، لا ينظر الله اليه ولا ينصره ، وهو يسير على غير هدى ، لذلك وجب عليها استنقاذ الناس ، وإخراجهم من الظلمات الوضعية الدنيوية ، الى النور الشرعي الالهي .

 ولا عذر لها ولهم اليوم ، في دعوى الخشية من ان يتخطّفهم الناس ، او انفراط عقد الدولة – وهو منفرط واقعاً قبل ذلك – مع وجود ( الحشد الشعبي ) المؤمن ، الذي يحمي الدولة من عدوها الخارجي.

وهذا الانذار القرآني وصورته ، بشرطه ومشروطه ، هو ما دفع المراجع المؤمنين بولاية الفقيه في العراق على مدار السنين والعقود السابقة ، كالشهيد ( الصدر الثاني ) ، لإقامة صلاة الجمعة ، وإصلاح المجتمع ، وإنشاء القضاء الحوزوي الديني ، ثمّ صلاة الجمعة الموحدة مع اخوانهم من أبناء المذاهب السنية ، وتحركه على غير المسلمين ، وخطابه للغجر . فهو يدرك واقع مسؤوليته الشرعية ، والتكليف الالهي للناس ، ومستوى خطورة المشروع التخريبي ، والشرخ المجتمعي الذي زرعته بريطانيا واعوانها من أعراب البدو . وهو ذاته ما جعلنا نرى آية الله الشيخ ( محمد اليعقوبي ) مرجعاً وحيداً يهتم لنص مثل قانون الأحوال الشخصية العراقي ، او تعديل المادة ( ٢٦ ) المرتبطة بديانة الأطفال ، حيث يريد للإسلام – وهو دين الأكثرية – ان يكون حاكماً قدر المستطاع بما لا يسيء للآخرين ، لتحقيق هذه المطالَب القرآنية الربانية .

ومن تلك الوظائف التي تلزم القيادة الدينية – الولي الفقيه او من يروم سلب منصبه تحت عنوان اخر موهوم – بمؤسساتها ، التي يُفترض انها أنشأتها بدءاً ، مواجهة ظاهرة الإلحاد ، من خلال مشروع علمي أكاديمي – ديني ، يجمع بين الجامعة الاكاديمية والحوزة العلمية الدينية ، للحد منها ، بطريقة منهجية . فهذه الظاهرة رغم كونها ركيكة ومرتبكة في أصل طرحها ، لكنّها تجتذب مجاميع من الناس المسلمين ، عبر استغلال منظّريها لسوء الأداء الذي تعكسه السلطة المزعومة للأحزاب الاسلاموية ، في واحدة من أخبث مظاهر الخداع السياسي الغربي في بلاد المسلمين. وكذلك من خلال إيهام الشباب – البسيط والمغرور – بوجود تقاطع بين العلم والدين . وقد حاولت بعض مؤسسات التخريب الفكري استبدال الفلسفة العقلية لأولئك الشباب – المهزومين مسبقاً لما تعانيه بلدانهم – بمجموعة من صور الانبهار بالتقنية للحضارة المادية ، ونشرها لخدعة انّ هذه الحضارة قامت على أساس الإلحاد ، وذلك كله باطل . وقد بدأت مجاميع من هذه العناصر تأثيرها في مجتمعاتها سلباً ، حيث انها لم تعمل على بناء أوطانها حضارياً ، حتى في الجانب المادي ، بل ذهبت لمهاجمة المنظومة الفكرية والاجتماعية والدينية فقط ، في الوقت الذي استرخت لمتع المادية وزخارفها وحسب . وقد وجدت هذه الظاهرة في المنظومات السياسية الاسلاموية المنافقة سقفاً وظلّاً مناسباً لبدء تحركها وانتشارها ، ورفع صوتها ، بينما تمنع هذه المنظومة الاسلاموية ذاتها كلّ مظاهر الوعي الاسلامي العملي ! . وأخيراً صار لهذه العناصر دور محوري في مؤسسات الدولة العراقية ، دون إظهار عنوان اعتقادها الحقيقي ، لا سيما في المجال الثقافي والاعلامي ، الذين يؤثران في الشخصية المجتمعية العامة ، ولا من ملاحظ لهذا الأصل التخريبي .

كما انّ ذلك يستدعي من القيادة الدينية أمراً وموقفاً مطابقاً لموقف وأمر أمير المؤمنين ( علي بن ابي طالب ) – عليه السلام – في قوله : (( فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام ، يدعون الى محق دِين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فخشيت إِنْ لم انصر الاسلام واهله أنْ ارى فيه ثلماً او هدماً تكون المصيبة عليّ اعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع ايام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب او كما ينقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زال الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه )) … (( اني والله لو لقيتهم واحداً ، وهم طلاع الارض ، ما باليت ولا استوحشت ، وإني من ضلالهم الذي هم فيه والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي ، وإني الى لقاء الله لمشتاق وحسن ثوابه لمنتظر راج ، ولكنني آسى أنْ يلي امر هذه الأمة سفهاؤها وفجّارها ، فيتخذوا مال الله دُولاً وعباده خولاً والصالحين حرباً والفاسقين حزباً ، فإنّ منهم الذي قد شرب فيكم الحرام ، وجُلد حدّاً في الاسلام ، وانّ منهم مَنْ لم يُسلم حتى رضخت له على الاسلام الرضائخ ، فلولا ذلك ما أكثرت تأليبكم وتأنيبكم ، وجمعكم وتحريضكم ، ولتركتكم إِذْ ابيتم وونيتم )) ( ٩ ) .

 

* فئات معرقلة لبسط يد الولي الفقيه :

 ففئة تقودها السذاجة لا اكثر ، نعم وبكل بساطة ، وفئة بدتْ عوراتها فطفقتْ تخصف عليها من ورق الجنة ، بمعنى انها لا تريد اكثر من غطاء شرعي بالوهم لسيرتها السيئة توفّره مؤسسة دينية غير فاعلة ، واُخرى ارادت أنْ تعزّز من وجود الدين على المسرح السياسي الفاسد ، لتثبتْ انّه جزء من هذا السوء ، ولم تجد أفضل من مرجعية دينية ضبابية لأداء هذا الدور ، فيما هناك ايضاً فئة عاشت مقدمات فكرية ودينية مغلوطة قادتها الى تقديس المؤسسة الدينية الخاطئة ، وبالتالي هي تعيش التطبيقات غير الصحيحة لمدخلاتها المفهومية ، وهذه الفئة الاخيرة ستسير باتجاه الإلحاد مستقبلاً ما لم تغيّر من افكارها النظرية ، لأنها ستجد نموذجها الاسلامي منهاراً مستقبلاً .

 

* مرحلة الخطر القادمة :

ليست المرحلة الداعشية – بظنّي – هي الاخطر ، بل المرحلة الشيعية الخالصة هي ما يتمّ الإعداد لحقنه بالسمّ الاستكباري الغربي ، بعد تذويب مفهوم القيادة ، وانهيار القيم والمعاني الرسالية ، وستكون الفتوى والفتوى المقابلة سلاحاً فتّاكاً في الصراع .

انّ ارتهان الشعب العراقي لمرجعية دينية لا تجيد قراءة الأوراق – عند حسن الظن – ، ولا تملك القدرة والخبرة الكافية لإدارة دفّة المرحلة ، وتحتكر مفاتيح الحلّ الذي لا تمنحه ، وترتكز الى مجموعة اقطاب عنصرية وغامضة الرؤى ، سوف يقودنا – بسهولة ويسر – الى جرفٍ هار .

ويبدو انّ قادة مشروع المواجهة ( الشيعية – الشيعية ) يعملون جاهدين على ابقاء المرجعيات الدينية غير الواقعية تقاوم النقد ( الواقعي ) ، من خلال حملة كبيرة جداً لإعطائها بريقاً صورياً ، بدعاوى واهمة وغير صادقة ، وربما تَخَلَّق لها مواقفاً ورؤى لم ولن تصدر ، او إشاعة انها – في معجزة كبرى – ستلبي حاجة المجتمع لوجودها ، والكثير مما يتمّ زقّه اجتماعياً واعلامياً لجذب الناس .

 

* خاتمة :

يمكننا القول ان ولاية الفقيه سبيل يُخرج العراق من واقعه المأساوي – في ظل تعقيد المعادلة الاعتقادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية – بالالتفاف حول قيادة دينية مركزية واعية ، يمكن ان تفرض الحل على السياسيين ، وتؤسس لمنهج عملي تغييري واسع يلبي حاجات الأمة مستقبلاً انطلاقاً من هنا حيث ( علي بن ابي طالب ) ، في الوقت الذي ستعاني حركة الولي الفقيه عرقلة كبيرة تسببها مجموعة من العوائق المحيطة ، اغلبها ناشئة عن فئات منتفعة من وجود واقع عراقي مضطرب ومشوّه .

 

 

 

 

 

 

————

 

( ١ ) سابينو اكوافيفا / إنزو باتشي / علم الاجتماع الديني الاشكالات والسياقات / هيئة ابو ظبي للثقافة والتراث

( ٢ ) عبد الله الخريجي / علم الاجتماع الديني / رامتان – جدة للتوزيع ١٩٩٠م

( ٣ ) علي شريعتي / دين ضد الدين / دار الامير الطبعة الثانية ٢٠٠٧ م

( ٤ ) نفس المصدر

( ٥ ) نفس المصدر

( ٦ ) احمد ابو زيد / الطريق الى المعرفة / نشر مجلة العربي ٢٠٠١

( ٧ ) محمد اليعقوبي / دور الأئمة في الحياة الاسلامية

( ٨ ) مهدي گلشني / من العلم العلماني الى العلم الديني / دار الهادي ٢٠٠٣

( ٩ ) نهج البلاغة

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.