كيف تمكنت الأقلية من حكم الأغلبية الشيعية في العراق
بعد غدر الضباط والسياسيين السنة من ذوي الأصول العربية والشركسية والمملوكية بالدولة العثمانية وانقلابهم عليها وانضمامهم للتحالف العربي البريطاني لم يبق في الساحة في مواجهة الغزو الاجنبي للعراق سوى الشيعة العرب . وبعد معاركهم ضد الاحتلال البريطاني في الأعوام ١٩١٤ و١٩١٩ وثورتهم الكبرى عام ١٩٢٠م قرر البريطانيون نقل السلطة إلى العراقيين ، لكن ليس إلى يد الشيعة ، بل إلى القوى السياسية السنية المتعاونة معهم . وتم نقل الأسلحة البريطانية إليهم .
ولم يكن هذا كافياً للتغلب على الأغلبية الشعبية ، فتم جذب مجاميع من الشيعة إلى التحالف مع السلطة ، من خلال الوعود بتحقيق الديمقراطية ، والاغراءات ، وإيصال المنبوذين إلى دوائر النفوذ لتعويض عقدهم النفسية ، وعزل العوائل النجيبة ، وفتح الباب أمام أبناء شيوخ العشائر للتطوع في الجيش والشرطة بعدد محدود ، ليتحول هؤلاء الشيوخ من المعارضة إلى صف السلطة والدفاع عنها .
ولم يكن كافياً أيضا ، فكانت الخطوة الأوسع عزل شباب الشيعة عن دينهم واعرافهم القبلية ، من خلال جذبهم إلى المدن ، وتعريضهم للفجور والخمور . وتم صناعة طبقة مستقبلية من زعماء القبائل ( العرگچية ) الذين ليس لهم قضية سوى ( كروشهم ) وما تفرع عنها . فانتشرت جماعات الشيعة في الأحزاب الملحدة كالحزب الشيوعي والقومية كحزب البعث ، والتي تتحكم فيها خارجياً قوى دولية تكره العرب والإسلام عموما ، وداخلياً شخصيات مسيحية مثل ( فهد ) و ( ميشيل عفلق ) ، بعد أن جعلت الحكومات الموالية لبريطانيا الساحة مفتوحة لتحكم غير المسلم بالمسلم .
فكان الشيعة في هذه الأحزاب يظنون أنهم يسيرون إلى مراكز قيادية عليا ، فيما إن الحقيقة هي أن جميع هذه الأحزاب كانت محكومة ومسيطر عليها من قبل الجيش وقيادته السنية الموالية لبريطانيا . فكان الشيعة مسموح لهم باللعب في دائرة مغلقة كجنود من الدرجة الثانية ، حتى يتم اعدامهم . وهو ما يتم لاحقاً بعد أن يستغلهم الآخرون في بناء أجهزتهم . ولما اضطرت الملكية – مع تزايد قدرات الشخصيات الشيعية السياسية – إلى اختيار أربعة منهم لشغل منصب رئيس الوزراء ، وصاهر الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق أميرَ قبيلة ربيعة اكبر وأقدم القبائل العربية الشيعية في العراق ، كانت النتيجة إسقاط الحكم الملكي كله والبدء بعصر الحكم العسكري الطائفي الصريح .
وحين وصل وعي الجماعات الشيعية التي في السلطة إلى فهم أنها مغرر بها مضحوك عليها وأنها أداة للسيطرة على البلد من قبل جماعات عميلة للخارج ، كانت القوى السياسية السنية قد هيأت مجتمعات شيعية مفككة من طبقات متعددة بلا قضية ولا مشروع ولا هدف ولا تعرف شيئاً عن تاريخها غارقة في اللهو أو البحث عن عمل ، وكانت تلك القوى السياسية قد انهكت النخب الاجتماعية الشيعية وقضت على الكثير منها ، وتسببت بالنزاعات العشائرية المفرقة للناس ، وغيرت المعادلة الاقتصادية لصالح غير الشيعة . فكان المجتمع الشيعي يفرز جماعات جديدة خاضعة للسلطة مقابل النفوذ الوهمي والمال . فلم يكن وعي القيادات الشيعية السابقة المفاجئ نافعا .
لذلك حين أراد مجرم ينتسب في التاريخ للشيعة مثل ناظم كزار – وهو ابن مدينة العمارة – أن يعالج ما يفعله مجرم آخر هو صدام حسين من تحويل البلاد إلى حكم عشيرته التكريتية لم ينجح ، لأنه كان يتحرك خارج نطاق الجيش حينها ، وليس له امتداد شيعي شعبي ، حيث كان واحداً من أكثر مجرمي حزب البعث وحشية ودموية . إلا أنه كان يؤمن بأن البعث لكل العراقيين . فيما كان صدام يعرف أن الإرادة الأجنبية هي التي تتحكم بالعراق وأنها شاءت أن الحكم للسنة ، وإن اليد الأجنبية الجديدة البديلة عن بريطانيا والمتمثلة بالولايات المتحدة ترضى بحكم العشيرة الواحدة لتخريب العراق .
فكان صدام ومن قبله من القوى السياسية السنية قد نجحوا في صناعة قوى سياسية جديدة من خلال نقل البدو إلى مراكز السلطة والتعليم والجيش . فتعززت قواهم من خلال عاملي تفكيك الشيعة وانعزالهم عن دينهم وهويتهم الثقافية ، ونقل البدو من البراري إلى التمدن السياسي .
وقد سبق عبد الكريم قاسم البعثيين في توطين البدو ، بعد أن قام بأكبر عملية نصب وسرقة في تاريخ العراق من خلال قانون الإصلاح الزراعي ، الذي سلب أراضي الشيعة ونقلها إلى البدو والقبائل المهاجرة . فخسر الشيعة قوتهم الاقتصادية ، وكسبت السلطة قوى شعبية وعسكرية واقتصادية جديدة ، في واحدة من أكبر عمليات التغيير الديمغرافي في العراق .
وحين بلغ العراق نهاية السبعينات كان صدام قد أعدم كل رفاق البعث القدامى وقادة الحزب المؤسسين وكل الضباط المخدوعين الذين حملوا الحزب إلى السلطة من السنة والشيعة . فيما كان مؤسس الحزب المسيحي ميشيل عفلق ينظر ويبارك قتل صدام لوجوه الحزب الثقافية والسياسية ، لأنه يدرك سخافة اللعبة . وكانت مجاميع جديدة من الشباب الشيعي الباحث عن النفوذ أو المال أو الفجور أو الخمور ينتمي إلى البعث ، رغم أنه يشاهد الدم في كل مكان . وفي جمهورية الخوف تلك صار الجميع يخاف من الجميع ، ولم يعد يفهم أحد قضيته وقضية مجتمعه . فكان الاب يسلم ابنه ، والاخ يرشد على أخيه ، والزوجة تفتن على زوجها ، في مجتمع منهك مفكك .
حتى دخل العراق – نيابة عن الولايات المتحدة ودول الخليج – في حرب ضروس استنزافية ضد إيران ، أهلكت الملايين من الشيعة ، واستنزفت ما بقي من اقتصادهم ومزارعهم . وأعدم صدام خلالها خيرة من بقي من شبابهم ، وهم ينظرون مذهولين ، حتى ملأ بهم المقابر الجماعية .
وفي كل تلك الأزمان كانت المرجعيات الدينية الشيعية ضعيفة ، في عالم آخر خائف وغير واقعي . وكان أبرزها مرجعية محسن الحكيم ومرجعية ابي القاسم الخوئي . ورغم أن الاول كان أنشط من الثاني ثقافيا ، إلا أنه كان مثله في ضعفه السياسي وغياب المشروع الحقيقي عنه . فتم اختباره مرتين ، حين تم صياغة قانون الإصلاح الزراعي وسرقة الشيعة ، وحين تم تغيير قانون الأحوال الشخصية الجعفري الى اخر وضعي مزاجي ، ولم يحرك ساكنا . فعلمت السلطات أن باستطاعتها فعل المزيد من الجرائم بالشيعة ولن يكون لهم ناصر ، فوصلت إلى اعدام رمزهم الديني والثقافي والحضاري محمد باقر الصدر في مطلع الثمانينات ، دون أن تجد معارضة جدية .
والمعارضة الشيعية العراقية تم سلبها من قبل عائلة الحكيم نفسها التي تم اختبار زعيمها سابقا ، فكانت كالمتوقع عائلة براغماتية تفرق الناس لا تجمعهم . فيما كانت المعارضة الكردية بيد عائلة قبلية الطابع .
فكان العراق بين ثلاث ، سلطة سنية بدوية عائلية عميلة للغرب بكل معنى الكلمة ومستعدة أن تذبح ملايين العراقيين ، ومعارضة شيعية تقودها عائلة أنانية نرجسية ضعيفة تبحث عن النفوذ الأسري ، ومعارضة كردية عائلية اختارت أن تعبد الزعيم الذي مد يده للغرب ذاته الذي جاء بصدام وصنع نظامه .
ومنذ بداية السبعينات حتى منتصف التسعينات صدرت مجموعات من قوانين الإعدام التعسفية المزاجية التي تمس كل مفصل من مفاصل التفكير للمجتمع العراقي ، والتي يصدرها ويشرف عليها وينفذها أفراد حزبيين متخلفين غير مؤهلين . ثم تم تهيئة المئات من القضاة من السنة والشيعة ممن يبحثون عن متنفس لغرائزهم وجشعهم وبهيميتهم ، كانت مهمتهم تنفيذ إرادة سلطات الحزب والقيادة البعثية ، والتي تصدر عن طريق مجلس قيادة الثورة المتكون من المتخلفين حضاريا . فكان كل تفكير يخالف توجهات حزب البعث الصدامي سبباً للاعدام . واي اعتقاد ثقافي أو سياسي أو ديني يخالف ما عليه الحزب يعاقب معتقده بالاعدام .
فتهجّر وهرب ملايين الشيعة العراقيين ، وسجن وأعدم الآلاف من النخب القبلية والسياسية والثقافية والدينية . وفقد الكثيرون قدرتهم الاقتصادية . الأمر الذي تعزز حين فرضت القوى الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الحصار الاقتصادي على العراق ، حيث صار المجتمع الشيعي فقيراً جدا ، ومنهك القوى ، خائر العزم ، وظهرت فيه مئات الآفات الاجتماعية التي لم يكن يعرفها من قبل ، مئات الأمراض النفسية والجسدية التي عززها برنامج صدام لتسميم وإبادة الشيعة عن طريق الحقن الجرثومي تحت إشراف عالمتي الجراثيم المجرمتين رحاب طه وهدى عماش . فيما تعززت قدرات المجتمع السني الذي سيطر على التجارة والزراعة وحوّل الكثير من الشيعة إلى عبيد في مشاريعه . ولم يجد الشيعة الوقت والوضع للتنفس الفكري وصناعة الوعي ، لاسيما في ظل غياب القيادة المرجعية الدينية المؤهلة والصادقة .
وحين ظهرت المرجعية الدينية الشيعية الواعية والصادقة متمثلة بالسيد محمد محمد صادق الصدر ورجع الشيعة إلى نسبة معتد بها من الوعي الثقافي ، ومن ثم السياسي ، وجدوا أن ميزان القوى العسكرية لم يعد كما في الأزمان السابقة . حيث تملك السلطة مئات الطائرات ، التي تكون قيادتها حكراً للقوى الصدامية السنية ، وآلاف الصواريخ والمدرعات ، التي يشرف عليها أبناء وعشيرة المجرم صدام ، تساعدهم قوى قبلية سنية تم تنشئتها في جو طائفي لم يكن من قبل في العراق سوى لدى العثمانيين ، تقف إلى جانب هذه السلطة قوى عسكرية من ( منظمة خلق ) الإيرانية المعارضة بقيادة مريم ومسعود رجوي التي تتخذ من العراق مقراً لها وشاركت في قمع الشعب العراقي لدى انتفاضته عام ١٩٩١م . فيما سمح الأمريكان وحلفاؤهم للطيران الصدامي بقصف القرى والبلدات الشيعية دون رادع ، في الوقت الذي فرضت قوى التحالف حظر الطيران على شمال العراق لحماية الأكراد .