ثورة الفكر العالمية .. الحلقة الخامسة
ثورة الفكر العالمية .. الحلقة الخامسة
جموع الترك كانت في الغالب هي الخصم اللدود للدول الشيعية ، تساندها بعض قبائل الأكراد . وقد كان سبب الخلاف عموماً يتلخص في البداوة الحضارية للترك ، وصعوبة محاججتهم بالفكر ، كذلك بسبب شراهتهم الغنائمية كحال الكثير من الاعراب . حتى ان بني أيوب في أقصى جنوب الجزيرة العربية في بلاد اليمن كانوا يواجهون الزيدية بالترك والأكراد[1] . والاكراد المروانيون حين استولوا على ديار بكر من يد الديلم وبني حمدان غدروا باهل ميافارقين يوم العيد , حين اصحروا , والقوا شيخهم أبا الأصغر من السور , ونهبوا البلد , واغلقوا الأبواب دونهم فذهب أهلها كل مذهب[2] . بل ان امير الاكراد المروانيين حين ابتز الحمدانيين في شرفهم واراد الزواج من احدى نسائهم قتلوه قبل الباء بها وهو أبو علي بن مروان . لا سيما مع نشرهم مذهب الشافعي في ديار بكر بعد زوال ملك الحمدانيين . واثارتهم الفتنة بين القبائل العربية للسيطرة على بلدانهم , وهو امر يفعله قادتهم الى اليوم . كما عمدوا الى منع الخطبة للفاطميين وحث الامراء العرب على منعها[3] . وقد استخدم الاكراد المروانية المسيحيين لجباية الأموال من العرب المسلمين[4] . ثم كانت نهاية اميرهم ان يستجير بالغزّ الذين غدروا به[5] .
اما في بلاد الغرب فكان بنو امية يجيدون فن تأليب القبائل على بعضها ، كما كانوا في الشرق ، ويراهنون على الجهل ، وذلك من خلال تولية الاعراب مثل ابي الخطار حسام بن ضرار الكلبي ، والضميل بن حاكم بن شمر بن ذي الجوشن ، وجده الشمر هو قاتل الحسين بن علي ريحانة رسول الله ، وكلاهما إعرابيان . واشتهرت الفتن القبلية بين اليمانية والقيسية في بلاد الأندلس التي أدارها بنو امية ، كبديل نوعي عن وجود الترك بالنسبة للأمويين قياساً على أدوات العباسيين في الشرق .
وقد كانت الهجرة الجماعية من الشام الى الأندلس تحت إشراف الأمويين لأسباب سياسية عاملاً مهماً في حدوث تغيير ديموغرافي لصالح التشيع وانتشاره في تلك البلاد ، بخروج النواصب عن بلاد العرب ، كما حدث من قبل بخروج القبائل القيسية الإعرابية بقيادة الضمير بن حاكم حفيد الشمر بن ذي الجوشن من ارض العراق ، الامر الذي يعني لفظ العراق لهذا الفكر بعد مقتل الحسين بن علي ، وتوفر فرصة ازدهار الفكر الشيعي . وقد يكون بنو امية كافئوا ذرية الشمر بن ذي الجوشن بولايتهم في الأندلس وزعامة القبائل القيسية فيها ، او قد تكون هذه القبائل هي التي اختارت الانسلاخ عن وطنها لانسلاخ عقيدتها عن باقي القبائل المتشيعة ، اذ خرجت هذه القبائل الى الأندلس قبل سقوط حليفتهم دولة بني امية، وقد كانت سبباً رئيساً في قيام دولة بني امية في الغرب بعد سقوطها في الشرق ، من خلال استقبالها ومعاونتها لعبد الرحمن الداخل الاموي .
وكان من القبائل العراقية في الأندلس بعض بني اسد ، وهي القبيلة التي عمودها العام شيعي ، واذا أضفنا لهم وجود بعض النخع سابقاً في فتح الأندلس ، ووجود عموم أعراب المضرية ، يبدو واضحاً خروج اغلب النواصب وخصوم الفكر الشيعي من قبائلهم اذا كان عمودها العام شيعيا ، وعموم القبيلة الإعرابية الى خارج ارض العراق بعد مقتل الحسين .
وقد أقام خلفاء عبد الرحمن الداخل من ولده على تفرقة القبائل وإنشاء الصراع بينها ، كما كان الصراع بينهم قائماً على الملك . فنشبت اليمانية على المضرية بقيادة سعيد بن الحسين بن يحيى الأنصاري ، ونشبت المضرية بمعونة بني امية على اليمانية ، واعتمد بعضهم الغدر والغيلة . وانشغلت القبائل بنفسها عن صراع الإخوة من بني امية بينهم على الملك . وقد كانت القبلية والتفرقة العنصرية والابادة سلاح بني امية الدائم حتى في الأندلس وبمثله كسروا وحدة المسلمين . حتى ان الحكم الأموي قتل وشرَّد جلّ فقهاء دولته لمّا ثاروا عليه بقيادة يحيى بن يحيى الليثي وطالوت الفقيه بسبب ركونه الى ملذاته الدنيوية . وقد قتل الحكم الأموي بالاتفاق مع واليه عمروس أهل طليطلة غدرا ، بعد ان آمنهم ودعاهم الى وليمة ، فأمرهم بالدخول من باب والخروج من اخر خشية الزحام ، في بناء أعده واليه بالحيلة لهذا الامر ، فكان يذبحهم شيئاً فشيئاً الى ان قضى على معظمهم وهم مسالمون . والغريب ان هذه الحيلة فعلها امير إقليم المنتفگ في جنوب العراق وهو من أبناء العامة غير الشيعة مع شيوخ قبيلة البدور البكرية الوائلية وذبحهم غدراً بذات الطريقة في القرن العشرين الميلادي بعد ان دعاهم لوليمة وأمنهم .
وكان الحكم الأموي قد امتثل سياسة بني العباس تماماً في اتخاذ الموالي العجم جيشا ، حتى زادت عدتهم عن خمسة آلاف ، وركن الى ملذات الدنيا ووطد امرها تماماً لخلفه . حتى ان عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الأموي استقبل المغني العباسي زرياب الذي قدم اليه من بلاط بني العباس في بغداد ، فأكرمه وأتاح له فتح باب صناعة الغناء في الأندلس ، والسيف يجري على رقاب الناس .
الا ان الأمويين كعادتهم في استغلال الناس ثم استعبادهم استعانوا بالقبائل اليمانية في إقامة دولتهم في الأندلس ، عندما اختلفوا مع القبائل المضرية وحدوث فتنة ابن ذي الجوشن ، ثم غدر الأمويون بالقبائل اليمانية مرة أخرى ، كما حدث منهم سابقاً مع حمير وباقي اليمانية في الشام ، فلجأ الأمويون اخيراً الى ذات ما لجأ اليه بنو العباس من نبذ العرب واتخاذ الموالي جيشا . وهذا ينشأ سلطان بقايا فكر الانقلابيين عادة عندما تبلغ القبائل الإعرابية مرحلة حضارية تخرج فيها الى دائرة الاستيعاب ، أي تنتقل من البداوة الى المدنية ، فيضطر هؤلاء السلاطين الذين يراهنون على الجهل في إقامة ملكهم الى نبذها والاستعانة بقوى ذات عقلية بدوية او اقل استيعاباً للعلوم الإسلامية من العقلية العربية المدنية ، او القوى التي تريد تعويض عقدة النقص امام النفوذ السياسي العربي .
وقد لعب عبد الرحمن الداخل على وتر الخلاف اليماني المضري في إقامة دولته الأموية ، وقد دعا في اول أمره لبني العباس ثم غدر واستقل بالملك . ولما عظم الخلاف بين اليمانية والمضرية استخدم الموالي لحماية ملكه . بعد ذبحه اغلب زعماء الطرفين الذين بايعوه على الملك او لم يبايعوه . وبعد ان وصل اليه أهله من بني امية وولاهم الأقاليم . وقد كانت هذه السياسة الدنيوية سبباً في انهيار ملك المسلمين في الأندلس وانحسار دعوة الإسلام في أوربا . اذ انشغل الناس بالقتل والصراع عن فكرة إيصال الإسلام للغير بالتي هي احسن ، حتى وصل الامر الى التشبه بملوك أوربا من حيث البذخ والجهل[6] .
ولما استفحل امر الموالي الترك في المشرق على بني العباس ، وقتل مؤنس المظفر خادمهم الخليفة المقتدر العباسي ، وكان سيف بني امية يحز رقاب المعارضين والمخالفين في الأندلس ، تلقّب أمراء بني امية في عهد عبد الرحمن الناصر بلقب منتحل هو ( امير المؤمنين ) . فكان هذا الامر الإعلان شبه الرسمي لانهيار الخلافة الإسلامية في الشرق , والتي ضعفت لاحقاً منذ ان قتل خوارزم شاه امراء الغور المستأمنين[7] اخر القادة الذين يملكون الوعي الكافي لصد خطر وثني الشرق ليبدأ الانهيار الثقافي ثم الأمني , وفي الغرب حيث يقود أصحاب التجربة الاموية الفاشلة مسبقا . حتى اغار الاكراد والجنود الاتراك على بستان الخليفة العباسي[8] . ولم يسقطها الوزير ابن العلقمي كما يدعي كتّاب السلطان .
فلا الشرق الكبير يملك أمره ، ولا الغرب يملك الحفاظ على كيان الامة ، والجميع منشغل بالدم والملذات . حتى ان الهدية المشهورة من الذهب والفضة والاثاث والأقمشة والعطور وغيرها التي جاءت للخليفة الأموي في الأندلس من وزرائه كانت من البذخ والمبالغة ما لم يسمع به احد ، وبما يكشف ان ملوك بني امية في الأندلس كانوا ملوك الدنيا المحض ، ومن المستهترين بالناس والنابذين لمطلق الدين والعرف ، وأنهم بلغوا من الطغيان ما حال بينهم وبين نصر الله[9] . حتى ان ملوك بني امية استعانوا بالبربر والموالي والاوربيين النصارى في صراعهم على الدنيا ، بعد ان نبذوا العرب الذين أرادوا الملك لما رأوْا ما عليه دنيا بني امية[10] .
ومن الواضح ان هؤلاء الملوك ومن سبقهم من سلف دنيوي لم يكونوا قادرين على إقناع الناس بالدِّين المحمدي ، لأنهم لم يكونوا أهله . ففي زمن عثمان بن عفان – وهو اقدم ملوك بني امية وأكثرهم شهرة وتقديراً عاميا – وفِي سنة ٢٧ هجرية بلغ من شر السيف العربي في افريقيا ان يعرض الافارقة على عبد الله بن ابي سرح قائد جيش عثمان ثلاثمائة قنطار من الذهب مقابل رجوعه والعرب الذين معه عن بلادهم ، ففعل ، بعد ان سفك دماءهم وسبى نساءهم وخرّب مدنهم ، ولو كان من أهل الدين ما فعل الامرين[11] . بينما نجد الافارقة والبربر يدخلون الدين الإسلامي بدعوة رجل واحد طريد هو الشريف ادريس لاحقا . لذا لا غرابة ان نجد ان خمس السبي من افريقيا في غزوة موسى بن نصير في زمن الوليد بن عبد الملك الأموي اكثر من سبعين ألفا , وان نجد بني امية يستخدمون يزيد بن ابي مسلم مولى الحجاج الثقفي وكاتبه ، والذي فرض الجزية على من اسلم من أهل الذمة في افريقيا كما فعل الحجاج مع من اسلم منهم في العراق من قبل ، حتى نهض الافارقة والبربر وقتلوه لشهر من ولايته ، واختاروا احد أبناء الأنصار مكانه وكتبوا بذلك للخليفة فغض الطرف عنهم . لكنّ الخليفة الأموي لم يطب نفساً بذلك ، فعزله وولى احد أعراب كلب ، ثم عزلوه وولوا ابن اخ حليفهم السابق ابي الأعور السلمي الذي كان قائد جيش معاوية في صفين . حتى ان حبيب بن ابي عبيدة بن عقبة بن نافع حين بلغ المغرب راح يبحث عن الذهب ومناجمه وعن السبي . بل بلغ من ضعة امرهم وسوء صنيعهم وغدرهم وقلة الدين ان امير الجيش الأموي بلخ بن بشر القشيري حين حاصره البربر في سبتة شمال المغرب لسوء صنيع جنده وسوء سيرته في افريقيا طلب الى حاكم الأندلس عبد الملك بن قطن ان يجتاز بجنده اليه ليأمن ، فاشترط عليهم الا يقيموا اكثر من السنة فأعطوه العهد على هذا ، فلما مرت السنة قتلوه وحكموا مكانه[12] .
ولما ولي بنو العباس بعد امية برزت ظاهرة مهمة لكنها غير منتجة بنحو جذري ، الا وهي صعود القبائل العراقية وغير الشامية في المراتب السياسية والعسكرية . مثل ال ابي صفرة من الازد ، ومثل بني اسد . وهي ظاهرة عامة رافقت انهيار دولة بني امية بصعود الفئات غير الأموية وغير العلوية في ذات الوقت ، أي الفئة الثالثة من الامة ، التي لا منهج فكري خاص لها . وقد سبق ان خرجت الفروع الناصبية والإعرابية من القبائل العراقية مع بني امية بعد مقتل الحسين بن علي ، فكان خروج الفروع غير الناصبية وغير العلوية ضرورياً مع بني العباس لتظل الفروع العلوية خالصة على ارض العراق . فنجد أمثال عمر بن حفص المهلبي وابي حازم حبيب بن حبيب المهلبي والجنيد بن بشار الأسدي عمالاً وأمراء لبني العباس على افريقيا . وكان من الطبيعي قيام القوى جميعاً من الفئة الفكرية الثالثة في الامة عند ضعف وبدء انهيار دولة بني امية ، فنهضت الخوارج في افريقيا ، لكنّ بني العباس ارهقوها بالمال تارة والقتل أخرى[13] .
وقد كان ال الأغلب ولاة افريقيا صنيعة بني العباس وجباة المال عنهم ، أخذوها بزيادة الجباية للرشيد العباسي أربعين الف دينار على مائة الف دينار من مصر . فكانوا كل همهم جمع المال . فاستُخدموا الرشى والخديعة والسيف ، حتى ملهم الناس وخرجوا عليهم عدة مرات ، فكانت ولايتهم احد اهم الأسباب في انشغال الناس عن الدين والعمران . فتسببوا في هلاك أبناء افريقيا ونشر الفتن فيها[14] . وبسبب سيرتهم في الفتن والمخالفة للدين وتركهم ما كانت عليه دعوة بني العباس من نصرة الإسلام انتقض عليهم العرب ، فاتخذوا الجنود من السودان كما هو متوقع من ولاة امر الدنيا ، فبلغوا الآلاف . حتى ان بعض أمراء بني الأغلب كانوا مصابين بأمراض نفسية جعلتهم يقتلون الناس ويسفكون الدماء عبثا ، فقتل احدهم ثلاثمائة خادم على منديل فقده . ولم يكن الخليفة العباسي يهتم سوى للمال الذي يبعثه ال الأغلب اليه باي طريق كانت . حتى ان امراءهم في الشرق مثل ياقوت في حربه ضد بني بويه كان يقتل المستأمنين اليه[15]. لهذا كله لم نجد أهل مسيني وريو وباليرمو على السواحل الأوربية قد دخلوا في الإسلام رغم ان بني الأغلب استباحوا هذه المدن وفتحوها ، لسببين ان الأوربيين شاهدوا غزاة يسفكون الدماء على المال والسلطة ، وان بني الأغلب ذاتهم انشغلوا بأخذ الجزية لا بالدعوة الى الإسلام . بل انهم كانوا يرهبون الناس على المال . وقد انشغلت دور الأمراء الأغالبة باللهو والملذات . بل بلغ بأحد أمرائهم وهو زيادة الله ان قتل أباه غيلة ، واستولى على الملك فغدر بمن قتل أباه بالاتفاق معه فقتلهم ، واستقدم اخوته وعمومته خديعة وقتلهم . فكيف هو في امر الناس العوام . وقد كانت المدن تمتنع على أمراء بني الأغلب وقادتهم في حربهم ضد دعوة ابي عبد الله الشيعي ممهد الدولة الفاطمية ، الذي افتتح مدن افريقيا بالصلح والأمان لأهلها فدخلوا في دعوته . حتى ان خلفاء الفاطميين كانوا يستبدلون ولاتهم اذا شكت الناس سيرتهم اليهم . بل الملفت ان المدن كانت تمتنع وتصد جيوش بني العباس القادمة من الشرق ، ثم تدخل في دعوة الفاطميين[16] . حتى ان جزيرة صقلية وما جاورها من المدن الأوربية لم تستقم الا لدولة الكلبيين من ولاة الفاطميين لقرن من الزمان حتى وقعت الفتنة بينهم واستعان عليهم بعض خصومهم بالروم فسقطت دولتهم التي كانت حافلة بمجالس العلم ، فورث الاوربيون منهم مدينة حضارية ، استمر فيها الأمراء بالاستعانة بالعرب في نظم امرهم ورفد مدارسهم ، حتى ان الشريف الإدريسي الف كتابه الجغرافي لأحد ملوكهم فضلاً عن باقي العلماء[17] .
ولما وجد العباسيون ان استقامة ملكهم لا تكون الا بخلع الدعوة العلوية والنكوص عن شعاراتهم في الرضا من ال محمد ، أي انهم لن يعيدوا الحق الى أهله كما أوهموا الناس الناقمة على بني امية ، صار من المتوقع منهم هو المتوقع من كل سلطان جائر تخلى عن القيم ، حيث يستعين بولاة الجور الذين كانوا اعواناً لمن قبله وليسوا يشكلون خطراً على ملكه ، فهؤلاء يعبدون المال ويخدمون كل باطل . فجعل المأمون احد خلفاء بني العباس ولاية اليمن لحفيد زياد بن ابيه[18] الذي ادعاه معاوية وقتل ولده الحسين حفيد النبي ، ليخلصوا تلك البلاد من دعاة الطالبيين . فجعلوا الامر الى محمد بن زياد بن عبيد الله بن زياد بن ابيه ، ثم استمر في ولده . فكانوا يجبون المال لبني العباس بما لم تره بلاد العرب حينها .
وقد خرج ال زياد من العراق بعد مقتل الحسين رغم انهم من النبط الموالي وليسوا من العرب وان بلادهم بين العراق وفارس ، لان العراق لفظهم كما لفظ غيرهم من خصوم العلويين . حتى غلبهم الموالي على امرهم في اخر دولتهم كما حدث مع العباسيين والفاطميين ، ثم انهارت دولة ال زياد على يد دعاة الفاطميين .
وقد قام بدعوة الفاطميين بنو يام من همدان اليمن ، فقلبوا الامر على بني طرف حكام تهامة ، واختطوا مدينة صنعاء عاصمة اليمن اليوم ، وجمعوا الامر للفاطميين ، واسقطوا دعوة بني العباس ، ووصل حكمهم الى عدن . فحاربهم ال زياد بالأحباش ، اذ جاءوا بأكثر من عشرين الفاً منهم الى اليمن ، اذ كان العرب اما مع الياميين الفاطميين او مع الزيدية ، بمعنى انهم كانوا يميلون للتشيّع عموما . وكان بنو نجاح موالي ال زياد يسيرون بسيرة بني امية في قطع الرؤوس وإرهاب النساء بها[19] .
ومن أفراخ ال زياد ظهر في اليمن الداعية علي بن مهدي الحميري ، وهو السلف الصحيح للوهابية السلفية النجدية لا احمد بن حَنْبَل . حيث رعته ام فاتك احد نساء ال نجاح من موالي ال زياد ، حتى انقلب على دولتهم وعلى من جاورهم ، خرج الى أعراب هَوازن من قيس عيلان وبث دعوته فيهم ، وقيس عيلان – وهي اخر من قاتل النبي – ذاتها كانت محط رحال الوهابية الحديثة ، ثم أخذ برأي الخوارج في تكفير علي وعثمان وتكفير سائر المسلمين وأخذ الجزية منهم ، وقتل شارب الخمر وتارك الصلاة بل والمتأخر عنها او عن خطبته . فاجتمع لجهله بالعقائد الصحيحة اصلان حمير وقيس عيلان .
وقد كان الملك في بدء دعوة الإسلام في اليمن للحميريين التبابعة قبل انتقال جلهم الى ارض الشام في نصرة معاوية بن ابي سفيان بقيادة ذي الكلاع الحميري . وكانت عاصمة ملكهم عاصمة اليمن اليوم صنعاء فاختطوا قصورها , وعمرها الشيعة الزيدية وجعلوها مركزاً حضرياً مهماً في العصر العباسي . وبعد انسلاخ حمير الى الشام غلبت همدان على مطلق اليمن وجنوب الحجاز ، ومنها اليوم بكيل وحاشد ، وقد غلب عليهم حينئذ التشيع ، وقد بقي عمود همدان في اليمن وحده واضحاً بعد تفرق عنوانها في بلاد المسلمين . تجاورها مذحج ، التي كان عمودها في العراق قائماً واضحا ، سوى قبيلة حرب منها التي استوطنت الحجاز الى اليوم ، وينتشر بين أبنائها التشيع . وقد غلب التشيع على مجمل اليمن الجنوبي حينها كما غلب على الحجاز ، لكن على نحو اقل عمقاً من تشيع أهل العراق ذوي الارتكاز الحضاري التاريخي ، فأهل حضرموت مثلاً كانوا يحكمون بأحكام علي وفاطمة ، لكنهم يبغضون علياً بسبب التحكيم . ولا غرابة فبلاد حضرموت كانت اقرب للتعرب منها للتمدن ، فقد كان سكان مهرة فيها طابعهم التوحش بسبب وحشية ظروف تلك البلاد الطبيعية ، فكانوا على رأي الاباضية الخوارج .
ومنه نعرف ان كل زيادة في البداوة والتعرب والابتعاد عن المركز الحضاري العراقي تعني زيادة في جهل قواعد وعقائد الإسلام الصحيحة ومن اهمها معرفة حق علي بن ابي طالب . أي ان تلك البلدان البعيدة كانت من الفئة الثالثة غير المتشكلة فكرياً بعد في بلاد المسلمين[20] . وجعل المعتمد العباسي يلعن احد الامراء , وهو عمرو بن الليث , ثم ولاه الشرطة وجعل اسمه على الاعلام ثم عزله وقد كان خاض ضده حروب , وهو ذات الشخص الذي انهى دولة العلويين بطبرستان[21] .
والعباسيون عموماً كانوا يولون المنتصرَ من الامراء المتقاتلين والمستهترين بدم الناس , كما كان ديدنهم في بلاد فارس وما جاورها[22] . كما كانوا يستعينون بمن ينشق عن خصومهم مهما كان مثل لشكري الذي كان مع الديلم رغم كونه قائداً فاشلا[23] . وقد رفض قادتهم في الشرق قبول طاعة عماد الدولة بن بويه طغياناً منهم , فحسن حاله فغلبهم على امرهم[24] .
[1] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٤٣
[2] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 410
[3] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 411 – 414
[4]لقد كان مجموع جباية الدولة العباسية في زمن المأمون 390855000 درهم فضة أي ما يعادل تقريباً 273 مليار دينار عراقي في عام 2020م وهو الصافي غير النفقات في البلدان وغير الغلات والمواد مثل العسل والقماش والحيوانات \ تاريخ التمدن الإسلامي 2 \ جرجي زيدان \ ص 60
[5] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 417 – 418
[6] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٥٣ – ١٦٤
[7] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 550
[8] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 644
[9] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٧٦ – ١٧٧
[10] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ١٨٩ – ١٩٢
[11] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٢٣٦
[12] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٢٣٩ – ٢٤٢
[13] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٢٤٦
[14] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٢٥٠ – ٢٥٢
[15]تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 566
[16] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٢٦٠ – ٢٦٥
[17] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٢٦٧ – ٢٦٩
[18] وهذا ما يناقض تولية المأمون الامام الرضا ولاية العهد , الامر الذي يكشف ان هذه الولاية كانت لمواجهة ثورات الطالبيين في كل مكان من الدولة , وهذا ما اعترف به ابن خلدون في تاريخه ص 38
[19] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٢٧٢ – ٢٧٩
[20] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص ٢٨١ – ٢٨٨
[21] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 427
[22] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 429 – 430
[23] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 561 الهامش
[24] تاريخ ابن خلدون / دار الفكر / ج ٤ / ص 565